العرب والصدمة الحضارية... متى نتخطاها?

العرب والصدمة الحضارية... متى نتخطاها?
        

           لماذا يبدو عالمنا العربي وكأنه يعيش في حالة عاجزة من رد الفعل? ولماذا خفتت جهود التحديث وصمتت أصوات المصلحين? 

           يثبت التاريخ العربي الحديث, خلال قرنين ماضيين, خطأ نظرية صدام الحضارات. فالحضارة العربية - الإسلامية, لم تشكّل كتلة صمّاء واحدة تجاه الحضارة الأوربية الغربية التي برزت قوتها مع نهاية القرن السابع عشر, على العكس من ذلك, فإن التجارب العربية الحديثة والمعاصرة تظهر لنا تفاعلها مع الحضارة الغربية فكراً وعلوماً وتقنيات, وقد أثر ذلك تأثيراً عميقاً في المجتمعات العربية. وأحدث حركة جدل وأفكار داخل المجتمعات العربية تدل على حيوية الأجيال التي تعاقبت في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين, هذه الحيوية التي نفتقدها منذ عقدين من الزمن.

           وإذ تفترض نظرية صدام الحضارات, أن كل حضارة هي جوهر قائم بذاته لا يتبدّل في عمقه وبالتالي لا يتغير. فإننا, ومن أجل فهم الجدليات التي عاشتها الشعوب والحضارات غير الأوربية - الغربية, نقترح العودة إلى مفهوم (الصدمة الحضارية), التي سببها الغرب الأوربي للعالم, وأثر ذلك, ليس على الصراع بين الغرب والعالم, وإنما على التجاذبات والصراعات داخل كل حضارة وكل مجتمع.

شمولية الحضارة الغربية

           ولابد من الاعتراف بأن الطابع الشامل للحضارة الغربية قد فرض نفسه على الحضارات الإنسانية جمعاء: من اليابان والصين إلى الهند وفارس وروسيا إلى الأتراك والعرب.

           ولعل روسيا هي أول الأقاليم التي تنبهت إلى الإنجازات التي تحققت في أوربا الغربية في نهاية القرن السابع عشر, بحكم أن جزءاً من روسيا يقع جغرافياً في القارة الأوربية. ومن المعروف أن بطرس الأكبر (1672-1725) قيصر روسيا, قام بزيارة لأوربا الغربية عام 1697-1698, للاطلاع على التقدم الذي أحرزته هذه الدول, وعند عودته شرع في سلسلة من التحديثات التي شملت تشكيل مجلس للشيوخ وإنشاء جيش مدرب, وإنشاء عاصمة عصرية لروسيا عام 1703 هي بطرسبورج. وقد سمحت له هذه التحديثات بأن يحقق انتصارات عسكرية باهرة وسعت حدود روسيا شمالاً وجنوباً, وأصبحت روسيا منذ أيام حكمه قوة دولية تقودها إدارة عصرية بالرغم من تأخر روسيا الفلاحية التي أراد بطرس الأكبر نقلها إلى العصر الحديث.

           إلا أن إصلاحات بطرس الأكبر, بالرغم من آثارها الإيجابية البارزة, واجهت معارضة عنيفة من القوى المحافظة والتقليدية وكذلك من الكنيسة الأرثوذكسية. وهو صراع عرفته الدول والأقاليم التي شهدت تجارب مماثلة للتجربة الروسية. وهو صراع يفهم على ضوء تطور المجتمعات التاريخي, فالتحديث يؤدي إلى تبدل في القوى النافذة داخل كل مجتمع, وبالتالي فإن هناك من يشعرون بأن التحديث يؤدي إلى خسارتهم لامتيازاتهم.

           وإذا كانت إصلاحات بطرس الأكبر قد أحدثت صدمة داخل روسيا أفضت إلى صراع داخل المجتمع الروسي, فإن الدولة العثمانية قد شهدت صدمة مزدوجة حين أثبتت أوربا قوتها مرتين: المرة الأولى حين استطاعت الجيوش الأوربية المتحالفة أن تسبب هزيمة كبيرة للعثمانيين عام 1699, مما أثبت فعالية الأسلحة الحديثة وفعالية التنظيم العسكري المبني على العلوم التكتيكية - حسب التعبير المستخدم في ذلك الوقت - والمرة الثانية حين ظهر للعثمانيين أن روسيا الضعيفة والمتأخرة أصلاً استطاعت أن تكتسب القوة بنقل ما أخذته عن أوربا, لا بل أن تحقق نصرا على الدولة العثمانية التي لا يُقهر جيشها حسب الاعتقاد الشائع آنذاك.

           كل ذلك دفع الطبقة الحاكمة في استانبول وعلى رأسها السلطان لاتخاذ قرار يقضي بإجراء إصلاحات عسكرية وإنشاء معاهد فنية لتأهيل الضباط, فضلا عن إدخال الطباعة. وعلى امتداد القرن الثامن عشر, وخلال عهود خمسة سلاطين, كانت محاولات الإصلاح تُجابه من قوى داخلية, وخصوصا قوات الانكشارية التي خشيت أن تؤدي الإصلاحات إلى فقدانها لامتيازاتها. وفي حين وقف عدد من أفراد الجهاز الديني ضد الإصلاحات, فإن عدداً آخر قد أيّدها ووقف إلى جانب الإدارة في إجراءاتها. وقد أدى اعتراض الإنكشاريين إلى ثورتين, الأولى عام 1730 انتهت بخلع السلطان أحمد الثالث وقتل وزيره المسئول عن الإصلاح, والثانية عام 1807 والتي أدت إلى تدمير كل الإنجازات التي تحققت في عهد السلطان سليم الثالث الذي قُتل في أعقاب هذه الثورة.

           لكن تيار الإصلاح لم يتوقف, بل على العكس من ذلك, فقد واصل مسيرته مع السلطان محمود الثاني, الذي تمكن عام  1826 من إزالة العقبة الممثلة بقوات الانكشارية, الأمر الذي قاد إلى انفتاح طريق الإصلاح وإجراء تحديثات شملت القضاء والتعليم والعسكرية وغير ذلك.

           وكانت الصدمة الغربية قوية في الإطار العربي, وخصوصاً في مصر, والتي تعرضت للاحتلال الغربي عام 1798, حين وصلها القائد الفرنسي بونابرت على رأس جيش كبير. وقد لقي الفرنسيون عند وصولهم مقاومة من الأهالي, وكان من الطبيعي أن يقاوم المصريون جيشا محتلا, وأن تثور القاهرة مرات ضد وجودهم. لكن ذلك لم يمنع من ملاحظة التنظيم الفرنسي والآلات العسكرية المتطورة التي يستخدمونها, والاختراعات التي يجرونها أمام عامة الناس, مع مراعاتهم للصحة العامة.. إلخ.

           وبخروج الفرنسيين اكتشف المصريون أن ثمة عالماً مختلفاً عن عالمهم, وأن الإمكانية قائمة للاستفادة من هذا العالم المتقدم. ومن المعروف أن العاهل المصري محمد علي باشا, بعد أن آلت إليه أمور مصر عام 1805, اندفع في تحديث الجيش والإدارة والتعليم والصناعة والزراعة. حتى أصبحت مصر في غضون سنوات قوة إقليمية جديرة بأن تحوّل المشرق إلى قوة حديثة وعصرية. ولكن محمد علي اضطر إلى الانكفاء عن سوريا التي قامت بها الثورات ضد حكم نجله إبراهيم باشا, وهي ثورات جاءت من قوى محافظة لا تريد التخلي عن امتيازاتها التقليدية, وقوى أخرى مدها الإنجليز والفرنسيون بالسلاح لتثور في وجه الحكم المصري. فقد خشيت القوى الأوربية من مصر قوية, تضاهي في قوتها العسكرية والاقتصادية الدول الأوربية نفسها, في زمن كان تعويض الفوارق بين الشرق والغرب مازال ممكنا والهوّة الحضارية يمكن ردمها. وإننا ننسى اليوم كيف أن عشرات من الفرنسيين الاشتراكيين اليائسين من السلطة المحافظة في فرنسا نفسها, قد جاءوا إلى مصر وقدموا خبراتهم في مجالات الصناعة والزراعة والبناء, واعتبروا أن ما يجري في مصر رائد في تجربته. بل إن اليابانيين في ستينيات القرن التاسع عشر أوفدوا بعثة إلى مصر للاستفادة من خبرة المحاكم المختلطة.

           لقد حققت مصر في منتصف القرن التاسع عشر نهضة بارزة, ومع ذلك فإن هذه التجربة قد تراجعت, فهل السبب يعود إلى أن العرب والمسلمين لا يريدون التحديث, كما توحي بعض التحليلات الراهنة, أم أن الأمر يعود إلى أسباب أخرى?

إخفاق تجربة التحديث

           إن إخفاق تجربة مصر يعود إلى جملتين من العوامل: الأولى تتعلق بالسرعة التي أنجزت بها إصلاحات شملت كل الميادين, دون أن تتولد القوى الاجتماعية التي تحمي هذه الإصلاحات. على العكس من ذلك فإن محمد علي باشا سحق كل معارضيه وغير معارضيه وحكم بالقسوة والعنف. كما أن التحديثات التي تهدف إلى نقل مجتمع من مرحلة إلى أخرى, لابد أن تترافق مع إصلاحات سياسية مناسبة تتيح للقوى الاجتماعية أن تشارك في التجربة وتعمل على حمايتها. والثانية: قرب مصر, بالمقارنة مع اليابان, من أوربا, وعدم قبول القوى الأوربية بقيام دولة قوية تقع عند أبرز نقطة جغرافية في العالم. فلم تنقض سوى سنوات قليلة حتى غرقت مصر في الديون. وحضر الإنجليز عام 1881 محتلين, فعرفت مصر تراجعاً في التعليم والإنتاج الزراعي والصناعي, وتفشت الأمراض وغرقت في الفقر.

           ومع ذلك فإن مصر التي رزحت تحت الاستعمار الإنجليزي شهدت بروز تيار فكري إصلاحي يدعو إلى التفكير العميق في الأسباب التي جعلت أوربا تتقدم, والأسباب التي أدت إلى تراجع المسلمين عن ازدهارهم السابق. وقد عرف هذا التيار باسم الإصلاحية-الإسلامية, لأنه أراد أن يُدخل إصلاحا في أحوال المسلمين وطرق تفكيرهم وتدريسهم ومواجهتهم للعالم الحديث. ولم يكن التيار الإصلاحي الإسلامي رافضا للحضارة الغربية, بل على العكس من ذلك. فخلاصة التفكير الإصلاحي تقول إن للمسلمين تاريخهم وعقيدتهم, فلابد لهم من خلال تراثهم الغني أن يكونوا قادرين على تمثل المنجزات الحضارية من أي جهة أتت, بل إعادة إنتاج العلم والمساهمة في بناء الحضارة.

نظرة مزدوجة

           لقد أظهر الغرب الأوربي تناقضا صارخا بين الأفكار التي يدعو إليها, والممارسة التي قام بها إزاء شعوب العالم. فبينما قامت فئات متنورة لدى كل الشعوب بهرتها أفكار الثورة الفرنسية القائمة على الحرية والمساواة والعدالة, والأفكار الليبرالية الإنجليزية المؤسسة على فصل السلطات وحرية الفرد واحترام خياراته, فإن الدول الأوربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم تظهر لشعوب العالم غير الوجه الاستعماري غير عابئة بغير النهب والسيطرة. إن حروب التحرر الوطني في الهند والصين وفي البلدان العربية وإفريقيا, كانت تجارب كبرى خاضتها شعوب العالم رافعة شعارات الغرب نفسه في الدعوة إلى الحرية والاستقلال متبنية أنظمة دستورية وبرلمانية قائمة على سيادة القانون.

           فليس ثمة شعب من شعوب العالم من أبناء الحضارات التاريخية لم يتفاعل مع الحضارة الغربية. وهذا التفاعل أدى إلى بعث الثقافات الوطنية التي منعت هذه الشعوب من الوقوع في التغريب أي فقدان الهوية الثقافية. بل إننا نلاحظ أن الثقافات الوطنية في كل مكان من العالم, كما هو حال الثقافة العربية, قد اكتسبت أبعادا حديثة من خلال تطوير أدوات التعبير الأدبي والفني والفكري.

           ولكن لماذا يبدو العالم العربي اليوم, وكأنه لايزال في مرحلة رد الفعل على الغرب, الذي لم يعد أوربياً فقط, بل صار أمريكيا أيضا. ولماذا شهدت السنوات العشرون الأخيرة تراجعاً في الدعوات التحديثية مفسحة في المجال أمام دعوات المحافظة والانكفاء على الذات بشكل لم يحدث ما يشبهه خلال القرنين الأخيرين من الزمن.

التحيّز الغربي

           قد يكون دعم الغرب لإسرائيل, والتحيز الغربي ضد الحقوق العربية عاملاً في استمرار رد الفعل أو استيقاظه, بعد أن تصالحنا مع الغرب إثر حروب الاستقلال. ولكن وبغض النظر عن هذا العامل المهم, الذي لا يفسر تحيز الغرب فقط, ولكنه يكشف أيضا عجز العرب عن الدفاع عن حقوقهم, فإن مشكلتنا مع الغرب كما كانت في البداية, حين جابهنا للمرة الأولى حضارة الغرب, فإنها عادت في يومنا الحاضر لتعبّر عن صراع قوى داخلي, لا شأن للغرب فيه.

           فبمقدار ما فشلت تجارب التحديث العربية, بقدر ما برز رد الفعل على الغرب, وكأننا لانزال في لحظة الصدمة الأولى, فالاندفاعة التحديثية التي شهدها العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية تراجعت في السبعينيات مفسحة في المجال أمام الدعوات المعادية للغرب والمطالبة بالانكفاء على الذات.

           وبذلك فقدنا القدرة على التمييز بين حضارة الغرب وعلومه وتقنياته - التي لا نتوقف عن استخدامها - وبين سياسات حكوماته أو بعضها.

           وهذا الخلط الذي لا يميز بين ثقافة الغرب وسياسته هو الوجه الآخر لنظرية صدام الحضارات, التي لا تميز التيارات المختلفة داخل كل حضارة, ولكنها تعتبرها كلاً موحداً.

           فهل يتوجب علينا الآن أن ندعو إلى العودة إلى فكر روّاد النهضة الأوائل أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي وعلي مبارك وسواهم الذين لم يبهرهم الغرب إلى درجة الاتباع, ولم تصعقهم صدمته الحضارية إلى درجة الانكفاء على الذات, فأدركوا أن الحضارة الغربية ومنجزاتها هي منجزات للإنسانية جمعاء لا يمكن تجاهلها أو الوقوف بوجهها, وهذه المنجزات لا تتوقف عند حدود الآلة والتقنيات, بل تتعدى إلى حرية الفرد ودولة القانون

 

خالد زيادة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات