الإنسان والبيئة

  الإنسان والبيئة
        

الأحافير سجلُّ تاريخ الحياة والأحياء

          الاسم الأعجمي للأحفورة, (Fossil), مشتق من الكلمة اللاتينية (fossillis), ومعناها: (اقتلع).

          إنها أثرٌ, أو بقايا لنبات أو حيوان كان يعيش منذ عشرة آلاف  سنة, على الأقل, وقد تكون الأحفورة مجرد جزء من جسم الكائن الحي القديم, سنّة, أو صدفة, أو هيكلا عظميا, وقد تكون جسم الكائن كاملا, تحول إلى أحفورة قبل أن تهاجمه البكتريا وتحلله. وقد تكون الأحفورة أثرا مطبوعا لمسار الكائن الحي, أو لأسلوب تحرّكه في بيئته الطبيعية.

          وتتعدد الأوساط التي تحتوي على الأحافير, من الصخور الرسوبية, إلى نسغ, أو إفرازات بعض أنواع الأشجار (العنبر), الذي يقبض - وهو في حالته السائلة - على أجسام كاملة, أو أجزاء من حشرات أو نباتات, ثم لا يلبث أن يتجمد, فيحبس ما بداخله إلى الأبد, مكونا أحفورة شفافة, لا تخلو من قيمة جمالية.

          أما الأحافير التي تحفظها الصخور الرسوبية, فإنها لكائنات كاملة, أو أجزاء منها, دفنت في الرسوبيات فور مماتها.

          وتأخذ الأحافير هيئة الكائن الحي الأصلي كاملا, أو جزءا منه, مع اختلاف واضح في اللون والكثافة والملمس, فلون الأحفورة يتحدد حسب المعادن التي تحل محل المادة الحية, كما أن وزن أحفورة لسمكة - على سبيل المثال - يكون أثقل من وزن السمكة وهي حية.

          ويشترط, لتكوين الأحفورة, أن يُطمر أو يُدفن الكائن الحي, عقب موته مباشرة, في الطمي أو الرمل.

          وأقدم الأحافير المعروفة لنا, حتى الآن, هي لأنواع من البكتريا, كانت موجودة منذ 5 ر3 بليون سنة!

          أما أقدم الأحافير الحيوانية, فهي لأنواع من اللافقاريات, عمرها 700 مليون سنة, وأقدم أحافير لحيوانات فقارية هي الأسماك, وقد تكونت منذ 500 مليون سنة.

          الطريف, أن التوصيف العلمي للأحافير لم يُعرف إلا حديثا, وكان بعض المشتغلين بالعلوم الطبيعية, حتى عام 1500م, يرون في الأحافير خوارق طبيعية, وقد اعتبرها بعضهم من صنع الشيطان!!

          فكيف تتحول قطعة من العظام, أو سنّة من فكّ حيوان, إلى أحفورة?

          البداية, أن تدفن في الرسوبيات (تغرق في الطين, أو تدفنها رمال نقلتها عاصفة شديدة).

          بمرور الوقت, تتراكم فوقها طبقات الرسوبيات, وعلى مر آلاف السنين, تطرأ على المكونات الكيماوية للجسم المدفون سلسلة من التغيرات.

          فمع تحلل نسيج العظم, يتسرب محلول من الأملاح المعدنية إلى النسيج المتحلل, ويرسّب به جانبا من هذه الأملاح, ويحدث تبادل بين مكونات النسيج الكيماوية والأملاح المعدنية الداخلة إليه, وبالإضافة إلى ذلك, فإن هذه الأملاح تملأ أي فراغات تنشأ في النسيج بفعل تحلله, ويكون الناتج عبارة عن نسخة حجرية من قطعة العظام الأصلية.

          أما الأحفورة المتكونة في (العنبر), فهي تظل محتفظة بتكوينها, دون تبدّل, فلا سبيل لأن تطرأ عليها تحولات كتلك التي تحدث في أحافير الصخور الرسوبية.

          وثمة بعض الحالات الخاصة, تنتج أحافير (كربونية), وفيها يحتفظ الكائن المتحفر بمحتوياته من عنصر الكربون فقط, ويفقد غيره من العناصر التي شاركت في بناء أنسجته الحية, مثل الأوكسجين والنيتروجين والهيدروجين.

          ويجري تقدير عمر الأحفورة بأسلوبين, الأول (نسبي), وفيه يقوم العلماء بدراسة الطبقات الرسوبية المتتابعة, فالأحفورة التي تؤخذ من الطبقة الأعلى تكون أحدث من تلك التي تقتلع من الطبقة التالية.. وهكذا.

          وكانت هذه الطريقة هي المتاحة في القرنين  18 و19, وكان العالم الجيولوجي الإنجليزي ويليام سميث, هو أول من استخدم هذه الطريقة لتقدير عمر الأحافير, وبالتالي تقدير عمر طبقات الأرض.

          أما الأسلوب الثاني, فيعتمد على الخواص الإشعاعية لبعض العناصر الداخلة في تكوين جسم الأحفورة, فالمعروف أن لبعض العناصر نظائر, والنظائر أشكال من العنصر غير مستقرة, تتحلل النواة فيها بصفة مستمرة, مثال: اليورانيوم 235 هو نظير, أو شكل غير مستقر من اليورانيوم, تحتوي نواته على 92 بروتونا و143 نيوتروناً.

          يظل هذا النظير يتحلل ذاتيا, فيفقد بروتونات ونيوترونات, حتى تستقر حالة النواة, ويكون ذلك عندما يصل عدد البروتونات إلى 82 وعدد النيوترونات إلى 125, أي يكون مجموعهما  207 .... يتكون - حينئذ - نظير جديد, مستقر هذه المرة, رقمه  207, وهو عنصر الرصاص.

          ويسمي علماء الكيمياء والجيولوجيا اليورانيوم -  235 (الأب), والرصاص -  207 (الابن).

          والصخور, بصفة عامة, والأحافير جزء منها, تحتوي على نسب ضئيلة جدا من نظائر العناصر, منها المستقر, ومنها غير المستقر (عناصر آباء وعناصر أبناء).

          وبقياس قيمة كل من الآباء والأبناء, وإيجاد النسبة بينهما, يمكن تقدير عمر الأحفورة, أو عمر طبقة صخرية في القشرة الأرضية, بدرجة عالية من الدقة.

          ومن النظائر التي يشيع استخدامها في قياس أعمار الصخور والأحافير, الكربون -, وهو نظير غير مستقر, يتحول - بالتحلل - إلى عنصر آخر مستقر (ابن), هو النيتروجين 14.

          وثمة اصطلاح يشيع استخدامه في الحديث عن العناصر أو النظائر المشعة, هو (فترة نصف العمر), وهي الفترة الزمنية التي يستغرقها العنصر الأب لتتحول نصف كميته إلى العنصر الابن. وفي حال الكربون - 14, فإن فترة نصف العمر هي 5568 سنة.

          ونظرا لقصر فترة نصف عمره, نسبيا, فإن الكربون - 14 لا يصلح لتقدير عمر الصخور والأحافير التي يتراوح عمرها بين 50 و60 ألف سنة.

سوء تغذية الأطفال

          وفقا لتقرير صدر أخيرا عن صندوق رعاية الطفولة التابع لهيئة الأمم المتحدة, فإن ثلث أطفال العالم الثالث يعانون سوء التغذية. إن هذه النسبة - الثلث - تعني 150 مليوناً من الأطفال, وبالرغم من ذلك, فإنها - النسبة - كما يقول التقرير, قد طرأ عليها تحسن, فقد كانت, حتى سنوات قليلة مضت, 32%, وقد نقصت الآن إلى  28 بالمائة. الجدير بالذكر, أن أطفال جنوب آسيا يمثلون النصف من هذا العدد, بينما أقل من ثلث أطفال العالم سيئي التغذية موجودون في جنوب الصحراء الأفريقية.

          ومن التعقيدات المرتبطة بهذه المشكلة, صعوبة رصد وتشخيص هذا المرض عند الأطفال, فقد أثبتت دراسات موسعة, أجريت على أطفال ينتمون لأكثر من مائة دولة, وتقل أعمارهم عن ثلاث سنوات, أن نقص الغذاء, ليس هو السبب الوحيد لمرض سوء التغذية, فالتعرض للأمراض المزمنة, وتكرار الإصابة بها, مع طول فترة الإصابة, هي - كلها - أسباب أساسية, تؤدي - بالضرورة - إلى سوء التغذية.

          لقد وُجد أن الغالبية العظمى من الأطفال الذين يعانون سوء التغذية, يقيمون في منازل عامرة بالغذاء, فإذا دققنا في أسباب الإصابة بهذا المرض, تبين لنا أنه ينتج عن ضعف في الشهية مصحوب بترجيع الطعام, وكذلك الإسهال الذي يفقد الجسم العديد من العناصر الغذائية المهمة. ومن جهة أخرى, فإن السعرات الحرارية, التي يحصل عليها الطفل من الطعام الذي يتناوله أثناء فترة المرض, يفقدها في مقاومة أعراض المرض. وتتبدى خطورة مرض سوء التغذية في أن غالبية الأطفال المصابين به يتعرضون له خلال السنوات الثلاث الأولى من العمر, وهي فترة حرجة وبالغة الأهمية بالنسبة لنمو المخ والجسم. هنا يتجسد البعد المأساوي لهذا المرض, وهو حرمان الطفل من فرصة كاملة لنموه العقلي, مما يؤثر في معدلات ذكائه فيما بعد.

          على أي حال, فثمة مؤشرات طيبة بهذا الصدد, فقد تمكنت 18 دولة من خفض معدلات سوء التغذية بين أطفالها, بنسبة تصل إلى 25%, ومن هذه الدول: الصين - المكسيك - إندونيسيا - بنجلاديش - فيتنام. كما أن أكثر من 70% من الدول النامية يستخدم الملح المتأين الذي يحتوي على نسبة من اليود اللازم لنمو المخ, مما يوفر الحماية لحوالي 12 مليون طفل في السنة, من تلف خلايا المخ نتيجة نقص اليود. كذلك, نجح إمداد الأطفال بفيتامين (أ) في إنقاذ حوالي 333 ألف طفل, سنويا, إلا أننا يجب ألا يغيب عن وعينا حقيقة أن الرضاعة الطبيعية هي مفتاح التغذية الجيدة للطفل, وتؤكد التقارير عودة الأمهات إلى الرضاعة الطبيعية, بمعدلات آخذة في الازدياد.

أطفال القمامة

          ثبت - حتى الآن - فشل جهود المؤسسات والمنظمات العالمية في خفض معدلات الفقر, في عالم يشهد عصرا من النمو الاقتصادي لم يسبق له مثيل. وكان الأطفال هم الشريحة من سكان العالم, في الدول الفقيرة والغنية على حد سواء, الأكثر تأثرا بوطأة الفقر. وتقول الأرقام, إن 40% من الأطفال في الدول النامية - أي حوالي 600 مليون طفل - عليهم أن يحاولوا العيش على أقل من دولار واحد في اليوم. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإدارات البيئية, في معظم تلك الدول, تعاني أوجه قصور عدة, تسمح بأن تتعرض أعداد كبيرة من الأطفال للأخطار البيئية والكوارث الطبيعية, فمن غير المستغرب - مع كل ذلك - أن تلجأ الأسر في الدول النامية إلى إلحاق أطفالها بأعمال قد لا تتناسب مع قدراتهم. وتقول الإحصاءات أيضا, إن  19% من أطفال هذه الدول يقومون بأعمال مختلفة (زراعية - خدمية - صناعات صغيرة), ولا يحصل 4% منهم على أجر!

          ومن بين الأعمال التي يقوم بها أطفال فقراء العالم, وتعرضهم لمخاطر بيئية وصحية, جمع القمامة. لقد أصبح اشتغال الأطفال بهذه الأعمال, في دول جنوب شرق آسيا, على سبيل المثال, ظاهرة عامة, فحسب تقارير صدرت عن مؤتمر عالمي حول التهديدات البيئية لصحة الطفل, فإن اشتغال الأطفال بجمع القمامة والمخلفات أمر شائع في بعض المجتمعات الآسيوية الفقيرة, مثل كمبوديا وفيتنام. فتحت وطأة الفقر والبؤس, تحث الأسر أطفالها على جمع أي مخلفات ومهملات يمكن إعادة استخدامها أو تدويرها, مثل: بطاريات السيارات المستهلكة, وعبوات المبيدات الحشرية الفارغة, ومصابيح النيون التالفة, ومخلفات المستشفيات والصيدليات, وغيرها, وهي - كلها - مخلفات شديدة الخطورة, تهدد صحة الأطفال عند قيامهم بجمعها ثم تصنيفها. وعلى سبيل المثال, ووفقا لتقارير فنية صادرة عن هيئات مهتمة بشئون البيئة تابعة للأمم المتحدة, تحتوي البطاريات المهملة على عنصر الزئبق ومادة ثنائي الفينايل عديدة التكلور, وهي مواد غاية في الخطورة على صحة الطفل.

          ولاتزال هذه المشكلة قائمة, بالرغم من التوصيات التي تقدمها المؤتمرات المحلية والعالمية, ومؤسسات البحث العلمي, بضرورة إيجاد السبل الآمنة للتخلص من مثل هذه المخلفات الخطرة, لتجنيب الأطفال شرور التعرض لها, وبالرغم من الدورات التدريبية والإرشادية التي تعقدها منظمة الصحة العالمية للتوعية بهذه المشكلة, وذلك لأن المشكلات الاقتصادية تفرض سطوتها وتأخذ الأسبقية, دائما, في برامج الدول الفقيرة والنامية, تاركة حماية البيئة في مؤخرة قائمة الأولويات.

عندما يصبح الدواءُ.... داءً!

          للمركب الكيميائي (القصدير ثلاثي البيوتايل) درجة عالية من السميّة, أعلت أسهمه بين المكونات الرئيسية لطائفة من الطلاءات المضادة لمجموعة من الكائنات البحرية, تلتصق بأبدان وبطون السفن, وبأسطح كل الأجسام الطافية أو شبه المغمورة في مياه البحر, ويطلق عليها - في مجموعها - اسم (الحشف البحري), (Marine Fouling).

          لا غرابة, إذن, أن يكون المنتج لهذه الطلاءات المضادة للحشف البحري هيئة بحرية, يهمها التخلص من إزعاج الحشف, والخسائر التي يلحقها بالوحدات البحرية العائمة. لقد كانت هذه الطلاءات المحتوية على مركّب القصدير ثلاثي البيوتايل من إنتاج مختبرات الأسطول الأمريكي, وقد سارعت وكالة حماية البيئة الأمريكية (إيبا) إلى دعم الأسطول, فأعطت طلاءاته المستحدثة شهادة صلاحية.

          غير أنه, وبالرغم من هذه القوة (الرسمية) التي تعضد القصدير ثلاثي البيوتايل, فإن الأصوات المعارضة لاستخدامه لم تلبث أن تعالت, تحذّر من مغبّة دخوله إلى الأنظمة البيئية البحرية, وخطورته البالغة على الكائنات الحية البحرية, وعلى الإنسان أيضا. والغريب في الأمر, أن من بين هذه الأصوات المعارضة, واحدا من علماء وكالة حماية البيئة الأمريكية, هو الدكتور (ميشيل تشامب), الذي يؤكد أن القصدير ثلاثي البيوتايل هو الأكثر سُميّة بين المركبات الكيميائية التي أدخلها الإنسان - بإرادته - إلى البيئة البحرية!

          وعلى الجانب الآخر, نسمع رأيا يناقض تماما رأي الدكتور (تشامب), وهو - طبعا - صادر من إحدى الشركات المنتجة للطلاءات, إذ صرّح أحد مسئوليها بأن هذا المركّب القصديري المتهم آمن بيئيا, فهو لا يدوم طويلا, إذ لا يلبث أن يتكسّر في مياه المحيط إلى مركّبات غير سامّة.

          فأيٌ من الجانبين يقول الصدق?!

          دعونا - أولاً - نتعرف على ذلك المركب القصديري محل الجدل. إن عنصر القصدير ليس بغريب علينا, فنحن نقابله كثيرا في حياتنا اليومية, وعلى سبيل المثال, فهو يبطّن العديد من عبوات المواد الغذائية, يحفظها لنا من الفساد. إنه - إذن - مفيد في صورته غير العضوية, ولكن الأمر يختلف تماما عند دخوله مركبات عضوية!

          ثم حدث أن التفتت مختبرات المبيدات لهذا العنصر, فأدخلته في مركبات عضوية, كان أحدها القصدير ثلاثي البيوتايل, الذي لم يلبث أن وجدت فيه صناعة الطلاءات البحرية ضالتها, فرحبت به ليحل محل أنواع قديمة من الطلاءات المستخدمة في البيئة البحرية, لمقاومة التآكل, ولتدمير كائنات الحشف البحري. وكانت الطلاءات القديمة تحتوي على مركبات النحاس, التي ضجّت منها شركات الملاحة, إذ إن لعنصر النحاس تأثيره التآكلي على أجسام السفن المصنوعة من الصلب أو الألومنيوم. وكانت تلك الشركات تضطر إلى استخدام طلاءات أخرى - تمهيدية - لتعمل كبطانة للطلاءات المضادة للحشف, والمكونة من مركبات نحاسية, وذلك لحماية بطون السفن من التآكل بفعل النحاس.

          تقول الحقائق الكيميائية إن القصدير عنصر يغوي المجموعات العضوية لترتبط به, فتتعدد أنواع المركّبات القصديرية العضوية, تبعا للعدد من هذه المجموعات المرتبط بذرة واحدة من عنصر القصدير, وقد يصل عدد هذه المركبات إلى 30 مركبا قصديريا عضويا, يستخدم 9 منها - فقط - في صناعة الطلاءات المضادة للحشف, ومن بينها مركّبنا هذا, المثير للجدل, القصدير ثلاثي البيوتايل, وفيه ترتبط ثلاث مجموعات عضوية, من شق البيوتايل - بذرة قصدير واحدة.

          وتتركّز خطورة مركبات القصدير العضوية في قابليتها للذوبان في الدهون, ومن ثم, فإن لديها القدرة على اختراق جدران الخلايا الحية. وهذه هي الخاصية التي تعطي الطلاءات القصديرية المضادة للحشف فعاليتها الفائقة في إهلاك تلك المجموعة من الكائنات البحرية, أساس المشكلة: الحشف البحري.

          الجدير بالذكر أن بداية التعرف على المركبات القصديرية العضوية كمبيدات, كانت على أيدي الهولنديين, في الخمسينيات من القرن العشرين, حيث استخدموها في مقاومة الذباب والصراصير ويرقات البعوض, وكمبيدات لآفات الخشب, ثم كمبيدات فطرية, لمقاومة الأمراض التي تصيب بعض المحاصيل الاستوائية المهمة, مثل البندق والبن والكاكاو. وثمة معلومات مثيرة للاستغراب, وتحتاج إلى تدقيق وتحقق ومراجعة, تفيد بأن بعض مركبات القصدير العضوية تستخدم - أو كانت تستخدم حتى سنوات قليلة مضت - لتنقية المياه, في بعض دول العالم الثالث!

          هذا جانب من سيرة القصدير ومركباته العضوية, فماذا عن الحشف?

          إنه تجمّع (منظّم) لعدد غير قليل من الكائنات البحرية, نباتية وحيوانية (يصل, في بعض التقديرات, إلى 400 نوع من الكائنات الحية, أبرزها وأكثرها انتشارا الأطومات والديدان الأنبوبية عديدة الأشواك). يحلو لهذه الكائنات, أو بالأحرى, هي مجبرة على, أن تستقر فوق أسطح الأجسام الطافية, عندما تنهي أطوارها الأولى - السابحة - من دورة الحياة, فتبحث عن الأجسام المغمورة, أو شبه المغمورة, في المياه البحرية, وتتشبث بها, متحولة إلى الأطوار اليافعة.

          إن هذه الكائنات تحتل مواقعها في تتابع ثابت عجيب, كما أنها لا تكف عن النمو في حجم كتلتها, فهي لا تكتفي بالمقيمين, بل تسمح لقادمين جدد بالاستيطان, ومشاركتها السكن, في الحيّز المحدود, فتتراكب الكائنات الحشفية فوق بعضها, ويدهس الحديث منها القديم, حتى تصل هذه (المستعمرة) إلى درجة عالية من الكثافة, تجعل منها عبئا على (حمولة) السفينة المصابة بالحشف, فيؤدي ذلك إلى تقليل سرعتها, واستهلاك مزيد من الوقود, ويُترجم ذلك إلى زيادة في تكلفة الرحلات والمهام البحرية, وهذا - بدوره - يعني خسائر متزايدة, تتحملها شركات الملاحة والأساطيل البحرية, التي يفقد بعض وحداتها - إضافة إلى خسائر الاستهلاك الزائد للوقود - ميزة (الخفّة), التي تتيح له قدرة أكبر على الحركة السريعة والمناورة, نتيجة الوزن الإضافي من الحشف الملتصق ببطون تلك الوحدات. وثمة من يعتقدون بأن الحشف كان أحد الأسباب الأساسية في هزيمة أسطول نابليون, أمام الأسطول الإنجليزي, في موقعه (خليج أبي قير) الشهيرة بالإسكندرية, التي جرت في صيف العام 1798, إذ كان الإنجليز قد أمّنوا سفنهم ضد الحشف, فتفوقوا في المناورة على السفن الفرنسية, التي كانت مثقلة بكتل هائلة من كائنات الحشف, فكانت فريسة سهلة لمدافع أميرال البحر الإنجليزي (نيلسون)!

          لقد أعلنت إحدى شركات الملاحة الأوربية أن سفنها العاملة على خطوطها الاعتيادية يزداد استهلاكها للوقود بنسبة 40% - في السنة - إذا لم تتخذ إجراءات الوقاية من الحشف البحري, وتخضع لعمليات التخلص منه.

          إن هجوم الحشف يتم, كما أسلفنا, في تتابع محكم, لا يتبدّل في الأحوال الاعتيادية, إنه يبدأ بالكائنات البكتيرية, وأنواع من الهائمات النباتية وحيدة الخلية, تلتصق بأسطح الأجسام الطافية وشبه المغمورة, كبطن سفينة, مثلا, فتكوّن طبقة لزجة, غير مرئية, لا يزيد سمكها عن أربعة أجزاء من ألف جزء من البوصة الواحدة. ولك أن تتعجب حين تعلم أن هذه الطبقة اللزجة, وحدها, على ضآلتها, وإذا تجاهلنا ما يليها من طبقات أثقل وأشد كثافة من النمو الحشفي, يمكن أن تكلف ناقلة بترول عملاقة مليون دولار في السنة, كخسارة ناجمة عن هذه الحمولة الإرغامية!

          وهكذا, فإن ثمّة إجماعاً على خطورة هذه الظاهرة البيولوجية البحرية: الحشف, ولكن, هل تكون مقاومة الداء بدواء أشد خطورة من الداء ذاته?! لقد جاءت شواهد من مواقع متعددة تشير إلى أن مركبات القصدير العضوية, الداخلة في تصنيع الطلاءات البحرية, لها أضرارها... ففي فرنسا, تبين أن لهذه المركبات آثارا سيئة على مصايد ومزارع المحار الفرنسية, إذ ألحقت تشوهات واضحة في هيكل المحار, وقللت من عدد البيض, كما وقعت عدة حوادث (نفوق) للمحار, فماتت أعداد كبيرة منه. وقد اتخذت الحكومة الفرنسية إجراء حازما, بمنع استخدام طلاءات القصدير بالنسبة للوحدات البحرية التي يقل طولها عن 80 قدما, فتحسنت أحوال المحار في المصايد والمزارع البحرية الفرنسية!

          وفي (ألاسكا) استخدم القائمون على إدارة مزارع السالمون أقفاص تربية مغطاة بنوع من طلاءات القصدير, فماتت أعداد كبيرة من الأسماك, بعد أن تسلل القصدير ثلاثي البيوتايل إلى أنسجتها وأجهزتها الحيوية. وقد تسربت كميات من أسماك هذه المزارع إلى الأسواق, وشكلت تهديدا لصحة المستهلكين, وأثارت الرأي العام.

          على أي حال, لقد حسمت القضية, أخيرا... لغير صالح طلاءات القصدير ثلاثي البيوتايل, فقد أصدرت لجنة حماية البيئة البحرية, المنبثقة عن المنظمة البحرية الدولية (I.M.O.), عدة تشريعات لحماية الأنظمة البيئية في بحار ومحيطات العالم من التلوث بالمواد السامة الداخلة في تركيب الطلاءات البحرية, تحظر استخدام طلاءات القصدير ثلاثي البيوتايل ابتداء من هذا الشهر يناير 2003, كما تقرر عدم السماح بمرور أي سفينة عابرة للقارات بأي ميناء بحري, ما لم تكن تحمل شهادة تفيد بخلو الطلاءات التي تغطي بدن السفينة من المواد السامة الملوثة للبيئة البحرية, وتم إرجاء تنفيذ الإجراء الأخير إلى أول يناير 2008

 

رجب سعد السيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




حفرية رخويات حلزونية





حفرية لمخروط صنوبري





سوء تغذية الأطفال





مستودعات القمامة في بعض دول جنوب شرق اسيا يعمل بها الاطفال ويتعرضون لاخطار عدد من الملوثات السامة





رسم مجسم يوضح التتابع والتراتب في تكوين ظاهرة الحشف البحري





تجمع كثيف للاطومات في سطح مغطى بالحشف





حيوان الأطوم





سطح من الديدان الانبوبية تبرز زوائدها