(صبغة الله) ولغة السينما الإيرانية

(صبغة الله) ولغة السينما الإيرانية
        

          مذاق الكرز هو مذاق السينما الإيرانية. جديد وطازج وغير مألوف للعين. لقد أثبتت هذه السينما أنها لا تحتاج

          إلى أي من توابل الإثارة.. وأن حريتها الحقيقية هي في صدقها. 

          هذه سينما قومية, تشارك سينماتين قوميتين أخريين, شرق أوسطتين, هما السينما التركية والسينما المصرية. الخلفيات الثقافية والوضعية التاريخية نفسها, وحتى نوعية المشكلات الاجتماعية والسياسية والصراعات الأيديولوجية بصلة من القرابة وثيقة.

          سينما قومية قريبة جارة تشكل الضلع الثالث في مثلث السينمات القومية الكبرى في المنطقة.

          ولكن هذه السينما تميزت عن شقيقتيها, بأنها استطاعت, برغم الظروف الموضوعية التي تمر بها وتتشابه فيها مع ظروف الشقيقتين في كثير أو قليل, استطاعت أن تطلق وتفجر طاقات ذاتية عامرة بالمواهب الفردية التي تعلمت كيف تنظر إلى الداخل, داخل الذات الجماعية للأمة, بدلا من الانشغال بتبديد الطاقات واستهلاكها في الصراعات الأيديولوجية التي أثمرت أعمالا دعائية خاوية تخلو من أثر للفن.

          عندما نظروا إلى الداخل, اكتشفت صفوة فناني هذه السينما مكنونات زاخرة من الجمال الساحر في موروث الأمة في علاقته بالفرد.

          وكلما غاص هؤلاء في هذه الموروثات, أظهرت مواهبهم تميزا فرديا فيما عرف بالأسلوب الخاص. فالأسلوب هو الرجل في عبارة الكاتب أوسكار وايلد, ومعناها أن الفنان الحق يبدع أسلوبه الخاص.

          وهكذا اكتشف هؤلاء الفنانون مقدار الحرية التي يتمتعون بها في هذا العالم الداخلي الواسع فأبدعوا. وخلال العقد الأخير تقريبا وصلت نسبة تقدر بنحو 15% من هذه السينما, وهي النسبة الدولية لأفلام الفن التي تعبر عن الثقافة القومية في أي سينما دولية (بما في ذلك السينما الأمريكية التي تنتج حوالي 400 فيلم روائي سنويا, 15% منها يقدرها النقاد الجادون, وتحترمها المهرجانات السينمائية الرفيعة, وتهرول في اتجاهها الجوائز القيمة وأولاها الأوسكار), وصلت صفوة إنتاج هذه السينما بصدقها وحرارتها وبساطتها المثيرة إلى شاشات العالم المفتوح, فهزت قلوب مشاهديه من الأعماق, فمنحها الجوائز وفتح لها صالات العرض في كبريات المدن ولاحقتها شركات التوزيع الكبرى ترجو توزيع أفلامها, وكتب كبار النقاد قصائد مديح على نحو غير مسبوق في أفضل إنجازات هذه السينما, القريبة الجارة.. الحارة الصادقة.

ماذا هناك غير السينما الإيرانية?

حمى التقدير

          بين يدي العدد السنوي الأخير من مجلة (تايم) الأمريكية التي توزع قرابة ثمانية ملايين نسخة مطبوعة وإلكترونية أسبوعيا, وفيها مقال عن حصاد العام 2001 السينمائي بقلم ناقدها الكبير ريتشارد كورليس يحدد فيه أفضل عشرة أفلام عرضت في الولايات المتحدة عام 2001. وضع في مقدمتها في صدر اختياراته من بين كل الأفلام أمريكية وغير أمريكية, فيلما إيرانيا?

          من كان يصدّق ذلك قبل عشرة أعوام ? من كان يصدق أن ناقدا كبيرا ذا قلم محترم في أمريكا وخارجها هو ريتشارد كورليس سيخصص أربع صفحات كاملة من أكثر المطبوعات الأمريكية احتراما وسعة انتشار يملؤها بقصائد غزل في فيلم جعفر باناهي (البالون الأبيض) الذي فاز, ومن كان يصدق ذلك أيضا, بأوسكار أحسن فيلم أجنبي?

          هذا في الوقت الذي اكتفى فيه كورليس في العدد نفسه بعمود واحد نقد لثلاثة أفلام أمريكية!!

          من كان يصدق أن سلسلة النجاح (الذي لا يصدق..), ستتدفق وتكر خلال التسعينيات على نحو مذهل لأهل الغرب وللمراقبين من أهل الشرق معا.

          ناقد (لوس أنجلوس تايمز) كوين توماس وصف هذا التدفق باعتباره تعبيرا عن حقيقة مفادها أن السينما الإيرانية هي اليوم أكثر سينمات العالم حيوية وإثارة للاهتمام.

          لم لا.. وعباس كياروستامي يفوز بالسعفة الذهبية (الجائزة الكبرى) في مهرجان كان السينمائي عام 1997 عن فيلمه (مذاق الكرز), في الوقت الذي فاز فيه جعفرباناهي بجائزة الأسد الذهبي (الجائزة الكبرى) في مهرجان فينيسيا عن فيلم (الدائرة).. هذا بينما فازت المخرجة مرضية مشكيني بجائزة سينما المستقبل وجائزة اليونيسيف عام 2000 عن فيلمها (يوم أصبحت امرأة).. وهناك مخرجة أخرى توجت بجائزة في مهرجان كان عن فيلمها (السبورة) قبل أن تختار عضوا في لجنة تحكيم ثاني مهرجانات العالم السينمائية (فينيسيا) لكي تتوجه بعد المهرجان إلى مهرجان لندن لتتسلم جائزته الرئيسية عن فيلمها (التفاحة), تلك المخرجة الشابة بنت العشرين عاما, سميرة مخملباف, ابنه المخرج محسن مخملباف الذي اختار ريتشارد كورليس فيلمه الأخير (قندهار) في المرتبة الأولى لأفضل عشرة أفلام عرضت في الولايات المتحدة الأمريكية في العام الماضي, واصفا (قندهار) بأنه يتمتع بروعة بصرية وانفعالية عظيمة) وبأنه ضربة معلم في الصحافة السينمائية وفي كتابة الشعر الذي يمزق نياط القلوب معا في آن واحد!

          بوسعي أن أعدد قوائم من جوائز وشهادات تقدير ومناسبات تكريم لإنجازات السينما الإيرانية الجديدة, بل وأعدد عدد المرات التي دخلت فيها الأفلام الإيرانية تصفيات الأفلام الخمسة الأخيرة والتي يختار منها فيلم واحد للحصول على أعلى جائزة سينمائية دولية وهي الأوسكار.

          ومع أنه أمر لا يصدق للوهلة الأولى خاصة لسينما شرق أوسطية, ولأن ضلعي المثلث الآخرين وهما السينما المصرية والسينما التركية لم يصلا أبدا إلى هذه المكانة, فإن دراسة فاحصة لأعظم أفلام هذه السينما ستبين أسبابا موضوعية لتفسير ما عرف في التسعينيات باسم (معجزة السينما الإيرانية).

          جوائز.. جوائز.. جوائز.. جوائز من جمعيات نقاد بوسطن ولندن وسان دييجو والإنترنت والفنان الصغير وجوائز خاصة من مهرجان جيخون وتتويج بالجائزة الكبرى من مهرجان مونتريال السينمائي, فاز بها فيلم مجيد مجيدي الممتاز (صبغة الله), والذي عرض خلال عامي 1999 و2000.

صبغة الله

          عنوان الفيلم (صبغة الله), ذو رنين ديني مباشر من الآية 138 من سورة البقرة في القرآن الكريم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون .

          هذا الإحساس الديني جعل الناقد روجر إيبرت يعلق على افتتاح الفيلم بالبسملة وعلى رسالة الفيلم بوجه عام قائلا انه (ما من شك في أن المخرج مجيد مجيدي كاتب ومخرج (صبغة الله) (والعنوان الأمريكي هو (لون الجنة)) يشعر في أعماقه بأن عمله هو تقرب صادق إلى الله, على عكس كثير مما عرف (بالفن الديني) الذي لا يستهدف سوى الدعاية لوجهة نظر واحدة فوق وجهات النظر الأخرى. إن فيلمه يتطلع إلى أعلى وليس إلى ذات اليمين وذات اليسار).

          وفي اتجاه مماثل لما كتبـــــه إيبــرت علـــق أحد نقاد الـ(نيويورك تايمز) وهو ستيفن هولدن في 25 سبتمبر عام 1999 يقول: (بمقدار ما يستطيع أي فيلم في درجة الوضوح, أن يصل إليه, فإن  الفيلم, هو فيلم ذو رسالة دينية, ولكنه يهبنا خبرة عميقة الرؤية في تأمل العالم الطبيعي..), وينتهي ستيفن إلى القول (إن فيلم (صبغة الله) جوهرة أخرى تأتي إلينا من نبع واحد من أكثر السينمات القومية في العالم حيوية).

          أعتقد أن النقاد الغربيين قد عثروا في السينما الإيرانية الجديدة على معين روحي مفقود في سينما الغرب, ومن هنا احتفلوا بالرسائل الدينية والروحانية المبطنة في أفلام هذه السينما.

          كناقد شرق أوسطي الثقافة والتكوين, ومتصل بموروث شعوب الشرق الأوسط, فإنني أشارك النقاد الغربيين انبهارهم بالكيفية (وكما أردد دائما فإن (كيف) هي الفن وليس بالضرورة (ماذا) وهي الرسالة المضمنة في العمل الفني), أشاركهم انبهارهم بالكيفية التي تصنع بها الأفلام الإيرانية الجديدة التي تتميز ببساطة معجزة, لكنها خادعة لأنها تبدو بسيطة سهلة التنفيذ. غير أن الحقيقة هي أن بساطتها مركبة على نحو يوهم المشاهد والمتذوق معا بأنها أفلام بسيطة التشكيل سهلة الوصول إلى القلوب وهذا هو موطن جاذبيتها الآسرة.

طلاق الأيديولوجية

          في عام 1982 فاز الفيلم التركي (الطريق) للمخرج يلماز جونيه بالجائزة الكبرى (السعفة الذهبية) في مهرجان كان السينمائي, بعد سبع سنوات من فوز الفيلم الشرق أوسطي الوحيد بالجائزة نفسها, وهو فيلم الأخضر حامينا (وقائع سنين الجمر), وكان نجاح (الطريق) التركي ببساطته المركبة أيضا عائدا إلى ظروف أيديولوجية وسياسية أسهمت في دفع هذا النجاح. ولكنه عندما عرض في الولايات المتحدة لم يصب سوى نجاح قليل تمثل في توزيع محدود حقق ربع مليون دولار فقط.

          ولكن هذا التاريخ 1982, بدا وكأنه إيذان بنهاية عصر الأفلام التي تعيش في أطر الصراعات الأيديولوجية.

          في عام 1983 أعلن عن تأسيس مؤسسة الفارابي للسينما في طهران لتعمل على استثمار البنية التحتية السينمائية القوية في إيران من معامل واستوديوهات بلغ عددها 14 استوديو مجهزا, بالإضافة إلى العمل على إعادة عدد دور العرض إلى ما كان عليه منتصف السبعينيات عندما كان يصل إلى 600 دار عرض يرتادها أكثر من 100 مليون مشاهد سنويا.

          غير أن أكثر ما وجهت له المؤسسة الجديدة اهتمامها هو فتح المجال أمام السينمائيين لاكتشاف عمق مواهبهم في التعامل مع قصص وحكايات تعبّر عن ثقافة الشعب بعيدا عن الأيديولوجيات وصراعاتها بين المحافظين والمعتدلين والتي أدت بمخرجين مبدعين من أمثال دارويش مهرجوي وشهيد سالس وبارفيز ومسعود كيميائي إلى الصمت أو الهجرة بعد فورة دامت عشر سنوات من 1966 وحتى 1976. بينما توارى محسن مخملباف صاحب (قندهار) في سجون الشاه لخمسة أعوام.

          وفي خط مواز لنهضة السينما الإيرانية نهضت سينما قومية أخرى هي السينما الصينية منذ حوالي منتصف الثمانينيات بعد تحررها من الوقوع في دوامة الصراعات الأيديولوجية الطويلة فأثمرت أفلاما رائعة عندما اقتربت من التصوير الصادق للحكايات البسيطة في الحياة اليومية للشعب تماما مثلما فعلت سينمات في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي في ظلال المنع والقمع, فقام فنانوها بتطليق الأيديولوجية وأنتجوا أعمالا وصلت إلى جماهير في العالم, متحررة من سينما التسييس الفارغة من الموهبة والخالية من الفن.. وهي الآفة التي عجلت بالقضاء على سينمات قومية شرق أوسطية أخرى خلال العقود الأربعة الأخيرة.

          وهذا هو سر معجزة السينما الإيرانية التي تحققت في العقد الأخير من عمرها ذات المائة عام (منذ صنع ميرزا إبراهيم خان أفلامه القصيرة في عام 1900, ومنذ أنتج أول فيلم إيراني روائي طويل وهو (عاصفة على الحياة) عام 1947).

          السر الجوهري في هذه المعجزة يكمن في تقديري, في طلاق الأيديولوجيات وصراعاتها وفي الإخلاص للفن المعبر عن الشعب. وبصراحة إذا كان طلاق الصراع الأيديولوجي يمنحنا كل هذا الجمال, فأنا معه.. ولسان حالي وحال نقاد الغرب المبهورين يقول: ما حاجتنا إلى أفلام قضايا اليمين أو اليسار إذا كانت خالية من الفن.. ومن الجمال?

الإقبال يعني القبول

          حقق فيلم (صبغة الله) حوالي مليوني دولار دخلا من العروض السينمائية وحدها في حوالي 30 دار عرض فقط في الولايات المتحدة عام 2000, وبالنظر إلى ميزانيته المتواضعة فإن هذا يعد رقما غير مسبوق لأي سينما شرق أوسطية ولكثير من السينمات القومية الأخرى (ربما باستثناء الفيلم التايواني الفائز بحفنة أوسكارات في العام 2000(التنين, والنمر الرابض) للمخرج إنج لي).

          وهذه خطوة إلى الأمام. فالفيلم السابق على (صبغة الله) , وهو (أطفال السماء) لمجيد مجيدي.. رشح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي وحقق أرقاما في الداخل الأمريكي تقارب هذا الرقم. كما أثار فيلمه الأول (بادوك) اهتماما ملحوظا في مهرجان كان عام 1992, وافتتح السوق الأمريكية.

          وإذا كان فيلم (صبغة الله) قد حقق ذلك الرقم فإن هذا يعني أن عددا لا بأس به من المشاهدين الأمريكيين قد شاهدوا الفيلم (وأنا أحد هؤلاء المشاهدين كمثال), وهم الذين كانوا حتى أعوام قلائل يعزفون عن مشاهدة أي فيلم أجنبي حتى وإن عرض بترجمة مطبوعة, أو حتى مدبلجا باللهجة الأمريكية, وأختار هنا نموذجا لمشاهدة من هؤلاء اسمها سيسلي ديكستر من مدينة نيويورك نشرت رسالة على الإنترنت في 9 مارس عام 2000 تقول فيها:

          (ابذلوا أقصى جهد لمشاهدة هذا الفليم.. إنني أحثكم على مشاهدته, فالتمثيل رائع وطبيعي إلى حد مذهل ولا أذكر أنني شاهدت طفلا ممثلا بهذا الامتياز الذي أدى به محمد دوره ولم يحدث للحظة واحدة أن اعترض تمثيله مجرى القصة.. التصوير يخطف الأنفاس, وأنا واثقة من أن من لم يذهب إلى إيران من قبل سيفاجأ بكل هذا الجمال. الفيلم محمل بكثير من الرمزية من وجهة نظر معينة وهو ما يجعله مثيرا للاهتمام, وبالرغم من أنه يحمل رسالة دينية من منظور إسلامي, فإنه بوسعكم أن تجدوا في هذا الفيلم (صبغتكم) الروحية الخاصة بكم, أو ربما تكتشفون أنكم في حاجة ماسة إلى صبغة روحية إذا كان يعنيكم الأمر إنني نيويوركية نموذجية, شكاكة وساخرة ومتخمة بكل شيء, ولكنني مع ابنتي الشابة التي لم تصبها التخمة بعد, عشقنا الفيلم ونأمل أن نراه مرة أخرى, لذا أهيب بكم أن تشاهدوه لكي يرتفع معدل نجاحه التجاري وبهذا نحصل على أفلام أخرى مثله للعرض هنا).

تقنين الانفعالات

          بعد أن شاهدت الفيلم للمرة الأولى تساءلت: هل أحس أحد بأن هناك ممثلين في هذا الفليم, أعني هل لاحظ أحد أن هناك من حاول أن يمثل في هذا الفيلم?

          قد يبدو هؤلاء الممثلون فنانين تلقائيين, طبيعيين غير محترفين, ولكن هذا هو الظاهر, الظاهر فقط, ولكن حقيقة الأمر في المعيار النقدي السليم هي أن هؤلاء ممثلون محترفون إلى أقصى الحدود, وخاصة محسن رمضاني, الممثل الطفل الكفيف ذا الأعوام الثمانية والأب حسين محجوب.

          ما الاحتراف في التمثيل?

          هذا أمر بسيط لذوي الموهبة, ولكننا نستطيع أن نميز به بين الممثل الجيد والممثل الرديء.

          الخلاصة أن أداء الممثل الرديء هو إطلاق للانفعالات وعرضها بأوضح ما يكون, بينما يتمثل فن الممثل الجيد في التحكم في الانفعالات بحيث تعرضها لغة الجسد بما يتناسب مع ماهو مطلوب تماما, لا أزيد ولا أقل.

          وهكذا, ففي فيلم من السهل تماما أن يقع في هوة الميلودراما, أي المبالغات الانفعالية السهلة في الأداء, فإن تمثيل الطفل محسن رمضاني يخلو كلية من (المكر) والترتيب: فهو عندما يبكي في مشهد يمثل ذروة من ذرى الفيلم, معلنا تصوره للعالم وهو في لحظة إحباط, أمام شاب كفيف مثله, يعاني مثلما يعاني, فإن الأداء لا يسقط في الميلودراما التي تشتهر بها سينمات شرق أوسطية وآسيوية, في مبالغات تستهدف تقطيع نياط القلوب, باختصار, فإن ما نراه هنا ليس تمثيلا, بل عرضا لحزن فطري, خام, خرج من القلب والجوارح ليصل إلى قلوب وجوارح المشاهدين مباشرة.

          كان محسن رمضاني مذهلا في عرض المدى الذي وصل إليه محمد في التناغم مع العالم الخارجي, مع الأصوات التي لا يعيرها المبصرون اهتماما, ومع حبه للتعلم وحبه الكبير لجدته ورعايته لشقيقتيه, وأخيرا مع الرسائل التي ترسلها له الطبيعة طوال الوقت. كان رمضاني يحمل تعبيرا حيا طوال الوقت عن الكثافة والجهد الذي يبذله من الداخل لتصور عالما غير مرئي, ولكنه محسوس.

          وصدقوني??

          إن التعبير عن هذه الانفعالات المركبة بلغ هنا من الإذهال حدا يجعل كثيرا من الممثلين المبصرين يشعرون بالعار من عجزهم عن الوصول إلى هذه الدرجة من الكثافة الانفعالية مع التحكم المنضبط في الوقت نفسه في إطلاق الانفعالات. أعتقد أن هذا هو ما يمكن أن يوصف عن حق بالأداء المعجز من طفل معجزة.

          (صبغة الله) فيلم مدرسي يعني من السهل تدريسه وتحليله في أكاديمية سينمائية, لأن كل مكون من مكوناته, الأداء التمثيلي والتصوير وشريط الصوت والكتابة والمونتاج والإخراج والملابس واستخدام الموسيقى كل هذا يتقبل التحليل كنموذج محترم في بابه, خاصة أن أداء مجيد مجيدي المخرج والكاتب كأداء ممثليه: تحكم كامل في كل العناصر والمكونات السينمائية, لا أزيد ولا أقل.

          فمن مدرسة تقنين الانفعالات نفسها التي يتعامل بها مجيد مجيدي مع ممثليه, يخرج أداء حسين محجوب (الذي قام بدور الأب) والذي يقف أيضا على الحدود الفاصلة بين عرض ما يدور بداخله بمهارة تجعلنا نقرأ أفكاره وبين إظهار ذلك طوال الوقت بانفعالات خارجية سهلة.

          وهنا نلاحظ الاستخدام المتقن للغة الجسد في التعبير الحركي عن انفعال الأب, الأب الذي يشعر بالعار في إنجابه ذكره الوحيد كفيفا. وفي مجتمع ريفي فإن إنجاب أنثيين عبء إضافي وقد يعيقه هذا كله عن الارتباط بزوجة يريدها وهو يمر بأزمة منتصف العمر, رجل ظالم لنفسه أخفق في أن يرى في أولاده عناصر القوة والسعادة التي يمكن أن يتلقاها منهم في خريف العمر وفي نهايته.

مرايا السينما

          يقدم الفيلم الأب في أول مشاهده وهو عازم على التخلص من عبء تربية ابنه محمد ورعايته, وهنا ندرك على الفور أن الأب هو مركز الجاذبية في القصة, كيف يتحرك الأب هاشم (حسين محجوب) ليعبر عن انفعاله هذا?

          بلغة جسد بالغة الاقتصاد.

          نراه يتردد, بعد تأخره في تسلم ابنه, ثم يقدم حركة بسيطة ولكنها معبرة عن شعوره السلبي تجاه ولده, والأهم أنها تصل إلينا دون إفراط وهذه أول مكونات السينما الخالصة, أي السينما التي لا تحتاج إلى اللغة المنطوقة لتعبر عن موضوعها.

          نراه أيضا يتردد قبل انفجاره أمام والدته تحت المطر, ثم يقدم..

          هذه ملامح شخصية يرسمها الممثل أثناء البحث الذي يقوم به للدور.

          وإذا كان مجيد مجيدي يقدم لنا عالما زاخرا بطاقاته اللونية النابضة بالحياة, فإن عالم محمد كان بالتأكيد عالما مفتوحا باتساع على دنيا الصوت والحواس الأولية وفي مقدمتها حاسة اللمس, بينما تمثلت الحاسة السادسة لديه في الحدس العاطفي, وتلك كانت وسائل اتصال محمد بالعالم المرئي.

          وهنا لعبت الطبيعة أروع الأدوار في فيلم (صبغة الله), فلها حضور طاغ صوتا وصورة, صوت العصفور, البلبل, الكروان, النورس, نقار الخشب, تلك أصوات كان محمد يستطيع, ما لا يستطيعه المبصرون, حين يفك شفرة أصوات نقار الخشب ومثلما كان يستذكر الحروف الهجائية وهو يعيد ترتيب الحصى في الجدول المائي الصغير, ولهذا امتلأ شريط الصوت بأصوات تلك الكائنات الطبيعية, بما في ذلك أصوات حفيف الأشجار وسقوط المطر.

          وتلعب الدراما بوضوح في إيقاع متناغم مع تقلبات الطبيعة, فثورة الأب التي حاول أن يبرر فيها ذاته أمام والدته يشارك فيها المطر الغزير, ويشكل الضباب فاصلا شفافا رقيقا بين الجدة التي تفارق روحها الحياة ومحمد الذي يتصل بها بحدسه الفطري.

          كما أن هذا العالم الحسي يكشف عن نفسه في شكل قوة طبيعية تدميرية وبوضوح أكبر على شريط الصوت الذي يفاجئنا بعد هدوء نسبي بصوت تدفق المياه في النهر الصغير عالياً إيذانا مأساويا بتقديم الفصل الأخير من الفيلم. هذا كله سينما خالصة.. صوت وصورة تنطقان دون كلام منطوق. خذ مثالا آخر من استخدام الطبيعة في تركيب شريط صوت يخدم الدراما ويطور القصة إلى الأمام, فهناك صوت حيوان غامض يتردد في الغابة لأربع مرات, في كل مرة يكون هذا الصوت نذيرا بتطور سيئ.. وهذا يعكس معتقدات المجتمعات البسيطة في موروثنا الشرقي من التطير أو التشاؤم برؤية مخلوقات أو الاستماع إلى أصوات معينة.

          في الصرخة الأولى سقطت من الأب المرآة وتحطمت, فأل سييء, وفي الصرخة الثانية كان يكدح في العمل في نقل الفحم بما يعبر عن شعوره الداخلي قبيل وصول الأنباء السيئة من رفض أهل العروس خطبته, وفي الصرخة الثالثة كان يحمل محمدا بالقوة ليتخلص منه عند النجار الكفيف, وفي الصرخة الرابعة والأخيرة كان يقود محمدا إلى مصير اختاره له للخلاص النهائي منه.

          وذلك التطير نراه أيضا حين تسقط هدية محمد لجدته في الجدول الصغير وتعجز الجدة عن العثور عليها.

          وفي الوقت الذي تتغير فيه ألوان ملابس الجدة من الداكن إلى الفاتح بعد نهاية الفصل الأول من الفيلم يكون ذلك التغيير مؤشرا دراميا, بالسينما الخالصة ودون أي كلام منطوق, باقتراب نهاية الجدة, برفضها عالم ولدها - الأب, واستعدادها للرحيل. بل إن أسلوب الإضاءة وهو جوهر التصوير يشارك في ذلك حين يضيء مدير التصوير وجه الجدة تدريجيا بنور الصباح الذي يلتقي مع الرمزية الشائعة في المجتمعات الريفية وكأنه إشراقة السماء تمهيدا لاستقبال الأم الطيبة.

          وإذا كان مصدر الضوء هنا واضحا, فإن مصادر الإضاءة في مشهد داخلي يجمع بين الأم والابن والحفيدتين, يؤكد امتياز المصور والمخرج بالطبع في التصوير الليلي دون أن يكتشف المشاهد مصادر الإضاءة الصناعية المستخدمة في تصوير المشهد, مع تشكيله ألوانا ثرية تردد العالم اللوني الزاخر الذي تعيشه الشخصيات.

          يعرض الفصل الأخير من الفيلم خلاصة وموهبة مجيد مجيدي في تطويع كل مكونات السينما الخالصة لإبداع فيلمه, فلعلها المرة الأولى في الفيلم التي يستخدم فيها كاميرا محمولة في هذا المشهد لإضفاء مزيد من التوتر الحسّي على المشهد تمهيدا للنهاية غير المتوقعة, وبينما يستمع الأب إلى الصوت المروع (الذي يردد صدى توقعه السييء الذي يقع له دائما في الواقع)... فإننا نمر بسلحفاة مقلوبة على ظهرها, وهذا قد يعني نهايتها لأنها الآن مسكينة بلا حيلة على الإطلاق. تماما كمحمد ابنه, الآن, وهو يقوده إلى مصيره الذي اختاره له, وهذا الأسلوب يعرف في الأدب بالمعادل الموضوعي, أي إيجاد حدث خارجي يعادل في قوته التعبيرية, الموضوع الذي أريد التعبير عنه.

          السلحفاة ومحمد متعادلان في الموضوع.

          وهذه سينما خالصة, مرة أخرى تقول بالصورة والصوت ما لا تعبر عنه الكلمات المنطوقة في الفيلم.

لمسة من النور

          أنا واثق من أنني أستطيع أن أسترسل إلى ما لا نهاية ولكنني سأحاول أن أختم هنا بتعليق على النهاية التي استحق محمد من أجلها, بعد هذا الابتلاء العسير, معجزة الحياة, مرة أخرى, بنور رباني خالص.

          موهبة مجيد مجيدي تتجلى في أروع صورها في قدرته على استثمار البساطة الظاهرة في الواقع بالتسامي بها نحو آفاق أرحب, وأوسع تلتقي فيها مع ما هو قدري وإلهي.

          هذا هو الضوء الذي يمكن أن نفهم فيه معنى النهاية, هذه اللمسة الدافئة المعجزة, والتي تجلت بعد أن احتضنه والده للمرة الأولى في الفيلم على الإطلاق معلنا حبّه وتقبّله له كما هو, وهو ما كان يطلبه محمد طوال الوقت, (لا أحد يحبني), هاهي اللمسة الإلهية تنير يد محمد التي يتصل بها مع العالم بضياء سماوي, تحقيقا لأمنية محمد الخالدة في أن يلمس الله بيديه إذا كان قد خلقه كفيفا عاجزا عن أن يراه بعينيه.

          بمقدورنا... نحن الشرق أوسطيين أن نحس بمعنى النهاية ونصدقها بالنظر إلى الموروث الشرقي بأكمله, ولكن تعليقات لبعض النقاد الغربيين عليها تثير الاهتمام, فيقول الكساند ووكر ناقد (الايفننج ستاندرد): (بعد أفلام الآكشن التي تشكل الأسبوع الهوليوودي التقليدي, يأتينا فيلم يتميز بإنسانية عميقة وغنائية غير متاجر بهما, أما النهاية التي قد تبدو للمشاهد الغربي الساخر مبالغا فيها بعض الشيء, فإنني أقول إنها ببساطة نهاية سامية صادقة غير مزيّنة), ويختم روجر إيبرت ناقد (تشيكاغو صن تايمز) تعليقه على الفيلم قائلا: (إنه فيلم عائلي يخجل الاستغلال التجاري السهل الذي يمارسه صانعو منتج مثل (بوكيمون) بنظام القيم الذي يبشر به والقائم على القوة والجشع. ولأن أفلام مجيد مجيدي لا تصنع أساسا للمشاهدين الصغار فهي مشبعة كلية للمشاهدين الكبار).

          وهكذا فإن نظام القيم الذي تبشر به صفوة أفلام السينما الإيرانية الجديدة, هو ما يجعلها من ضمن عناصر أخرى, في طليعة السينمات القومية في عالم اليوم

 

الفاروق عبدالعزيز   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لقطة من فيلم (شرارة) من اخراج سيامك شايقي





سيف الله داد





جعفر باناهي





مجيد مجيدي





عباس كياروستامي





لقطة من فيلم (صبغة الله) لمجيد مجيدي





لقطة أخرى من فيلم (صبغة الله)





محسن رمضاني





سميرة مخملباف





لقطة من فيلم (شجرة الحياة) تأليف واخراج فرهاد ماهر انغاد