عندما يصبح (بشر الهامش) وقوداً لحروب الآخرين

عندما يصبح (بشر الهامش) وقوداً لحروب الآخرين
        

من هنا خرج الطالبان... 

          في أقصى الهامش, يعيش بشر من صنف خاص, حياتهم لا تسير مثل بقية البشر, آمالهم تدور ثم ترتد عليهم في مساحة, ضاق بها أفق هذا العالم فاتسعت باتساع الفقر والبؤس والانكسار, صباحهم مطاردة, ومساؤهم ليس مثل باقي المساءات, حيث لا بديل من انتظار المجهول, حربا كان أم خلاصا, أم مزيدا من الموت الذي لم يخطئ يوما طريقه إليهم. فهل بعد ذلك, يتساءل البعض عن السبب الذي يجعل نظرتهم إلى العالم تمر من ثقب أكثر ضيقا من ميسم (الإبرة), وأشد ارتيابا من حمل جريح?  

          كان غبش الفجر  يجاهد كى يلقي بنثاره على الطرقات, حين  غادرنا  مطار إسلام أباد الذى مازالت راو البندى تحتضنه, لنعيش لحظات  الاستكشاف  الأولى لبلد كنا أتينا إليه, وهو لايزال يعيش غمار أحداث كبرى عصفت بمنطقة شبه القارة الهندية, ووضعت باكستان في أتونها اللاهب.

          فى عز الظلام الذى لف شوارع  طويلة  دلفت إليها سيارة أقلتنا , كان علينا أن نتوقف مرات عدة للتفتيش من نقاط عسكرية كانت فى كل مرة  تقوم بفحص السيارة وما فيها من بشر وحقائب, فيما الطريق الحريرى يتماوج فى التماعاته كلما كانت خيوط الضوء تواصل عناقها للطريق الموغل فى اتساعه.

          لم يستغرق الوقت أكثر من نصف ساعة, حتى وصلنا إلى  فندق  يتوسط مدينة إسلام أباد عاصمة باكستان التى اجتازت  عقدها الثلاثيني, ومنذ الوهلة الاولى يتزايد الانطباع بطغيان الحس الامنى على ماعداه, فى تلك اللحظة  يمر فى الذاكرة شريط طويل من الاحداث اجتاحت  تلك الدولة منذ استقلالها قبل مايزيد قليلا على نصف القرن, كان عدم الاستقرار خلاله  طابعا مميزا لمسيرة  أنهكتها  حروب وتهديدات بالحروب, وانفجارات فى الداخل, وانفجارات أكثر دويا فى الجوار القريب, وانقلابات عسكرية, وانقلابات فى التحالفات والتوجهات, وسخونة دائمة, يتفاوت سعيرها من وقت لآخر.

          المرور من باب السور الخارجى للفندق لايتم السماح به, إلا بعد الخضوع لتفتيش دقيق يقوم به  أربعة من  رجال الشرطة, اثنان لدى كل منهما عصاة طويلة ينتهى طرفها بمرآة عريضة يقوم كل منهما بتمريرها اسفل جانبى السيارة سعيا  لاكتشاف مادة قابلة للانفجار قد تكون  مختبئة, ويقوم الشرطيان الثالث والرابع بفتح غطائى السيارة والنظر بداخلها قبل ان يشير الاربعة لزميلهم الخامس برفع الحاجز والسماح بالدخول.

          عند الباب الاخر الذى يدلف منه المرء إلى داخل الفندق ثمة حراس أخرون بزيهم الازرق الغامق, يدورون حول الباب, وهناك موظف يرتدى الزى المدنى يقف خلف بوابة ضيقة للتفتيش الالكترونى, ثم قبل ان يلامس  المرء زر المصعد قاصدا الصعود إلى غرفته, يأتى اليه شرطى من الداخل ليسأله ان كان ضيفا أم نزيلا, ولايسمح بملامسة زر المصعد قبل اظهار البطاقة التى تستخدم كمفتاح للغرفة.

          ولاينتهى الامر عند هذا الحد, ففى كل دور من الفندق يوجد شرطيان, احدهما يقف بالقرب من المصعد, وبينما يقدم هذا  التحية للنزيل القادم, فإن مهمة  الثانى  تنحصر فى الدوران  رائحا وغاديا بامتداد  الممر, فى مراقبة دءوب  للنزلاء وبنظرات فاحصة, ولكن دون ان ينطق بكلمة.

          إلى هذا الحد يقتحم الحس الأمنى زائر اسلام أباد منذ اللحظة الاولى لوصوله إليها, ولعله يظل مصاحبا له أينما صال  في أزقتها, أو جال فى غيرها من مدن بعدت عنها آلاف الاميال أو قربت حتى بدت متداخلة فى نسيج المدينة الفتية.

          ورغم ان هذه الاجراءات تصيب بالضجر كثيرين ممن لم يعتادوا رؤيتها منذ أزمنة, إلا انها حين توضع  فى سياق التحديات الكثر التى واجهت باكستان ولاتزال تلاحقها, تبدو امورا اعتيادية, فهذا البلد الذى يمتلك برنامجا نوويا طموحا, وتتوزع هياكل النصب الصاروخية بطول أراضيه وعرضها قاصدة الدفع بالزهو الوطنى,   لم يذق طعم الهدوء يوما واحدا طوال تاريخه, وهو اليوم يقع بين عدة بؤر ماتلبث ان تخبو جذوة أوارها حتى تعود مجدداً للاندلاع بجمرات أشد أوارا , فما الذى يمكن للزائر العابر توقعه حين تكون أفغانستان ولهيبها المشتعل دون انطفاء لأكثر من 25 عاما متصلة على الحدود اللصيقة, وحين تكون كشمير فى القلب بؤرة أخرى للهيب القومى والوطنى , والمحك الأساس للالتفاف الشعبى حول القيادات الباكستانية المتعاقبة أو النأى عنها.

          تلك هى المعادلة الصعبة التى تحيط بباكستان, والتى دفعتنا للانطلاق إلى هناك بعد ان خبا الحريق المجاور قليلا, فى محاولة لقراءة هادئة لما جرى ويجري واحتمالاته المستقبلية, والتداعيات التى تركتها أحداث لها كل تلك الضخامة, على منطقة بأكملها محاطة بأحزمة عدة من ألغام عرقية وسياسية وثقافية واجتماعية, تكاد إذا مر إلى جوارها بصيص نار أن تعاود انفجاراتها المرعبة.

          هناك انتقلنا من مكان إلى آخر, والتقينا أكثر من مسئول ومراقب للأحداث , وسعينا لفتح  صفحات مغايرة لتلك  التى أوصلتها لنا الفضائيات والوسائل الإخبارية اليومية, التى اقتحمت الأسماع والعيون طيلة أشهر عدة كان فيها الحدث فى ذروة سخونته.

          وكان لابد والحال هكذا من ملامسة صفحة شديدة الالتهاب, هى تلك التى فتحت على مصراعيها منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر الرهيبة, والتى باتت هدفا رئيسيا فى الحملة الأمريكية على ماأطلقت عليه ( الإرهاب (, انها صفحة المدارس الدينية التى بدت من كثرة  الزوابع التى لاحقتها وكأنها أخطر ما في هذه الدنيا وأشرس ما بها, فيما الحكاية شديدة البساطة, شديدة الهشاشة أيضا, لكنها الدنيا التى تغيرت وانقلبت تحالفاتها وغدا الذى كان مطلوبا من قبل سنوات عدوا ينبغى محوه من الخارطة. 

بنية تحتية

          لم يكد ذهول  العالم من زلزال الحادي عشر من سبتمبر الأمريكي ينقشع  قليلا حتى  تحول  الحديث عن  نظام التعليم الديني في باكستان, الذى يتمثل  في سلسلة المدارس الإسلامية الخاصة, الشغل الشاغل للإعلام الدولي, بعد أن اعتبرته الولايات المتحدة مسئولا عن التدريب الأيديولوجي لكوادر حركة طالبان التى استمرت على رأس الحكم فى  أفغانستان  نحو خمس سنوات قبل أن تتمكن اطنان القنابل الأمريكية من ازاحتها.

          وضعت تلك الاتهامات الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف فى موقف لا يحسد عليه, فعلى الرغم من تمكنه  من الاطاحة برئيس الحكومة السابق نواز شريف وابعاد رئيسة الوزراء السابقة بينازير بوتو, ثم وقوفه  متحديا الهند باطلاق مجموعة متواصلة من التجارب الناجحة للصواريخ القادرة على حمل  رؤوس  نووية, فإنه هذه المرة  وجد نفسه  عاجزا  أمام رجال الدين في بلاده, لدرجة أنه عندما أصدر قانوناً جديداً لاحتواء المدارس الدينية في شهر يوليو الماضى  لم يجد امامه طريقا سوى أن يُرسل ثلاثة من كبار وزرائه لمفاوضة  رجال الدين على تطبيق هذا القانون. وكان أن أعلن هؤلاء رفضهم هذا القانون, بل وتحديه.

          هذا الرفض جاء استنادا إلى شعبية شديدة الضخامة اكتسبتها هذه الجماعات الدينية فى الشارع الباكستانى وامتدت على مدى ثلاثة عقود , كانت خلالها قد تمكنت من  استغلال  التقاطعات فى الاستراتيجيات التى شهدتها المنطقة والتى التقت المصالح فيها فى انشاء  بنية تحتية ذات  تنظيم  مساند, إلى جانب شبكة إعلامية ضخمة ومؤثرة  من صحف ومطبوعات شهدت ازدهارا كبيرا واستطاعت بيسر ترسيخ مايمكن أن يطلق  عليه (ثقافة الجهاد).

          وقد باتت تلك  المدارس الدينية تتعدى فى الوقت الراهن رقم العشرة آلاف مدرسة مابين مسجلة وغير مسجلة, كما أخبرنا أكثر من محلل ومراقب, أو رقم 7044 مدرسة وفقا لآخر إحصاء صادر عن الحكومة الباكستانية  والتى تضم فى صفوفها  أكثر من  المليونى  طالب  باكستاني إلى جانب نحو  عشرين  ألف طالب من آسيا الوسطى وأفغانستان والدول العربية والإفريقية وشرق آسيا تنتشر في مختلف مناطق أفغانستان وباكستان, ويتم ادارتها بصفة دائمة  من قبل الشخصيات الدينية المعروفة, وتمول عن طريق جمع التبرعات.

          والمدارس الدينية في باكستان والهند يُطلق عليها المدارس الديوبندية نسبة إلى أول مدرسة أنشئت في ديوبند شمالي دلهي في الهند عام 1867 على يد مجموعة من العلماء والمشايخ في ذلك الوقت مثل محمد قاسم النانوتوي وفضل الرحمن, ثم تبعتها مدارس أخرى وبعضها تمنح أعلى الدرجات العلمية (جامعات), ومازالت تدرس حتى اليوم مناهج قديمة جداً في النحو والصرف والفقه والمنطق والفلك والرياضيات, وبالوسائل القديمة دون تغيير ومن أشهرها اليوم (ندوة العلماء) في الهند والتي كان يرأسها حتى وفاته الشيخ أبو الحسن الندوي و(دار العلوم الحقانية) نسبة إلى مؤسسها ( عبد الحق) في بيشاور, و(دار العلوم), و(الجامعة الإسلامية), و(الجامعة الفاروقية) في كراتشي, و(منبع العلوم) في ميران شاه في إقليم سرحد - بيشاور,  و(مطلع العلوم) في كويتا (إقليم بلوشستان) و(الجامعة الأشرفية) في لاهور.

          ويسمى خريج المدرسة ملا وفي مرتبة أعلى (مولوي) أى عالم دين, وللمولوية  تأثير كبير ونفوذ على  مسلمي شبه القارة الهندية, وانتخب كثير منهم في مجلس النواب, مثل مولوي فضل الرحمن رئيس جمعية العلماء في باكستان, والذي شغل منصب رئيس لجنة الشئون الخارجية في البرلمان الباكستاني خلال فترة حكم  بينازير بوتو, وهو المؤسس الحقيقي والراعي لحركة طالبان والذي أقنع الحكومة الباكستانية بدعمها وتأييدها , ومنهم أيضاً  مولانا سميع الحق ابن عبد الحق مؤسس دار العلوم الحقانية وكان أيضاً عضواً في مجلس النواب.

الطريق إلى الحقانية

          هذه الضجة الصاخبة حرضتنا على محاولة الاقتراب منها, والذهاب لمشاهدة مايجرى على الطبيعة. وحين انطلقت بنا السيارة نحو عدة مدن وقرى تتوزع بين  أقاليم باكستان, بدءا  من  بيشاور العاصمة الرسمية لإقليم ( سرحد) أو إقليم الحدود الشمالية الغربية كما يطلق عليه فى المكاتبات الرسمية, كانت شهرة تلك المدارس فى ذاكرتنا يغلفها عنوانان عريضان, الأول هو مايتردد عن ان معظم قادة حركة طالبان الأفغانية تخرجوا في تلك المدارس والجامعات وتحديدا في الجامعة الحقانية, وان المدارس الدينية هي المحاضن التي تربى فيها أفراد هذه الحركة, وفيها تشكلت شخصياتهم وثقافاتهم وبناؤهم الفكري.

          أما العنوان الثانى فيتعلق باتهامات أمريكية تذكر ان هذه المدارس تقدم أو كانت تقدم التدريب العسكرى للطلبة الذين يلتحقون بها, وانها تؤهلهم وتحرضهم ايضا على قتال غير المسلمين.

          وعندئذ بدأ ذلك المشوار المحفوف بمغامرة محسوبة وبمتعة الدهشة فى بعض أوقاته.

          قبل السادسة صباحا كنا قد صحونا, فذلك اليوم كان جدولنا حافلا, فلدينا زيارة إلى جامعة دار العلوم الحقانية التى تقع فى مدينة ( أكوره ختك) على الطريق من بيشاور التى كنا قضينا ليالي عدة فيها, إلى إسلام أباد, وكان الموعد الذى حدد لنا, هو الثامنة صباحا  فى نفس توقيت بدء الدراسة الصباحية من يوم  الأحد, الذى تكون فيه  المصالح الحكومية والمدارس فى عطلة تامة, ماعدا المدارس الدينية التى اختارت الجمعة للراحة.

          كان لابد أن نذهب إلى هناك فى الموعد, وكان الزمن الذى تستغرقه السيارة التى تسير بسرعة 100 كم  هو ساعة كاملة, ثم كان علينا أن نعود ثانية إلى بيشاور لنلتقى مسئولا فى وزارة الاعلام سوف يرافقنا مع شرطيين إلى منطقة معبر خيبر.

          خرجنا من الفندق فى السابعة إلا ربعا وطار بنا نواز السائق الباكستانى شديد التهور, مستغلا خلو الطريق فى ذلك الوقت الصباحى, وكان ان وصلنا إلى المكان الذى نقصده فى (اكوره ختك ) فى موعدنا تماما.

          وقفنا عند الباب وعندما تأكدت  الإدارة أن هناك اذنا لنا بالدخول رفعت الحاجز الحديدى فدخلنا إلى ساحة الجامعة , كان الاطفال الصغار يرتدون زيا كحليا داكنا على الطريقة الباكستانية  وفوق الرأس  قبعة بنفس اللون وهم متجهون إلى الداخل, مرورا بساحة المسجد الكبير الذى يعد جزءاً لاينفصل عن مبنى المدرسة, تماما مثل كل المساجد التى رأيناها فى المدن والقرى والتى قل أن يخلو مسجد منها من مدرسة أو جامعة ملحقة.

          أعلى باب الجامعة الحقانية  كتبت  باللون الاسود عبارة تقول: (لدعوة الحق : (سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت السميع الحكيم ( - دار العلوم  حقانية (اكوره ختك ) - أسست فى 23 سبتمبر 1932).

          وينقسم المبنى إلى قسمين الأول مخصص للعلوم الدينية, والآخر للعلوم العصرية, والطلاب الاكبر سنا فيه يرتدون الزى الباكستانى المعروف  دون أى توحيد لألوان وأشكال هذا الزى, لكن معظم من يدرسون فى هذه المدرسة هم فى غالبيتهم خليط من الباكستانيين والافغان إلى جانب طلاب  ينتمون إلى عدة دول تمتد من آسيا الوسطى إلى الصين وعدد من الدول الآسيوية والإفريقية أيضا , وهذه الجامعة كما هو معروف هى التى درس فيها عدد كبير من مسئولي حركة طالبان الافغانية التى يعني اسمها وفقا للغة الافغانية ( طلاب العلم الشرعي), وكان من أكثرهم شهرة الزعيم البشتونى جلال الدين حقانى, الذى حصل على لقب (حقانى) لكونه قد تخرج في الجامعة الحقانية, كما درس فيها دون ان يكمل تعليمه زعيم حركة طالبان المعروف باسم الملا عمر  والذى استدعاه رئيس الجامعة مولانا سميع الحق بعد ان ذاع صيته فى قندهار قبل أن يتولى الحكم, ومنحه لقب ( ملا) الذى لايمنح الا لمن حصل على أعلى مراتب العلم الشرعي.

          فى داخل الجامعة العديد من القاعات الفسيحة غير المسقوفة, والتى تقشرت جدرانها أو خلت فى جوانب منها من اى طبقة اسمنتية فظلت احجارها عارية , فيما  كانت الارض  مفروشة بحصير ليس أقل بؤسا من السقف والجدران , يجلس فوق أرضيتها  العشرات من الطلاب الشبان على شكل حلقة كبيرة, وفى يد كل منهم كتاب, وأمامهم المعلم يقرأ وهم يتابعون.

          وعلى الرغم من المساعي الحكومية للتضييق على تلك الجامعة, فإن  تبادل الحديث ولو بشكل عابر مع أي طالب بها يكفي كي يكتشف المرء مدى الزهو الذى يشعر به هؤلاء لكونهم  طلابا فى  دار العلوم الحقانية لأن فيها تخرج  10 من كبار قادة طالبان الـ12, وحكى لنا بعض من كانوا قد زاروا تلك الجامعة قبل تداعيات الحادى عشر من سبتمبر وانهيارحكومة  طالبان , ان الطلاب كانوا يتعمدون تعليق  صور خريجى الجامعة من الطالبانيين  على جدران الساحات فيها  , فى الوقت الذى كان  المسئولون فى تلك الجامعة  الحقانية وقت ان دانت كابول وما حولها لسلطة الطالبان يتباهون بأنه ما من وزير أو مسئول في تلك الحركة إلا وهو من خريجي الحقانية, معتبرين  إن الطلاب يسعون للحصول على العلم فيها لفرادتها  في (تربية العلماء تربية جهادية).

          وتعود  فكرة إنشاء الجامعة الحقانية , القابعة في مدينة ( أكوره  ختك ( الجبلية الصغيرة في شمال باكستان , إلى عام 1947 بعد استقلال باكستان عن الهند , بهدف توفير بديل للطلاب الذين كانوا يدرسون في جامعة ( ديوبند) الإسلامية الهندية العريقة. وبدأت المدرسة كحلقة علمية صغيرة , لكنها سرعان ما توسعت, وحصلت على اعتراف العديد من الجماعات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي, واكتسبت  وضعا مرموقا بين الجامعات الإسلامية الأخرى.

          وعلى الرغم من أن الجامعة الحقانية ترفض  الدعم الحكومي  , فإن الشهادات التي تمنحها  لطلابها تحظى باعتراف الحكومة الفيدرالية , ويشهد كبار مسئولي الحكومة حفلات التخريج التي تقيمها لطلابها. وتعتمد في تمويلها على قبول التبرعات والدخل الذي تدره الأوقاف الخاصة بها , فالدراسة داخلها  مجانية, بل وتقوم الجامعة, أيضا, بتوفير المأكل والملبس والمسكن لطلابها.

تأسيس طالبان   

          الشيخ سميع الحق يرد على الوصف الذى يلاحقه كشخصية دعمت حركة طالبان الأفغانية, وعلى أن جامعته الحقانية هي التي خَرَّجَت كثيراً من المجاهدين الأفغان, وكذلك من الطلاب الذين قاتلوا روسيا, ووصلوا إلى سدة الحكم  في أفغانستان قبل ان يصبحوا مطاردين فى الجبال فى الوقت الحالى, يقول: إن  طلبة العلم يسمون في منطقتنا  الطالبان بمعنى الطلاب,  و هم  يلتحقون  بالجامعة الحقانية لتعلم الدراسات الإسلامية, لالغرض السياسة , فقد كان الشغل الشاغل لهم هو تحصيل العلم.

          وعن عدد الطلاب الذين شاركوا في القتال مع طالبان, من  خريجي  الجامعة الحقانية يقول الشيخ سميع الحق إنه بعد تقسيم   الهند سنة 1947م, انقطعت السبل بالطلاب الافغان والباكستانيين الذين كانوا يدرسون فى ديوبند  فاجتمع عدد من العلماء  مع والده الشيخ عبد الحق الذى كان مدرسا هناك  وطلبوا منه  أن يفتتح جامعة فى باكستان  تستوعب  علماء أفغانستان وطلابها الذين  كانوا يتتلمذون على يديه هناك, وبعد أن أنشأ الجامعة وأسماها الحقانية جاء هؤلاء بأعداد كثيرة تزايدت فى كل سنة, حتى  تخرج فيها حتى الان  خمسة عشر آلف  طالب , نصفهم تقريبا من الأفغان, وأكثرهم جاهد ضد السوفييت , وكثير منهم استشهد في هذا الجهاد.

          ونفى الشيخ سميع الحق أن يكون هناك من الطلاب  الباكستانيين من شارك في القتال إلى جانب حركة الطالبان ضد المعارضة الأفغانية, لكنه يضيف ان الجهاد ضدالقوات  السوفييتية  شارك فيه الكثيرون من مسلمى  العالم , وانه كان بمنزلة  الجهاد العظيم ضد عدوان  غاشم, ومن بين هؤلاء هناك الكثير  من العرب والباكستانيين , ويضيف  (أما قتال  حركة طالبان  ضد الفصائل الافغانية الأخرى فإن  ما أعلمه هو  أنه لم يشارك احد من الباكستانيين أو من الطلبة الباكستانيين مع الطالبان  فى هذا القتال.

          وعن تنوع جنسيات الطلاب فى الجامعة الحقانية  قال الشيخ سميع الحق ان الهدف الاهم لهذه  الجامعة هو  التعليم: تعليم القرآن والسنة, والفقه, و الشريعة, تعليم العلوم العربية, وأبوابها مفتوحة لكل المسلمين, تماما كما هى أبواب جامعات أمريكا وجامعات بريطانيا مفتوحة لكل من يجيء لتحصيل العلم , ولذلك فإن  الطلاب يأتون من الصين, وطاجكستان, ومن أفغانستان لدراسة  العلوم الدينية, التي لا يجوز أن يحرم منها مسلم.. فالمسلمون مثل الجسد الواحد.

          وعن مستقبل الحركات  الإسلامية فى أفغانستان يقول الشيخ  سميع الحق: إن  انشاء باكستان  الإسلامية تم  على أساس نظرية الإسلام, وانفصال  هذه الدولة  عن الهند كان على أساس أن يكون فيها الحكم لله وان يكون  النظام  شرعيا  , وعندما رحل الإنجليز المستعمرون تركوا لدينا نظامهم الذى نجاهد منذ أكثر من 50 سنة لتبديله ولكن  بطريق الديمقراطية وعن طريق السياسة والبرلمان.

          وعن عدد طلبة العلم الشرعي أو طلبة العلوم الإسلامية في باكستان تقريبًا قال الشيخ   سميع الحق: إن عددهم يصل إلى الملايين  فى الوقت الحاضر , فهناك آلاف من المعاهد الدينية الكبيرة والصغيرة في باكستان من بيشاور إلى كراتشي  ومن بلوشستان إلى  وزيرستان.

هجمة ضارية

          لم تنطلق  الهجمة الضارية على المدارس الدينية  من الولايات المتحدة وحدها, فالهند هى الأخرى وجدتها فرصة سانحة لاتهام هذه المدارس بأنها وراء تخريج المقاتلين الكشميريين الذين يطالبون بالاستقلال عنها, لكن واشنطن لم تكتف بتوجيه الاتهامات مثل نيودلهى بل  مارست ضغوطا هائلة على إسلام أباد للحد من أنشطتها وقدمت  فى هذا الاطار  مساعدة مالية قيمتها مائة مليون دولار للسيطرة على تلك المدارس وإدارتها بشكل مباشر من قبل الحكومة الباكستانية, وحضها على عمل قاعدة معلومات شاملة عن تلك المدارس وعن مناهجها وأسماء الطلبة والمدرسين ومصادر التمويل, فى الوقت الذى تعهد فيه  بنك التنمية الأسيوي, والبنك الدولي , وبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة للحكومة الباكستانية بدعم مشروع يعنى بانشاء 20 ألف مدرسة نموذجية لنشرها في الأقاليم الباكستانية الأربعة ( البنجاب والسند وبلوشستان وإقليم (سرحد) أى الحدود الشمالية الغربية المتاخم لأفغانستان بمناهج دينية وعصرية مختلطة, على أن تكون منافسة للمدارس الدينية.

          وعلى الرغم من انه لم يطلب  رسمياً من القائمين على هذه المدارس إغلاق أبوابها وطرد الطلبة منها, باعتبارها تشكل داعماً أساسياً في نشر العلم ومحو الأمية المتفشية في باكستان  التى لاتزيد الاعتمادات المخصصة للانفاق على التعليم فى موازنتها عن نسبة 2%  فإنه تمت دعوتها للتقيد بعدة قرارات كشرط أساسي تتمكن من خلاله من مزاولة نشاطاتها.

          وتمثلت هذه القرارات, بأن تعيد تسجيل نفسها رسمياً لدى الحكومة الباكستانية, حتى ولو كانت مسجلة من قبل, وعدم تلقي أي مساعدات مالية من أي جهة أجنبية, وعدم قبول الطلبة الأجانب إلا بموافقة وزارة الداخلية الباكستانية , وأن يكون الطالب الأجنبي الملتحق بها قد حصل على تأشيرة دخول تخوله الدراسة, إلى جانب  إضافة بعض مواد العلوم العصرية إلى مناهجها الدينية الثابتة من دون اختيار , كمواد العلوم والرياضيات والكمبيوتر واللغة الإنجليزية).

          وبينما يرفض قادة الاحزاب الاسلامية هذا القانون معتبرين  أن هدفه هو خنق التعليم الدينى المجانى فى بلد يعانى شعبه الفقر الشديد وتصل فيه نسبة الأميّة إلى أكثر من 70% فى الوقت الذى تكون فيه  الغالبية الساحقة من تلاميذ المدارس الدينية على درجة من الفقر  لا تمكنهم من التوجه للمدارس الحكومية فضلا عن المدارس الخاصة, فإن  وزير الشئون الإسلامية  السابق د.أحمد محمد غازي, يرى ان  هدف القانون  هو  تطوير المناهج التي تدرس في تلك المدارس, وإضافة المواد العلمية والتكنولوجية  لها, مؤكدا أن خطط التطوير لا تستهدف التدخل في الشئون الداخلية لهذه المدارس أو في عملها الذاتي وإنما إلى تمكين خريجيها من ممارسة دورهم وعملهم وحياتهم بمقتضي الواقع, فلا يتم تخرجهم فقط للعمل  مجرد موظفين في المساجد وإنما للتوظف  في الدوائر الحكومية والوزارات.

فصول ساخنة وباردة

          وتمثل قصة المدارس الدينية الباكستانية فصلاً مثيراً من فصول الحرب الباردة

          فالباكستانيون لم يكونوا الوحيدين الذين أفادوا منها اذ ان  الأمريكيين أيضاً استغلوا هذا  النظام عندما  ضمنوا عن طريقها  تمويناً لا ينضب من المقاتلين المتدينين المستعدين لقتال السوفييت (الملحدين). وعندما تحقق هذا الهدف وتركت واشنطن المنطقة, جاء الباكستانيون ليوجهوا هذا السلاح البشري المدرب الذي خلفه الأمريكيون وراءهم, لتحقيق أهداف إقليمية.

          أما المسئولون عن المدارس الدينية فتحولوا طوعاً إلى أداة في يد الغير.

          ووفقا لوثائق الخارجية الأمريكية التى كشف عنها أخيرا, فان  مكتب إسلام أباد التابع لصندوق الإنماء الاقتصادي الأمريكي (USAID) قد دفع إلى جامعة نبراسكا التابعة لولاية أوكلاهوما, مبلغاً قدره واحد وخمسون مليون دولار على مدى عشر سنوات بين 1984 و1994 من أجل تصميم كتب تحض على الجهاد. وجمعت الجامعة الأمريكية نخبة من الخبراء التربويين الأفغان لكتابة كراسات باللغتين الباشتو و(الدارية) المنتشرة في أفغانستان وفي إقليمي بلوشستان والحدود الشمالية الغربية الباكستانية. وتولت العشرات من المطابع الباكستانية الخاصة طبع هذه الكتب مرات عدة.

          ويعتقد على نطاق واسع  فى باكستان ان الجنرال ضياء الحق كان المحرك الأساس وراء انتشار المدارس الدينية. فى الوقت الذى يشير محللون هناك إلى أن تهيئة الأجواء لنشر  المدارس الدينية في باكستان بدأت على يد ذو الفقار علي بوتو الذى كان أول رئيس وزراء مدني منتخب في تاريخ باكستان والذى كان ليبرالى النزعة, ففي الفترة  التي  تولى الحكم فيها بين 1972 و1977 زاد عدد المدارس الدينية, واعترفت حكومته  للمرة الأولى, بالشهادات الصادرة من تلك المدارس, وتم  أيضا  توظيف الآلاف من خريجيها في التدريس الحكومي, فى  الوقت الذى بات من المعروف فيه ان  نشأة حركة طالبان جاءت  بدعم من الحكومة التى ترأستها ابنته بينازير بوتو في منتصف التسعينيات.

          أما فى الوقت الحاضر فإن  محاولات الحكومة للتضييق على  المدارس الدينية, يثير غضب الأحزاب الإسلامية الباكستانية. وأكد مولانا فضل الرحمن أمير جمعية علماء الإسلام أن أي قوانين حكومية تضيق من حرية المدارس الدينية تحت لافتة مقاومة الإرهاب ستقاوم بقوة من قبل الشعب الذي لن يسمح للحكومة بأن تقضي على هذا النظام التعليمي العظيم. فيما حذر حسين قاضي أحمد أمير الجماعة الاسلامية من أن جماعته لن تسمح بإلغاء النظام التعليمي القائم على نشر العلوم الإسلامية مشددا على أنه من دون الاسلمة لن يصبح لباكستان وجود.

          وتتعدد  المدارس وتختلف مناهجها, وطرق إدارتها وفقا للفرق الدينية التى تنتمى اليها فى هذا البلدالذى يصل عدد سكانه حوالي 150 مليون نسمة, غالبيتهم العظمى من (السنة) الذين ينقسمون بدورهم   إلى ثلاث فرق رئيسية هي (البريلوية) وهم أتباع الامام أحمد رضا خان البريلوي, نسبة إلى مدينة (بريلي) الهندية , وينتمون إلى عبد القادر الجيلاني, الصوفي المعروف, ولديهم مسالك صوفية عديدة كالقادرية, والسهروردية, والجشتية وغيرهم وهم حنفيو المذهب, و(الديوبندية) وهم من المسلمين السنة أتباع أبي حنيفة أيضاً فقهياً,  و(أهل الحديث) وهم الفرقة الثالثة من أهل السنة.  

جامعات وقباب

          ونحن فى طريق العودة إلى بيشاور بعد أن غادرنا أكوره ختك, رأينا على الطريق مسجدا لافتا بمآذنه الرفيعة وقبابه الخضراء متناهية الصغر, ولعل هذا ما لفت النظر اليها, توقفنا لالتقاط صورة, فوجدنا لافتة تعلن عن (الجامعة الاسلامية فى نوشيره) إلى جوار لافتة أخرى عن المسجد الذى يطلق عليه مسجد التقوى.

          استأذنا فى الدخول فجاء أحد الطلاب من الداخل ووضع المفتاح فى القفل المربوط بسلسلة تحيط بجانبي الباب من ضلفتيه الحديديتين, دخلنا  لنشاهد فى ساحة المسجد حلقات  من الشبان فى الساحة الاكبر, ودوائر أخرى من أطفال صغار السن فى الساحة الاصغر من هذا المسجد. اجتزنا  الممر لندخل  إلى حيث يجلس مدير المدرسة الذى كان يرتدى ملابس قريبة من الملابس الافغانية, فى حجرة متربة وشديدة التواضع, بجواره  موقد  صغير يعمل بالكحول يصنع عليه الشاى للضيوف, سلمنا عليه فوقف وحيانا بشدة مرحبا بلغته العربية غير الواضحة فى بعض مقاطعها.

          عرفنا بنفسه, اسمه أمير حمزة وهو مدير لهذه الجامعة المستقلة, وقال لنا إن المواد التى  تدرس فيها تتنوع بين  : فقه المذاهب الأربعة, أصول الفقه, التفسير ( الجلالين), والاحاديث, علم النحو, علم الصرف, علم المنطق, الفلسفة, علم الأدب, وتجويد القرآن وتحفيظه.

          قال لنا مدير الجامعة انها تأسست قبل عشربن عاما, وان الدراسة فيها مجانية, كما ان مدرسيها متطوعون, وحين سألته عن الموارد المالية, ابتسم قائلا ( لانعلم من أين تأتى, انها هكذا تأتى, أناس يأتون ويتركون أموالا تبرعات ويذهبون دون ان يرغبوا فى حتى الحصول على كلمة شكر), يضيف: (لم نسع يوما للحصول على التبرعات, ولكن هى التى تأتي إلينا).

          وهذه المدرسة أو الجامعة تتبع سلسلة المدارس ذات المناهج الديوبندية, وهى تضم نحو 300 طالب من الذكور فى مختلف المراحل, وينتمون إلى مختلف المدن المحيطة, وهى تقوم بتحفيظ  الطلاب القرآن الكريم اعتبارا من عمر سبع سنوات على الاقل, أما المناهج الاخرى مثل علم الحديث والفقه وباقى العلوم الدينية فيبدأ فى دراستها بعد سن المراهقة.

          فى الوقت نفسه فإن هذه الجامعة تمنح شهادة العالمية التى تساوى الماجستير.

          وتنتشر المدارس الدينية التى يطلق عليها احيانا مدرسة وأحيانا أخرى جامعة حتى أنه لايمكن ان تخلو مدينة أو قرية فى باكستان منها, وقد انطلقنا إلى عدد من تلك المدارس مدركين أنه لايمكن بأى حال من الاحوال تغطيتها جميعا وإلا احتجنا إلى سنوات من الانتقال من مكان إلى آخر, وفى مدينة (سوات) القريبة من إسلام أباد قمنا بزيارة  مبنى  المدرسة الإسلامية لتعليم العلوم الشرعية وهى الاكبر فى تلك المنطقة, وبها يتوفر التعليم المجاني للطلبة من المراحل الابتدائية إلى مرحلة الجامعة, وتتخصص  هذه المدرسة فى تخريج  أئمة ومحفظي القرآن الكريم الذين ينتقلون إلى القرى والمدن الأخرى بعد حصولهم على شهاداتهم.

          وتتبع هذه المدرسة جمعية علماء إلاسلام, لكن مناهجها  تفتقر إلى الجانب العلمي, فى الوقت الذى تعتمد فيه على  مدرسة فقهية واحدة في دراساتها هي الحنفية, كما أنها لا تقدم العلوم العصرية من رياضيات وعلوم.

          ومن المدارس أيضا  مدرسة (  دار السلام) في مدينة راوالبندي التى  تدرس العلوم الشرعية إضافة إلى العلوم العصرية. وتتبع لنفس نهجها مدارس (اقرأ) المنتشرة  في مختلف المدن الباكستانية وفي إقليم  كشمير أيضا, وأغلب هذه المدارس يمثل نهجا فكريا يتبنى فكر أبي الأعلى المودودي, الذي تتبناه الجماعة الإسلامية.

          أما  (جامعة العلوم الإسلامية) التى تقع فى  (بنوري تاون) بكراتشى وهى  الأكبر والأشهر على مستوى الجامعات الدينية في باكستان, فهى تضم  طلبة أجانب  ينتمون لما يزيد على أربعين دولة, وقد ازدادت شهرتها بعد ان تم  تصنيفها  كهدف لتداعيات  الحملة الدولية ضد الإرهاب

          وهى جامعة أهلية تنتمي إلى مدرسة الأحناف (الديوبندية) الهندية, ومن الجامعات المعترف بها من  الحكومة الباكستانية وتأسست في العام 1954, وقد افتتحت نحو 20 فرعاً لها في مناطق باكستان المختلفة بعد أن أصبح عدد طلابها أكثر من عشرة آلاف طالب,  إضافة إلى ألفي طالبة في قسم منفصل, وهى تصنف كجامعة داخلية حيث  تؤمن لطلابها المأوى والمأكل والمشرب , إلى جانب إلى المتطلبات الطبية , كما أنها تمنح مساعدات مالية للمحتاجين من الطلبة وخاصة الأجانب الذين يفتقرون إلى الدخل.

          ويتولى ادارة  هذه  الجامعة مجلسان للشورى : مجلس الشورى العام : ويشكله جميع المدرسين والأساتذة في الجامعة و مجلس الشورى الخاص, ويقتصر على كبار الأساتذة.

          والمراحل  الدراسية تشمل  المرحلة المتوسطة, ومدتها ثلاث سنوات والمرحلة الثانوية العامة, ومدتها سنتان. والثانوية الخاصة, ومدتها سنتان, والمرحلة العالية سنتان, والمرحلة العالمية سنتان أيضا, والتخصص في الحديث الإسلامي ومدته سنتان, والتخصص في الفقه الإسلامي ومدته سنتان, والتخصص في الدعوة والإرشاد ومدته سنتان, والتجويد والقراءة وتحفيظ القرآن الكريم وتعليم قراءة القرآن الكريم ودورات تدريبية لطلبة المراحل العليا لدراسة الفرق, أما العلوم التي تدرس في الجامعة فهى علوم  القرآن الكريم ـ الحديث النبوي الشريف ـ المصطلح ـ الفقه الإسلامي ـ الأصول ـ علم الكلام ـ السيرة النبوية ـ التاريخ الإسلامي ـ الصرف والنحو ـ علم المعاني ـ البلاغة ـ الأدب وتاريخه ـ المنطق والفلسفة ـ الرياضيات ـ الجغرافيا ـ بعض اللغات الأجنبية كالأوردو والفارسية والإنجليزية.

          وتضم  الجامعة عددا من الاقسام منها : قسم التجويد, وهو  مادة إلزامية على جميع الطلبة دراستها واتقانها , لاسيما في القسمين المتوسط والثانوي وقسم تحفيظ القرآن الكريم وقسم لتعليم قراءة القرآن الكريم و قسم الدورات التدريبية , ويقتصر على طلبة الدراسات العليا لتبصيرهم بالفرق على اختلاف أنواعها.

          كما تضم الجامعة مكتبة ضخمة من الكتب والمراجع الدينية وقسما منفصلا  للفتوى  , ويصدر عن الجامعة مجلة (البينات) باللغة العربية.

حلقات ومدارس

          قاريء روح الله المدنى, هذا هو اسم وزير الاوقاف فى الحكومة المحلية لإقليم سرحد, الذى التقيناه فى مدينة بيشاور, عندما ذهبنا إلى المدرسة التى ورثها عن والده  وانيط به الاشراف عليها, وقد أطلق عليه لقب (قاريء) لأنه يحفظ القرآن الكريم, ونال لقب (المدني) لأنه درس فى احدى جامعات  المدينة المنورة وحصل على درجة الماجستير منها.

          سألناه عن بداية نشأة المدارس الدينية, فقال : إن باكستان قبل استقلالها فى عام 1947 كانت مع الهند تعيش تحت الانتداب البريطانى, وقبل ذلك بنحو مائة وخمسين عاما لم تكن هناك لامدارس دينية ولاعصرية, بل كان التعليم ينحصر فى الحلقات التى يضمها المسجد, ويقوم رجل دين بتعليمهم الكتابة والقراءة, قبل ان ينتقلوا إلى رجل دين آخر لدراسة علوم أخرى, وهكذا.

          وعندما جاء الاستعمار البريطانى وأراد تغيير تلك الطريقة, التى كان يدرس فى حلقاتها الفقراء وميسورو الحال, والتى كانت تقوم بتخريج رجال دين, ساعيا إلى انشاء مدارس على النمط الانجليزى, بعد ان اكتشف - الاستعمار - ان من يتم تخريجه في هذه المدارس يرفض الخضوع لحكم الانجليز, قام الاستعمار بانشاء مدارس فى كل انحاء الهند, وكانت باكستان فى ذلك الوقت تابعة لها.

          عندئذ فكر علماء الدين فى تحدى هذا النظام البريطانى, وقاموا بالفعل بانشاء أول مدرسة فى الهند أطلق عليها (جامعة دار العلوم) فى (ديوبند), ليتم فيما بعد انشاء مدارس اخرى, أما المدرسة الديوبندية الأصلية فما زالت قائمة فى الهند, وفى باكستان هناك رجال دين يطلق عليهم (الديوبنديين).

          يقول الوزير إن معظم من يكتب عن هذه المدارس لم يزرها, بل ويستقى معلوماته من هنا وهناك.

          ويضيف قائلا : ان هذه المدارس موجودة منذ ما قبل الاستقلال دون ان يثار حولها اى غبار, حتى جاءت ثورة افغانستان التى ثار فيها داود خان على الملك, وكانت هذه المدارس مفتوحة للطلاب الباكستانيين والافغان قبل عشرات السنين, وكان الافغان يأتون ويدرسون ثم يعودون إلى بلدهم, ووقفوا ضد داود خان الذى كان حكمه بداية للنفوذ الشيوعى, وقد قاومه هؤلاء العلماء الذين تخرجوا فى هذه المدارس.

          ولكن بعد الهجرة الافغانية أتى الينا الافغان بأعداد فاقت ثلاثة ملايين نسمة, واستوطنوا (بحكم كونهم أحنافا أولا, وثانيا لكونهم ينتمون إلى نفس العرقية - البشتون - ويتحدثون نفس اللغة - الباشتو)  فى باكستان, وكان هؤلاء يدرسون فى هذه المدارس, ويأتون ثم يعودون من جديد إلى بلدهم.

تعليم وجهاد

          يؤكد وزير الاوقاف ان دور المدرسة انحصر فى التدريس فقط, أما الجهاد أو التدريب فكان يتم داخل افغانستان, ويتساءل: كيف يمكن ان تكون مدارس على الشارع العام أماكن للتدرب على السلاح?   كما ان هذه المدارس مفتوحة ليلا ونهارا لأى شخص, وكيف يمكن اخفاء التدريب فى المساجد بينما الناس تدخلها لأداء الصلاة ?!

          يضيف : ان مئات الالاف تخرجوا في هذه المدارس ولم يذهب منهم للجهاد إلا أعداد قليلة جدا, وهؤلاء ذهبوا برغبة منهم وليس بتوجيه من هذه المدارس, وقد طرحت فى هذا الوقت تساؤلات مفادها : هل الجهاد فرض عين أم فرض كفاية ?, وكان الطلاب لايسألون أهلم ولايستأذنونهم, بل يذهبون برغبة من أنفسهم, بل إن العرب الذين كانوا يذهبون إلى هناك لم يجدوا وقتها من يعترض طريقهم أو يمنعهم.

          وردا على مايثار حول ان الافكار التى يتم تدريسها لهؤلاء الطلاب هى التى توجههم فى النهاية إلى حمل السلاح واللجوء إلى العنف, قال ( إن التطرف موجود فى العديد من البلدان, فماذا تقول عن المدارس فى البلاد العربية الحكومية التى خرجت أناسا منهم من ذهب بعد ذلك إلى أفغانستان للجهاد?, ان التطرف هو نتيجة للاوضاع السياسية, ولو كان التطرف ناجما  عن مناهج أو تعليم فى هذه المدارس, التى ليست هى وليدة اليوم, انما من عشرات السنين, فلماذا لم يظهر التطرف من قبل? فى الثمانينيات مثلا ??).

          يضيف الوزير قائلا ان هناك آثاراً سلبية للثورة الافغانية والحرب بين إيران والعراق, وهناك أوضاع عالمية أثرت فى هذا وهى التى أثرت وليست المناهج فى هذه المدارس, ولو كان ذلك صحيحا لوجد التطرف قبل ذلك.

          أما بالنسبة للحوادث التى حدثت قبل عام فى نيويورك فهى  تنسب إلى التطرف , ولكن هل أى واحد من المتهمين هناك درس فى المدارس الدينية? إن أحدا منهم لم يدرس فى باكستان, وهناك آخرون اتهموا ولم يأتوا إلى باكستان ولم يدرسوا فى هذه المدارس.

          ولاينفى الوزير تخرج اعداد من قادة الطالبـان في المدارس الدينية الباكستانية الموجودة فى بيشاور, ولا ان يكون الملا محمد عمر زعيم الطالبان السابق قد تعلم لبعض الوقت فى مدارس باكستان, غير انه يؤكد ان تلك المدارس خرجت مئات الالوف وربما الملايين من الباكستانيين وغيرهم الذين لاتربطهم أدنى علاقة بالطالبان ولاأفغانستان.

إقبال أكثر

          وعن عدد المدارس الدينية قال وزير الأوقاف انها تصل في إقليم (سرحد) وحده إلى 1400 مدرسة, فيما يصل العدد فى اقاليم باكستان الاربعة وفقا للتعداد الرسمى الحكومى إلى 7044 مدرسة, وكلها بتمويل أهلي, وتبلغ ميزانية المدرسة الشهرية أربعة ملايين ونصف المليون روبية باكستانية, وتأتى هذه الميزانية من تبرعات الأهالى, التى يرفض هؤلاء الحصول على الايصال, مفضلين ان يكونوا من فاعلي الخير.

          وهذه المدارس تقدم العلاج والتعليم والكتب والأكل وتتبنى كل شيء تقريبا, والبعض منها بدأ حديثا في إدراج المناهج العصرية, فمثلا دار العلوم الحقانية لها مدرسة لتدريس العلوم العصرية ومنها علوم الكمبيوتر, وفى بعض المدارس يوجد أكثر من 100 كمبيوتر, وهذا رد على من يقول إن المدارس الدينية لاتقبل العلم الحديث. 

          وعن المناهج العصرية التى تقدمها تلك المدارس الدينية قال الوزير إن المدارس الديوبندية مثلا تقدم فى السنة الاولى مايسمى (الناظرة) وتعني قسم تحفيظ القرآن بالاضافة إلى الأدعية وشيء من الرياضيات, أما فى السنة الثانية فتقدم تلك المدارس الرياضيات إلى جانب تحفيظ القرآن الكريم والأدعية, وهكذا حتى الصف السادس حيث تدخل اللغات العربية والفارسية والانجليزية ضمن المناهج الدراسية فى تلك المدارس بالإضافة إلى العلوم الاجتماعية.

          الغريب أن  آخر إحصائية أجريت فى  بداية شهر سبتمبر 2002 للمدارس الدينية وطلابها فى أقاليم باكستان الأربعة  أظهرت أنه رغم الهجمة الضارية التى تعرضت لها تلك المدارس أخيرا والاتهامات التى تلاحقت ضدها منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر التى شهدتها الولايات المتحدة, متهمة إياها بتفريخ الإرهاب, والحصار الداخلى والخارجى والتدخل لتعديل مناهجها, فإن عدد الطلاب والطالبات  الذين تضمهم  فى العام 2002 بلغ فى المدارس الديوبندية وحدها  102865 طالبا بزيادة بلغت نحو 19000 طالب عن الذين التحقوا بها فى العام 2001.

          وتشير تلك الإحصائية التى حصلنا عليها من وزير الأوقاف إلى أن إقليم البنجاب  يضم 2655 مدرسة بها 48200 طالب وطالبة , ويضم اقليم السند 2457 مدرسة التحق بها 46600  طالب وطالبة, فيما يضم اقليم سرحد 1405 مدارس بها 20824 طالبا وطالبة, وفى بلوشستان توجد 394 مدرسة بها 5130 طالبا وطالبة, اما أزاد كشمير فبها 133 مدرسة  وبها 2261 طالبا وطالبة.

          والاختلاط ممنوع أصلا فى تلك المدارس, غير انه يتم فى المساجد حيث يتم تعليم الصغار من الجنسين قراءة القرآن الكريم حتى سن السادسة من العمر, وعند بلوغ هذه السن  يتم فصل البنات عن الأولاد وإلحاقهن بفصول خاصة بهن.

          أما الطلاب الذين يقومون بمواصلة الدراسة لشهادة الماجستير فى جميع أقاليم باكستان فيبلغ عددهم 2264 طالبا, فيما يبلغ عدد الطالبات فى نفس الشهادة 3384 طالبة, أى أكثر من عدد الطلاب بـ(1120) طالبة, ووفقا لكلام الوزير فإن ذلك يدحض مايقال عن ان تلك المدارس ضد تعليم الفتيات, مؤكدا أن تلك المدارس لم تتأثر أبدا بالأوضاع السياسية, ولابمنع الطالبان لتعليم المرأة.

          فى الوقت نفسه يشدد الوزير على أن الطريقة الحالية التى يتم بها التعامل مع تلك المدارس والتى يتم بموجبها فرض قيود مشددة عليها سوف يكون لها تأثيرات سلبية فى المستقبل, واكد الوزير على ذلك بالقول (نحن مستعدون لأي نقاش, وجاهزون للإجابة عن كل التساؤلات التي تطرح فى أى وقت).

وماذا عن المستقبل?

          بعد هذه الايام التى انطلقنا فيها بين أرجاء باكستان الشاسعة بحثا عن أسباب ذلك الضجيج المدوى التى انهالت تداعياته منذ الحادي عشر من سبتمبر الرهيب والذي مازالت توابعه تصل إلينا فى أماكننا البعيدة, إن  ثمة تساؤلا قد عاد معنا من هناك, بعد ان شاهدنا (بشر الهامش) الذين يعيشون فى تلك الزاوية المهملة من هذا العالم  ويسعون جاهدين للابقاء على الخيط الرفيع الذى يربطهم بالحياة, فلايجدون أمامهم الا أقل الامكانات التى لايمكن اعتبارها كافية لا للتعليم العصرى ولا حتى لذلك الذى ينتمى لعصور أخرى, وتمضى حياتهم على حافة أطراف هذا الزمن فى شح بائس, حيث الامان والعلاج بالكاد فى منطقة تفتك بها الأمية وأنياب الفقر والجهل وجميع ماعرف العالم وماجهل من أمراض, وحيث الامان مفتقد والاطمئنان إلى الغد رفاهة لاتدركها أحلام الفقراء.

          فى مثل هذه الظروف يأتى التساؤل عن مستقبل مدارس توفر لملايين الشبان والاطفال المأكل والمأوى والملبس والعلاج ثم التعليم, وقبل ان يتم توفير البديل تبدأ الخناجر من كل صوب طاعنة فى آخر ملجأ للبشر القابعين فى لهيب تلك البؤرة التى اتسعت حتى صارت ملعبا لصراعات لا تنتهى وموردا للحم حي تم تخصيصه لتجارب سماسرة السلاح والنفايات السامة.

          ان الأمر لايحتاج إلى عقلية فذة لاستكشاف أى  طريق سوف يتجه هؤلاء إليه في مثل هذه الأجواء الضاغطة, لكنها فقط بحاجة إلى من يتقدم لانقاذ هؤلاء من جهل وتخلف وانزواء واحساس متضخم بالضآلة يجتاحهم ويصنع منهم وقودا مجانيا لآلات حرب الآخرين ومغامرتهم الدنسة

 

زكريا عبد الجواد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





جامعة العلوم الحقانية في منطقة (اكوره ختك) التي تخرج فيها عشرة من بين اثني عشر شخصا من هؤلاء الذين حكموا أفغانستان أيام (الطالبان).





شوارع مكتظة وأزقة ضاقت ببشرها وفقر مدقع يطارد البشر في كل دقيقة من أزمنة بيشاور.





وزير الأوقاف في إقليم سرحد قارئ روح الله المدني.





أمير حمزة مدير الجامعة الإسلامية في (نوشيرة).





حلقات دراسية تضمها فصول مفتوحة في مبان شبه متهالكة... لكنها تظل محاولة لتوفير التعليم والغذاء والكساء والعلاج في بلد لا تزيد النسبة المخصصة للتعليم في موازنته على 2% والصحة على 3%.





أحد طلاب المرحلة الجامعية في مشهد دراسي معتاد داخل الجامعات التي عادة ما تكون ملحقة بالمساجد.





التعليم بالنسبة لصغار السن يبدأ بحفظ القرآن الكريم قبل أن يتم تدريس العلوم الدينية لهم.





مشهدان للقاعات الدراسية في المدارس والجامعات الدينية في باكستان التي تشير إحصاءاتها الرسمية إلى أن عدد طلابها يرتفع بنسبة 3% سنويا, فيما يتوقع أن يوازي عددهم في سنة 2010م نظراءهم في المدارس الحكومية.





مشهدان للقاعات الدراسية في المدارس والجامعات الدينية في باكستان التي تشير إحصاءاتها الرسمية إلى أن عدد طلابها يرتفع بنسبة 3% سنويا, فيما يتوقع أن يوازي عددهم في سنة 2010م نظراءهم في المدارس الحكومية.





مدارس تعنى بتوفير كل الاحتياجات لطلابها وفقا لما تتلقاه من تبرعات ومنح من أهل الخير, ويبدأ التعليم الديني فيها من الصباح الباكر وعلى فترتين تمتد الثانية إلى ما بعد صلاة العشاء.





(التشادور) الزي التقليدي للنساء من قبيلة البشتون المنشرة في باكستان وأفغانستان.





بؤس تفسره ملامح حمال في سوق (الذهب) بمدينة بيشاور.





مساجد في كل مكان, وإقبال منقطع النظير على التعليم الديني في أروقتها لدرجة أن عدد المنتمين إلى تلك المدارس ازداد حتى بعد الحملة الشديدة للتضييق عليها.