(ما بعد الصهيونية) انعكاس لحالة... لا تيار فكري

(ما بعد الصهيونية) انعكاس لحالة... لا تيار فكري
        

 

          في عددين متتاليين نشرت (العربي) مقالين حول ما بعد الصهيونية والظاهرة التي باتت محل تساؤلات لدى الكيان الصهيوني. المقال الأول حمل عنوان (المنطق المحال إذا ما استمرت (ما بعد الصهيونية)) - العدد (526) سبتمبر 2002 ص22 للكاتب وجيه كوثراني, والمقال الآخر تحت عنوان (قراءة في فكر (ملوّثو إسرائيل)) العدد (527) أكتوبر 2002 ص 16 للكاتب عبده الأسدي. وهنا مداخلة جديدة حول الموضوع نفسه. 

          تغلب على دراسة ظاهرة ما بعد الصهيونية في العالم العربي النظرة إليها على أنها ظاهرة مقصورة على تيار فكري معين, من الاجتماعيين النقديين والمؤرخين الجدد بالتحديد. وفي تصوّري أن هذه الظاهرة إنما تعبر عن حال عامة وصل إليها المجتمع الإسرائيلي, بناء على متغيرات داخلية وخارجية, وصلت معها التناقضات الداخلية الإسرائيلية ذروتها, ولم يعد من الممكن الاستمرار في العقد الاجتماعي أو القالب الأيديولوجي الصهيوني.

          وللاقتراب من هذا الفهم ينقسم المقال التالي إلى ثلاثة أجزاء تعالج العلاقة بين ما بعد الصهيونية وأزمة شرعية الوجود الإسرائيلي, وما بعد الصهيونية والإجماع الداخلي الإسرائيلي, وأخيرا ما بعد الصهيونية والمصير الديمقراطي الحتمي.

أولاً: أزمة شرعية الوجود

          عندما نتحدث عن القومية العربية فإننا نضع أيدينا على كيان محدد المعالم - على الأقل في المركز - فنحن نتحدث عن الناطقين بالعربية المنتمين إلى الإقليم العربي من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي, ولذا عندما نتحدث عن الشخصية العربية, والثقافة العربية, والتاريخ العربي نتحدث بمصداقية كبيرة, بفضل التواصل المكاني والزمني للتفاعل بين مَن يسمّون العرب.

          وفي المقابل, فإننا عندما نتحدث عن (القومية اليهودية) - والصهيونية تعرف نفسها بأنها (الحركة القومية للشعب اليهودي) - فإننا نقع في وهم مضلل, حيث لا يوجد ابتداء تعريف متفق عليه - حتى بين اليهود أنفسهم - لمن هو اليهودي, ومن ثم يكتسب مصطلح القومية اليهودية محض سمة إعلامية وأيديولوجية بلا أساس واقعي وعلمي. فالبعض يعتبر اليهودية دينا فقط, ومن ثم لا يشكّل أتباعها قومية لأنهم من قوميات مختلفة, والبعض يعتبرها قومية بصرف النظر عن مدى تدين ذلك الذي يقال له اليهودي, واعتمادا على مفاهيم غير متماسكة وشديدة التعميم من قبيل الثقافة اليهودية والاثنية اليهودية. ولا نجد - والحال هكذا - أي مركز يهودي يمكن أن نعزو إليه معظم تجليات واقع (اليهود) في العالم ثقافيا أو اجتماعيا أو دينيا. وتحاول إسرائيل أن تكون بمنزلة هذا المركز الذي يتجه إليه يهود العالم بالولاء ويستمدون منه تميّزهم, ولكنها هي ذاتها تعاني الانقسام حول تعريف من هو اليهودي, كما تتنازع مركزيتها الجماعات اليهودية في مناطق أخرى, لعل أبرزها الولايات المتحدة, ويهودها ذوو سمات مختلفة عن (يهود) إسرائيل من النواحي المذهبية, والموقف من الصهيونية.

          وعلى الرغم من أنها أعلنت أنها وطن الشعب اليهودي, فإن تجمع العديد من الجماعات اليهودية في إسرائيل كشف عن أمرين فتا بقوة في عضد هذا الادّعاء: الأول أن معظم يهود العالم فضلوا البقاء فيما أسمته الصهيونية (المنفى) على الهجرة إلى (الوطن القومي), والثاني أن حياة تلك الجماعات داخل إسرائيل اتسمت بتناقضات وصراعات حادة حول هوية الدولة وهوية المواطن, أكثر مما عكست نوعا من الوحدة والتوافق بين هذه المكونات غير المتجانسة, ولم تزل هذه الصراعات على حالها بل تتصاعد مع الوقت.

          وعلى هذا الأساس لا يمكننا الحديث عن ثقافة يهودية أو تاريخ يهودي أو شخصية يهودية, ولكن يمكن الحديث عن ثقافات وتواريخ وشخصيات يهودية بدرجة أو أخرى.

          في هذا السياق يمكن فهم ما بعد الصهيونية على أنها تجاوز حال من التضليل بشأن (الهوية اليهودية) التي بدا من الواضح عدم الاتفاق على تعريفها داخل إسرائيل نفسها, إلى شيء آخر لم يتحدد. هي - بمعنى ما - اعتراف بفشل المنطلقات الرومانسية القومية الأسطورية, وانطلاق إلى المجهول من أوسع أبوابه, والذوبان في ذَريّته ولاتحدده.

          لقد كانت القومية العربية هي الأخرى وليدة الفكر الرومانسي القومي, ولكنها لم تكن ذا أساس أسطوري, لأنها انصرفت إلى مجتمع عربي محدد الهوية والملامح والخصائص المشتركة, وحتى عندما نتحدث عن انحسار القومية العربية, فإننا لا نعني زوال هذه القومية ككيان اجتماعي, ولكن فقط تلاشي المكون الرومانسي الغربي في الفكر القومي العربي لصالح أبعاد أخرى يصب استرجاعها في عافية الأمة العربية, وبالتحديد استرجاع الأبعاد الحضارية الإسلامية والشرقية لهذه القومية بدلا من عزلها عنها وانفصالها منها. وهو ما يدعم مناعة القومية العربية ضد الذوبان في العولمة والتغريب. وهذا على العكس تماما من ظاهرة ما بعد الصهيونية التي تتجه إلى مزيد من الذوبان في العولمة والأمركة.

          عندما ساد الفكر القومي في مرحلة الحداثة, التي ارتبط بها الفكر القومي والأيديولوجي, كان هذا الفكر يستند إلى مفاهيم واضحة ومحددة في الحضارة الغربية بجناحيها الاشتراكي والرأسمالي, من قبيل الصراع الطبقي, وفائض القيمة, ونظام السوق, وسيادة المستهلك, ولكن في المرحلة الراهنة التي توصف بما بعد الحداثة, التي تنتمي إليها ما بعد الصهيونية, والمابعديات الأخرى, نجد أنها تذهب إلى المفاهيم الأكثر غموضا وإثارة للاختلاف في الغرب وفي العالم, من قبيل حقوق الإنسان, والديمقراطية... تماما مثل مفاهيم أخرى كمحاربة الإرهاب دون تحديد المقصود به. أي أننا في مرحلة انتقال من النسبي الصلب إلى السيولة التامة واللاتحدد, وهذا ما يعنيه وصف المابعد صهيونية, إشارة إلى الانتقال من المحدد - وإن على أسس زائفة - إلى اللامتحدد واللامعروف.

          وتعتبر تجليات ما بعد الصهيونية في هذا السياق تعبيرا صادقا عن إحساس المجتمع الإسرائيلي باستحالة الاستمرار في بناء حياتهم على الأسطورة الصهيونية, وعجزهم عن تحديد البديل. فعندما يقول أحدهم: (أنا صهيوني), فإنه يعني أنه ينتمي إلى أسطورة حاولت دون جدوى فرض نفسها على واقع لا يقبلها. وعندما يقول أحدهم (أنا مابعد صهيوني), فإنه يعلن رفضه الاستمرار في الأسطورة, وانتماءه إلى الأعم الأوسع, الإنسانية, أو حتى اللاانتماء إلى أي شيء, والسؤال العملي الذي يترتب على ذلك هو: لماذا يوجد ما بعد الصهيوني في فلسطين? وما صلته بها? وعندئذ لن تكون ثمة إجابة سوى أن هذا هو الواقع, وبذلك تزول كل الديباجات التي اعتمدت عليها الصهيونية في تأسيس شرعية الوجود الإسرائيلي في فلسطين, وتظهر الحقيقة أن هؤلاء المستوطنين موجودون بفعل القوة التي فرضت ذلك الواقع غير الشرعي, وليس الحق, وهذا بالضبط ما نعنيه بدلالات ما بعد الصهيونية بالنسبة إلى أزمة شرعية الوجود الإسرائيلي.

ثانياً: الإجماع الداخلي

          يقع البعض في خطأ منهجي عندما لا يميّزون بين ظاهرة ما بعد الصهيونية والخصائص العدوانية للسلوك الإسرائيلي تجاه العالم العربي, وبالأخص تجاه الشعب الفلسطيني. فيسود وهم بأن ما بعد الصهيونية تتناقض مع هذا السلوك, وأن القول بوجود هذه الظاهرة وتغلغلها في المجتمع الإسرائيلي يفترض ضمنا زوال هذه الخصائص العدوانية, ولهذا ينكر بعضنا من الأصل هذه الظاهرة, ويفترضون أن إسرائيل لم تتخلص من الصهيونية, ومازالت محكومة بالصهيونية.

          وفي تقديري أن تلك الخصائص المميزة للسلوك الإسرائيلي في الصراع ضد العالم العربي لا ترجع إلى الصهيونية, كما أن دخول إسرائيل حقبة ما بعد الصهيونية لا يتطلب بالضرورة تخليها عن هذه الخصائص السلوكية, لأن هذه الأخيرة إنما تنبع من أشياء أخرى لم تكن الصهيونية سوى غطاء لتبريرها وحشد الإجماع الداخلي عليها, وأقصد تحديداً الدور الإسرائيلي في العالم العربي, وهو الدور الذي تستطيع إسرائيل أن تمارسه وهي صهيونية, وأيضا وهي تتبع صيغة أيديولوجية أخرى أو لا أيديولوجية على الإطلاق.

          هذا الدور - وهو خدمة المصالح الاستعمارية الغربية مقابل إقامة الدولة الصهيونية وتأمينها - عرضته النخب الصهيونية اليهودية وقبلته النخب الصهيونية الغربية اليهودية وغير اليهودية, ولم يزل هذا التعاقد هو أساس الوجود الإسرائيلي واستمراره. وهو يتخذ صياغات مختلفة من العداء للاتحاد السوفييتي السابق إلى العداء للمشروعات التنموية العربية المستقلة أو اتجاهات الوحدة العربية, أو مواجهة الأصولية, أو محاربة الإرهاب حاليا, مقابل الدعم والمساندة السياسية والعسكرية مختلفة الأشكال التي بلغت حد التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة, والشراكة في الاتحاد الأوربي, والعضوية المراقبة في حلف الناتو. ولم يكن هناك فرق في هذا المجال بين سياسات كثير من الدول الغربية التي قد تبدو متناقضة أو حتى متمايزة, على الأقل في هذا الشأن, فالاتحاد السوفييتي كان أول دولة تعترف بإسرائيل, وفرنسا كانت هي الدولة التي ساهمت في إنشاء المشروع النووي الإسرائيلي, إضافة إلى التورط معها هي وبريطانيا في حرب ضد مصر في 1956, وحظر التسلح على لبنان في 1955. الأمر الذي يصح القول معه إن المنطقة العربية تعتبر بؤرة مواجهة حضارية شاملة بين الشرق والغرب, وما تفعله إسرائيل في هذا الصراع هو الانحياز بوضوح إلى الجانب الغربي وفرض إرادته على المجتمعات والأنظمة العربية فرضا, مقابل الحفاظ على بقائها ورفاهيتها.

          لقد أصبحت الصهيونية محل جدل داخل إسرائيل نفسها, وبدت مؤشرات كثيرة لاضمحلال الإجماع الصهيوني والتمرّد على هذا الإطار الجامع الذي لون كل شيء في المجتمع الإسرائيلي بصبغة صهيونية فاقعة, ولم يعد من الممكن الاستمرار في الخضوع لهذه الصبغة ذات اللون الواحد المفروضة على مجتمع شديد التعددية, ويتجه أكثر فأكثر إلى الاندماج في المنظومة الغربية, وما تشهده من تحوّل إلى الفردية وما بعد الحداثة.

          ولذا يمكن اعتبار ما بعد الصهيونية مجرد شأن داخلي إسرائيلي, لا يختلف اهتمام أنصاره والمعبرين عنه وتوجهاتهم كثيرا عن اهتمام الجمهور الإسرائيلي العام وتوجهاته إزاء الصراع الخارجي ضد العالم العربي, ويركزون جل اهتمامهم على هوية إسرائيل, وما يعرفه بعضهم بحتمية المصير الديمقراطي المبني على احترام هوية المواطن بصرف النظر عن دينه أو حتى قوميته (بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل).

          صحيح أن مثل هذه التحوّلات تصطدم في الأساس بظاهرة التطرف الديني وغلبة المتدينين على عملية تحديد من هو اليهودي, ومن ثم فرض قيود على عملية تحديد من هو المواطن, مادامت إسرائيل تعرف نفسها بأنها دولة الشعب اليهودي, ولكن هؤلاء المتدينين هم في الأصل معادون للصهيونية, ويعتبرون أنها اغتصبت الخلاص الرباني الذي على اليهود أن ينتظروه ولا يعودوا إلى فلسطين بالقوة. ويحاولون تلوين المجتمع الإسرائيلي بلون ديني متطرف.

          وصحيح أن انحسار الأيديولوجية الصهيونية كإطار فكري استئصالي للشعب الفلسطيني العربي (التصرف مع فلسطين على أنها أرض بلا شعب), يؤثر سلبيا في سلوكها وأدائها لدورها العدواني في إطار السياسات الاستعمارية, ولكن هذا الدور نفسه يتشكّل ويمكن أن يتشكّل في أغلفة أخرى, من قبيل اعتبار أن الاستمرار في العدوان على الشعب الفلسطيني هو نوع من الدفاع عن الذات ضد الإرهاب الفلسطيني, خاصة مادامت هناك أصوات لاتزال لا تعترف بوجود إسرائيل وتؤكد عدم شرعيتها, أو الدفاع عن قيم التقدم والديمقراطية الغربية ضد محيط متخلف واستبدادي, إلى غير ذلك من الأغلفة التبريرية.

          وبهذا المعنى يمكن أن يستمر العداء في أي إطار صهيوني أو غير صهيوني, المهم أن يكون محل إجماع داخلي. وإذا كانت الصهيونية بالتأكيد لم تعد موضع إجماع داخلي أو بعبارة أخرى إذا كان الإجماع الصهيوني قد تحلل أو في طريقه إلى التحلل, فإن الإجماع الحالي هو إجماع جماعة بشرية تحاول أن تؤسس لنفسها شرعية جديدة تحافظ على وضعها الاستيطاني, وتتكيف مع المتغيرات العالمية, التي تنحو منحى لاأيديولوجي.

          هذه المحاولة لخلق إجماع داخلي جديد على أساس لا صهيوني إنما تتجلى بشكل محدد في مصطلح (الإسرائيلية) كهوية تنحاز إليها الأغلبية في إسرائيل, ومقتضاها أن يكون الانتماء للدولة, بصرف النظر عن العقيدة والأيديولوجية, هو أساس تعريف المواطن الإسرائيلي.

ثالثاً: المصير الديمقراطي

          لقد قادت عوامل عدة النخب الإسرائيلية إلى هذه القناعة بالهوية الإسرائيلية, يمكن فهمها في سياق ثلاثي المستويات: داخلي وإقليمي وعالمي.

          على المستوى الداخلي: لا يمكن إغفال الصراعات الداخلية المحتدمة خصوصا في العقدين الأخيرين حول الهوية, سواء هوية المواطن أو هوية الدولة, والتغير الواضح في موازين القوة الخاصة بمختلف أنماط الصراع وخاصة بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين, واليهود والفلسطينيين, والمتدينين والعلمانيين, وإن لم يصل الأمر بعد إلى حد الانقلاب في هذه الموازين. فرغم السيطرة الواضحة للمعسكر اليهودي الغربي العلماني على الدولة, فإنه يلاحظ ازدياد قوة الأطراف الفلسطينية والشرقية والمتدينة في معادلات القوة الإسرائيلية, على نحو ما يبرزه انفصال الفلسطينيين تدريجيا من الأطر الحزبية الصهيونية واعتمادهم على النفس وتشكيل أحزاب وأطر فلسطينية تعبر عن مطالبهم وانتماءاتهم, وبالمثل ازدياد ظاهرة الانسلاخ اليهودي الشرقي من الأطر اليهودية الغربية, كما نشهده في ظهور أحزاب يهودية شرقية للمتدينين انفصلت من الأطر اليهودية الغربية السائدة, (مثلا شاس هي انفصال عن حزب أجودات يسرائيل, وجيشر هي انشقاق من الليكود), وبالمثل زيادة وزن الأحزاب الدينية وخاصة الشرقية على حساب العلمانيين, وهذه الأطراف الثلاثة الفلسطينيون في إسرائيل, والشرقيون, والمتدينون الأرثوذكس, لم تساهم من الأصل في بناء فكر صهيوني أو اعتناقه, إن لم يكن بعضهم معاديا للصهيونية, على الأقل الفلسطينيون.

          وهذا ملمح مهم من ملامح التحول في البناء السياسي والفكري الإسرائيلي, رغم ما بين كل من هذه الأطراف من تمايزات, وخاصة الفلسطينيين واليهود, إلا أنه يكشف عن تآكل في الوزن العام للصهيونية في المجتمع الإسرائيلي, واتجاه نحو بروز التعددية الاثنية التي تتخذ تعبيرات سياسية تنظيمية, بدلا من قالب الصهر الصهيوني.

          كما لا يمكن إغفال أثر هجرة مليون مهاجر من دول الاتحاد السوفييتي السابق, يقدر غير اليهود منهم بحوالي 60%, في بنية المجتمع الإسرائيلي وهويته. فقد أدى ذلك إلى اشتعال الصراع على هوية الدولة, والصراع على من هو اليهودي, ومن ثم من هو المواطن, وبدا بوضوح أن إسرائيل غلبت معيار الإسرائيلية على اليهودية, عندما قبلت هؤلاء المهاجرين لدعم وجودها وعدم تساويها في الصراع الديمجرافي مع الشعب الفلسطيني, وأصبح واقع التعددية والتعبير عنه حقيقة دامغة تتجاوز الإطار الأيديولوجي الصهيوني, خاصة أن دوافع هؤلاء إلى الهجرة إلى فلسطين لم تكن صهيونية, كما أنها ليست يهودية, وأنهم يحتفظون بسماتهم الثقافية والسلوكية التي وفدوا بها إلى فلسطين, وقد اعترفت الدولة بهذا وأنشأت لهم مؤسسات إعلامية ناطقة بالروسية, وقبلت ظهور أحزاب اثنية روسية تعبر عن عدم رغبتهم في الاندماج في الصهيونية كأمر واقع ونهائي.

          أما فيما يتعلق بالمستوى الإقليمي, فتكفي في هذا المجال الإشارة إلى ثلاث حقائق مؤثرة, تنبع من محصلة الصراع العربي - الإسرائيلي:

          الحقيقة الأولى هي أن حروب إسرائيل المتتالية ضد العالم العربي هزّت أسس الصهيونية من زاويتين إحداهما ظهور الوجه التوسعي اللاأخلاقي للصهيونية أمام الجماهير, ويمكن القول إن المواجهة غير المتكافئة الحالية بين إسرائيل والشعب الفلسطيني تؤكد ذلك تماما, وتجرّد الأداة القتالية الإسرائيلية من أي غطاء أخلاقي, وتجعل أعمال الجيش أقرب إلى القتل منها إلى القتال, وهو ما كان سببا لرفض كثير من العسكريين الإسرائيليين الخدمة العسكرية في هذا التوقيت, لأسباب ضميرية, ناهيك عن الكتّاب والمفكرين الذين يؤكدون هذه الحقيقة. والزاوية الأخرى هي أن تلك الحروب أكّدت أنه في حين كان المقصود أن تكون إسرائيل ملاذا آمنا لليهود في العالم من الاضطهاد, فإن الحقيقة تقول إن أكثر من يتعرضون للموت والمخاطر هم اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين, في حين أن اليهود الذين آثروا البقاء في أوطانهم هم الأكثر أمنا ورفاهية, وهذا ما ينعكس بوضوح في الهجرة المعاكسة لليهود من فلسطين إلى خارجها. وهكذا بدأ الإسرائيليون يفكرون بمنطق المقارنة بين الدولة والعائد منها, ويتوجهون إلى خيارات جذرية أخرى.

          والحقيقة الثانية هي أن الصهيونية حشدت المجتمع الإسرائيلي للحرب والصدام مع العالم العربي تحت أسطورة شهيرة تقول إن اليهود دائما مضطهدون من الآخرين, وليس أمامهم سوى خيار عدم الاندماج ومبادلة هؤلاء الآخرين الكراهية, وقد فند الواقع هذه المقولة الصهيونية من زاويتين متكاملتين, وهما أن العالم العربي قبل بوجود إسرائيل, على أعلى مستوى رسمي وبشكل جماعي, واعتبر خيار السلام خيارا استراتيجيا, وفي وقت من الأوقات كان لإسرائيل علاقات دبلوماسية متنوعة مع ست دول عربية على الأقل, إلى أن حدث الانقلاب على عملية التسوية بفوز بنيامين نتانياهو في انتخابات 1996, وبداية التدهور الحاد في تلك العملية. وعلى هذا فإنه توجد بالفعل خيارات أخرى غير المواجهة الحتمية. أضف إلى ذلك أن الفلسطينيين العزل الذين تعمل فيهم إسرائيل مختلف وسائلها العسكرية وبشكل مفرط, يبدون هم المضطهدين وليس اليهود, ومثل ذلك يقال عن المستوى الرسمي العربي الذي يطلب السلام أكثر مما تطلبه إسرائيل.

          والحقيقة الثالثة أن انتصارات إسرائيل المتتالية على العالم العربي, وخصوصا في 1967, قد أوصلت إسرائيل إلى ذروة التوسع, والاغترار بالقوة, وأكدت الوجود الإسرائيلي كأمر واقع قبلته الدول العربية جميعا, وقبلت مقايضته بالأراضي المحتلة في 1967. وهذا أدخل الطمأنينة على الإسرائيليين, وجعلهم يعيشون مرحلة الاستهلاك بدل الإنتاج, والرفاهية بدل التقشف. وفي مثل هذه الحالة تنمو اتجاهات الفردية, ويتم التفرغ لمناقشة الثوابت الأيديولوجية, ويجد المجتمع فسحة لنقد مقولاته الأساسية, وتفتح الطريق أمام روايات أخرى للتاريخ غير الرواية السائدة, كما يظهر الاهتمام بقطاعات أخرى من المجتمع غُمط حقها بسبب ارتفاع صوت المعركة على أصواتها, ومن أولئك المثقفون والشرقيون والنساء والأقلية الفلسطينية.

          وأخيرا على المستوى العالمي, يلاحظ أن الصيغة (الأيديولوجية القومية) ارتبطت بفترة السيادة الأوربية ولم تعد لها بقية في عصر الأمركة والعولمة, باستثناءات قليلة وإن كانت متفجرة في وسط أوربا وشرقها أساسا, وهي بمنأى عن إسرائيل التي يبدو بوضوح أنها اعتنقت المنظور الأمريكي للعالم, وهو منظور لا قومي, فردي, وتعددي, وناهيك عن أن محاولات الولايات المتحدة /الغرب لفرض شكل جديد للمنطقة العربية إنما يتطلب السيولة الكافية لهذه المنطقة حتى تتم عملية إعادة التشكيل الشرق أوسطية والمتوسطية ويتم تحييد الهوية العربية (القومية), وهو أمر يتطلب تسييل مختلف الهويات والأيديولوجيات التي تعترض هذه العملية, ومنها الصهيونية, على الأقل في صيغها الأكثر نتوءا وتطرفا, وذلك لصالح إسرائيل نفسها التي يؤدي دمجها في الإقليم إلى تطبيعها, ومزيد من الأمن والرفاهية, وإن كان ذلك على حساب الهوية, وهو ما كان محلا لصراع جديد داخل المجتمع الإسرائيلي بين مؤيدي الإندماج الإقليمي ومعارضيه, وخاصة من اليمين المتدين والعلماني.

تناقضات الواقع

          إن ما بعد الصهيونية ظاهرة إسرائيلية, تعكس حالة وليس مجرد تيار فكري يتبنى مقولات معينة, وهذه الظاهرة وثيقة الصلة بالصراعات الداخلية الإسرائيلية, والسؤال من هو اليهودي, ومن هو المواطن, وهي تعكس تحولا نحو التعددية والديمقراطية بحكم الأمر الواقع ووصول التناقضات إلى ذروتها, ويظل موقفها من السلام مع العالم العربي مرهونا بمدى الخطر الذي يمثله استمرار الصراع, والمكاسب التي تعود من تسويته, وليس بالضرورة أن هذه التحولات ستفضي إلى جنوح المجتمع الإسرائيلي إلى السلام من تلقاء نفسه

 

جلال الدين عز الدين علي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات