الترجمة وتفاعل الثقافات عبور على جسور حضارية سليمان إبراهيم العسكري

الترجمة وتفاعل الثقافات عبور على جسور حضارية

في أغسطس المثقل بذكرى أليمة تعرضت فيه الكويت وشعبها لغزو جائر من نظام عدواني غادر, أذاق شعبه الويل قبل أن يتوجّه بعدوانيته إلى الجيران.. في هذا الشهر ينفتح أمام الكتابة سبيلان: أحدهما يستذكر وقائع ما حدث ليؤكد رفض منهجه ورفض تكراره, والآخر يؤكد هذا الرفض ولكن بالتكريس لمناهج بديلة, تؤطّر شروطًا للبناء الحضاري الذي بات العرب في أمس الحاجة إليه, والترجمة شرط من هذه الشروط.

  • لم تكتف الحضارة العربية الإسلامية بذاتها فأخذت - عبر الترجمة - من ثقافات الغير وطورت ما أخذته فعرفت عصور الازدهار
  • ينبغي التخلص من مواقف التربص بالآخر ثقافيًا حتى تتحول الترجمة إلى جسور حضارية تعبر بالجميع إلى مزيد من النور
  • الثقافة العربية لايمكن أن تكون (غير مفهومة) في الغرب لأنها احتوت التراث الإغريقي عند نهوضها وفتحت الكثير من مخيلتها للخيال الغربي

كان ابتداء الصيف في القاهرة رحيمًا هذا العام, فدرجة الحرارة ظلت توحي بمناخ ربيعي بعد سنوات من اشتداد الحر وغياب الربيع في معظم البلدان العربية. وبينما كنت أعبر الجسر الموصل إلى الجزيرة التي تنهض في قلبها دار الأوبرا المصرية, والمجلس الأعلى للثقافة الذي يقيم (الملتقى الدولي الثاني للترجمة وتفاعل الثقافات), كنت أفكر في أن الطبيعة تؤازر أشواق الثقافة والمثقفين, فتمنحهم هذا المناخ الاستثنائي حتى يدخروا طاقتهم للبحث في شأن من أكثر شئون الثقافة حساسية وفعالية, في الأمة الواحدة, وبين مختلف الشعوب.

جسر (قصر النيل) الذي كنت أعبره يوميًا خلال فعاليات (ملتقى الترجمة) كان يلوح لي كرمز, ومفارقة, لا مجرد بناء يوصل بين ضفتين, فهذا الجسر يوصل بين القلب الحديث لأكبر العواصم العربية, ومجموعة من المنشآت الثقافية المهمة التي تبرز بينها دار الأوبرا كملمح من ملامح التعاون الثقافي الدولي, وهذا الجسر نفسه كان معبرًا لثكنات قوات الاحتلال البريطاني لمصر في الفترة الاستعمارية.

فكأن الجسر الواحد, يوحي بمنهجين للتفاعل بين الشعوب: أحدهما حضاري يُعلي من شأن الثقافة والتبادل الثقافي في رحاب التكافؤ الإنساني, والآخر يفضي إلى الاشتباك الذي يخلقه القهر - اللاثقافي - للشعوب.

وكان عبور الجسر في مطلع هذا الصيف الرحيم, حضاريًا, بل يشكل القلب في كل نزوع حضاري قوامه الثقافة. فصفحات التاريخ المتاحة للعموم, تخبرنا كيف كانت الترجمة هي الخطوة الأولى, والأهم, في مشوار كل حضارة صاعدة, والمثال الأقرب إليها هو الحضارة العربية الإسلامية في عهودها الزاهرة, فقد ارتقت هذه الحضارة عبر ترجمة الإنجازات العلمية والفكرية لمن سبقوها من الإغريق, والفرس, والهنود, ولم تكتف بحفظ هذا التراث الثقافي الإنساني بل عملت على تطويره والارتقاء به, فتطورت هي, حتى صارت الحضارة الأبرز في فترة مشرقة من فترات التاريخ الإنساني. ثم انتقل مشعل هذه الحضارة إلى الغرب الذي اجتاز ظلمات العصور الوسطى وانكب على ترجمة ما حفظه وطوره العرب والمسلمون, ومن هذه الترجمات بدأت الحضارة الغربية سطوعها الحديث الذي لايزال سائدًا وغالبًا حتى لحظتنا هذه.

لقد انعقد هذا الملتقى الدولي الثاني للترجمة الذي يقيمه المجلس الأعلى للثقافة في مصر تحت عنوان (الترجمة وتفاعل الثقافات), محتفيا بإنجازين في حقل الترجمة يفصل بينهما قرن كامل من الزمان, بالرغم من أن الإنجازين يتعلقان بعمل إبداعي واحد صار من الرموز في تراث البشرية, وهو إلياذة هوميروس. وهذا كله يشكّل دلالات, ويطرح أسئلة, لا تقف عند حدود التخصص المتعلق بالترجمة, بل تفضي إلى رحاب الأسئلة المهمة في مجال الثقافة العربية, والتثاقف المتفاعل مع الآخر, والذي بات ضرورة تحتمها المصالح والأخلاق معًا.

قرن من الزمان

في مساء الثلاثاء الموافق الرابع عشر من يونيو عام 1904 شهدت القاهرة حدثًا ثقافيًا استثنائيًا - بمعايير ذلك الزمان وحتى بمعايير زماننا هذا - فقد قررت الحياة الثقافية العربية أن تحتفي بإنجاز الترجمة الكاملة لإلياذة هوميروس, التي عكف عليها سليمان البستاني طوال عشرين عامًا من الجهد الخالص والتفاني المدهش, ونشرت في القاهرة في ذلك العام البعيد (1904). كانت تلك هي المرة الأولى التي يقوم فيها أديب عربي بترجمة إحدى الملاحم الأوربية الأساسية, بل إحدى الملاحم الأهم في التراث الأدبي الإنساني, إلى العربية. ولم تكن تلك مجرد ترجمة, إذ قدمها البستاني نظمًا شعريًا, وقدم لترجمته بدراسة موسوعية شاملة عن هوميروس وشعره, مع مداخلة عميقة, تدخل من أوسع الأبواب في متن الدراسات الجادة في الأدب المقارن, عن ملامح الاتفاق والاختلاف بين آداب العرب واليونان القدامى الذين ينتمي إليهم هوميروس (بغض النظر عما ذهب إليه بعض الدارسين من أن الإلياذة لم تكن إبداع فرد بل جماع مساهمات إبداعية عديدة لأمة وأجيال من أبناء الحضارة الإغريقية).

لقد كانت مأثرة البستاني الفردية دالة على زمن من الأشواق المضيئة للمثقفين العرب, في مطلع قرن يلوح بالمتغيرات الهائلة خارج أوطانهم, ويستفز قرائحهم وهممهم للخروج من ربقة آلام وظلامات تكتنف أركان بلادهم, المرتهنة في قبضة استعمار أناني من جهة, والمثقلة برواسب مفاهيم تقليدية ذاتية تضيف الإعاقة الذاتية - إلى الارتهان للغير - من جهة أخرى.

كانت ترجمة البستاني المبكرة للإلياذة لمحة ثقافية عربية تؤكد على الوعي بأهمية الحوار بين المثقف العربي وتراثه الإبداعي, وتراث غيره من الأمم.

وكانت تلك الترجمة تدشن الدور الخلاق للمترجم, كوسيط متميز يصل القراء العرب بالثقافة الإنسانية, لا تكريسا لإزاحة الأصيل أمام الوافد كما يزعم بعض المرتجفين خوفًا من حضارة الغرب, بل لإغناء الأصيل بروافد تزيده ثراء وتنوعًا وتفتح أمامه أفقًا فسيحًا من المعارف والإبداعات الإنسانية.

كان إنجاز سليمان البستاني - كما قال د.جابر عصفور في مستهل أعمال الملتقى - (إسهامًا أصيلاً في تأسيس نهضة ثقافية. كانت - ولاتزال - سبيلاً إلى التقدم الذي يستبدل الانفتاح بالعزلة, والبراح الإنساني بالتضييق الاعتقادي والتعصب العرقي). أو بقول آخر: (كانت مستهل عهد جديد من المثاقفة بين الشعوب والتفاعل الحضاري بين الأمم).

في يوم الثلاثاء البعيد ذاك - الرابع عشر من يونيو 1904 - تضامنت الحركة الثقافية العربية تضامنًا نادرًا وجميلاً للاحتفاء بالحدث, والتأكيد على مراميه النهضوية والتنويرية, فقد تبارت الصحف في الكتابة عن الترجمة والمترجم, واكتتب مائة من رموز الفكر وأصحاب الرأي من أعلام ذلك العصر للاحتفال بالحدث الثقافي الكبير, وانضمت (لجنة إحياء اللغة العربية) التي كان يرأسها الإمام محمد عبده إلى المكتتبين, وأقامت القاهرة احتفالاً قوميًا مهيبًا مساء ذلك اليوم في فندق شبرد, وحضر الاحتفال حشد كبير من الأسماء البارزة في ذلك الزمان, عرب من أقطار مختلفة, وأجانب, مطربشون ومعممون, رموز المجتمع المدني ورموز طوائف دينية عديدة, أهل علم وأهل سياسة.. طيف رائع من الأسماء, يُذكر منها: سعد زغلول, وعبدالخالق ثروت, ومحمد فريد, والشيخ محمد عبده, والشيخ محمد رشيد رضا, وإبراهيم اليازجي. وقد بدأ الاحتفال بكلمة يعقوب صرّوف المكلف بتقديم الخطباء الذي استهل كلمته بفرح غامر وأمل ممدود: فرح بذلك الاحتفال الثقافي الذي كان الأول من نوعه في ديار المشرق, وأمل بأن يكون ذلك الاحتفال فاتحة لاحتفالات أخرى كثيرة تقام تحية للعلم والمعرفة وتقديرا لكل صاحب إنجاز ثقافي متميز.

تلك النُخب المضيئة

إن من يقرأ عن ذلك الاحتفال الجميل منذ قرن من الزمان مضى, لابد أن يحس بمدى البهاء الذي كانت تتجلى به النُخب العربية والذي تشع به أضواء ذلك الاحتفال البعيد القريب. فثمة معانٍ نفتقد الكثير منها الآن, ولا يبقى منها إلا القليل النادر. فالاحتفال كان ينطق بوجود شرط لازم لكل من ينتمي إلى تلك النُخب, وهو شرط الثقافة, أو على الأقل احترام الثقافة, لدى قادة سياسيين بارزين مثل سعد زغلول, واقتصاديين مرموقين كطلعت حرب. كما أن الثقافة - وتراثها وتراث الغير - كانت مناط احترام رجال دين مرموقين وإصلاحيين بارزين مثل الشيخ محمد عبده, والشيخ محمد رشيد رضا.

ولا يخفى في غمرة أضواء ذلك الحفل البعيد, مدى التسامح الديني العميق بين أبناء البلد الواحد, والأمة العربية العريضة, كما لا يخفى ذلك الانتماء بين أبناء كل الأقطار وكل الأطياف الدينية والثقافية والسياسية, للعروبة الجامعة, واللغة العربية التي تفتح أذرعها للثقافات الإنسانية في أي لغة كانت.

إنها قيم, لا نقول باندثارها, بل نرصد خفوت أصواتها, بدرجة أو بأخرى, وسط ضوضاء الألوان الغريبة من التعصب الديني والدنيوي, والهرج السياسي والاجتماعي, ودعوات الاستئصال والعزلة التي يروج لها البعض من المحسوبين على النُخب لدينا, ومن حولنا.

إنه زمن صعب من أزمنة الثقافة ذلك الذي نعيشه, لكن هناك بوارق أمل وعلامات إصرار لإعلاء قيم الثقافة الحقة, والتي هي إنسانية, ومنفتحة بالضرورة. هذا الملتقى الذي أتحدث عنه هو مثال لتلك البوارق من الأمل وتلك الإشارات من الإصرار الثقافي على التثاقف بين أبناء الإنسانية الواحدة وسكان الكوكب الواحد, بعيدا عن الاحتراب والتنابذ والأنانية الطاغية في الاستئثار والاستعلاء على الآخرين.

لقد انعقد ملتقى القاهرة الثاني للترجمة - إضافة لجدول أعماله التخصصية - محتفيا بذكرى الترجمة البعيدة للإلياذة على يد سليمان البستاني, ومحتفلاً بترجمة جديدة للإلياذة, تختلف عن سابقتها بأنها مترجمة عن اللغة اليونانية مباشرة, وقد قام بها فريق من المختصين في اللغة اليونانية بقيادة الدكتور أحمد عثمان, وظل هذا الفريق يدأب في الترجمة طوال ست سنوات حتى تكلل الجهد بإنجاز الترجمة الحديثة في كتاب ضخم الحجم فاخر الطباعة, توافر بين أيدي القراء مع أول أيام ملتقى الترجمة, فكان تأكيدًا على السعي البحثي بتقديم إنجاز ملموس لملحمة إبداعية تخص كل البشر من عشاق الثقافة الرفيعة, وتؤكد على القيم المتوخاة للحوار مع الآخر, والتفاعل الخلاق في العطاء والأخذ, والتسامح في إطار الخير والعدل والجمال.

إن الخيط بين الترجمتين, القديمة والحديثة, للإلياذة, يوصلنا من خلال الفعل إلى معانٍ عديدة ودلالات تنويرية, ثم هو يمضي بنا ليتفقد الحاضر, ويتطلع إلى المستقبل, عبر أداة من أرهف وأهم أدوات التثاقف, أي الترجمة, فلنلق نظرة طائر على تلك الفعاليات, ونتأمل ما يمكن أن تتمخض عنه, أو تقود إليه.

لقد تضمن الملتقى مداخلات لأكثر من ثمانين باحثا ومترجما, من بلدان عربية عديدة, ومن بلدان غير عربية مثلها أبناؤها من المستشرقين أو المستعربين الذين يعنون بشأن ترجمة الأدب العربي, على الأغلب, ومن ثم يمكننا أن نضعهم باطمئنان كبير في خانة المحبين للثقافة العربية وللعرب, لأنهم يرتبطون بأفضل ما يمكن أن يقدمه العرب للآخرين. وهل لدينا شيء أفضل من الثقافة يمكن أن نقدمه?!

نموذج من صفاء القصد ومحبة العرب والثقافة العربية لدى مترجمي الأدب العربي من الغربيين, مثلته المستعربة الإيطالية (إيزابيلا كاميرا دي فيليتو) التي تحدثت عن تجربتها في الترجمة إلى العربية التي وصفتها بأنها (الهاجس الجميل) فقالت: (ككل المترجمين في العالم, أصابتني لوثة ذلك المرض العذب الذي يصيب المترجم, أي لذة إعداد كتاب تتحول فيه الترجمة لمدة أشهر إلى الملجأ الشخصي, والمكان الذي تقضي فيه وقتك حتى تتناسى ذاتك, وتستيقظ في عمق الليل لأن ذهنك استحضر فجأة تلك المفردة التي تفتش عنها, وتشعر بأنها الحل المناسب, يا له من شعور بالارتياح!).

وتضيف (إيزابيلا دي فيليتو): (كنت كلما غصت في الترجمة أتنبه لثراء الثقافة العربية ومن جانب آخر لجهل الغرب بالثقافة العربية وبخاصة المعاصرة).

إذن, نحن أمام نوع من الإخلاص في معرفة الآخر عبر ثقافته, والوسيلة هي الترجمة. من ناحية نرى إيزابيلا دي فيليتو (إيطاليا), وروجر آلان (أمريكا), وتشووي ليه (الصين), ودانييلا روديكا فيرانيسكو (رومانيا), وهارتموت فاندريش (سويسرا), وشتفان فايدنر (ألمانيا), ومرجاريتا كستيلز (إسبانيا), وهؤلاء مجرد أمثلة تستحضرها الذاكرة من حضور ذلك الملتقى الذي نتحدث عنه. ومن الناحية الأخرى - أي من الجانب العربي - نرى إخلاص سليمان البستاني الذي أنفق عشرين عامًا من عمره لينجز أول ترجمة كبيرة لإحدى أشهر الملاحم الأوربية, ثم الفريق الذي أنجز الترجمة الأحدث للملحمة ذاتها - الإلياذة - بعد ستة أعوام كاملة من العمل والبحث والتدقيق في لغتها الأصلية.

هذا الإخلاص الذي يصل إلى حدود التفاني في الترجمة, هل يستحق من الجانبين ذلك?

الإجابة يسوقها أحد المستعربين في مداخلته في الملتقى إذ يقول: (ونحن كمترجمين وباحثين, وفي نطاق محدودية المقدرة البشرية, حاولنا تفعيل الحوار الحقيقي بين الثقافات, الذي يكثر الحديث بشأنه في هذه الأيام ليتسنى لنا مواجهة المشاكل المعقدة لعالمنا هذا).

بهذا الإيجاز يتم تأطير الدور الهائل الذي تقوم به الترجمة, خاصة الثقافية, وفي مركزها الأدب, كمقياس لنبض الشعوب ومعيار لسبر أغوار المشاعر, وهو دور أخلاقي إنساني يؤسس لمبدأ الحوار عبر المعرفة تطبيقا لقول سقراط (أعرف أني لا أعرف), وهذا يعني التواضع الذي يتيح حرية المعرفة وصدق دوافعها عبر الترجمة, ومن ثم ينشئ قاعدة صحية لحوار حقيقي بين البشر, وهو حوار نحن في أمس الحاجة إليه الآن وهنا, ولا أقصد بالآن وهنا عالمنا العربي, بل أقصد سكان هذا الكوكب في هذه الفترة المضطربة والمثقلة بسوء الفهم المتبادل بين الأنا والآخر, من ضفاف عديدة, وزوايا مختلفة.

تقنيات التواصل

لقد عبر هذا الملتقى عن أهمية الترجمة كأداة للتثاقف, ومن ثم التواصل بين الشعوب, لكنه أبرز أيضا وجود الكثير من العوائق التي تشوه هذا التواصل أو تعطله, وقد يكون على رأسها تعمد عدم فهم الآخر, أو سوء فهمه. فمن جانبنا هناك من يختزل الآخر - الغربي كمثال, في الإطار السياسي والاقتصادي الضيق, فيتحول إلى مجرد عدو, وتصير حضارته مجرد نمط استهلاكي, وقيمه مجرد زوائد وافدة تهدد خصوصيتنا وأصالتنا. هذا يحدث, ومن الجانب الآخر هناك من يصنّف ثقافتنا كثقافة معادية للغرب أو على الأقل (غير مفهومة) وهو ما عبر عنه الدكتور جابر عصفور في مداخلته, فعندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988عرضت شبكة تلفزيون أمريكية برنامجًا خاصا بتلك المناسبة شارك فيه من الجانب الأمريكي (كريفور لغاسك) أستاذ الأدب العربي في جامعة متشجن, والدكتور دونالد هيردوك, صاحب دار نشر (القارات الثلاث), ومن الجانب العربي كان هناك الدكتور عصفور وعدد من المثقفين العرب. وعندما سئل (لغاسك) بوصفه أستاذا للأدب العربي ومترجما لبعض روايات نجيب محفوظ عمّا إذا كان محفوظ يمكنه أن يصبح كاتبًا له مكانته في الثقافة الغربية مثل بعض الكتّاب الروس أو الفرنسيين أو الألمان الذين فازوا بجائزة نوبل? أجاب بالنفي, وكانت حجته أن نجيب محفوظ ينتمي إلى ثقاقة (لا يفهمها الغرب).

ادعاء (عدم الفهم) هذا قد يكون الصيغة الأكثر تهذيبا لمفهوم آخر يسوقه البعض في الغرب - لغايات سياسية معروفة - هو أن الثقافة العربية الإسلامية (ثقافة معادية) للثقافة الغربية, وهذا ادّعاء يمكن دحضه بسهولة, وبمجرد استرجاع تاريخي لتعاقب الحضارات وازدهار الثقافات, فما من ثقافة إلا أخذت من سابقتها, الثقافة العربية الإسلامية لم تكن مكتفية بذاتها, ومن ثم احتاجت في بداياتها إلى خبرة ثقافات الحضارات الأخرى, ومنها الثقافة اليونانية القديمة التي كانت مهدًا للثقافات الغربية, ومن ثم, فالثقافة العربية تتضمن في جوهرها معطيات الثقافة الغربية الأساس, أي الإغريقية, فإذا كان الأمر كذلك فكيف تكون ثقافة غير مفهومة للغرب?!

ثمة أمر بديهي آخر في مسألة (الثقافة غير المفهومة) هذه, فالخيال الغربي, بكل أطيافه, مدين - باعتراف معظم الكتّاب والنقاد الغربيين - لأجنحة الخيال الشرقي عموما, والعربي منه على وجه الخصوص, والمثال الأوضح هو ألف ليلة وليلة التي تشيع في الغرب تحت مسمى (الليالي العربية), والتي يقول عنها (بول شاوول) في بحثه المقدم للملتقي: إن (ألف ليلة وليلة شرعت النثر على عوامل التخيّل والغرائبية والشفوية الروائية, أي جعلت النثر لغة جديدة, تنقل اللاوعي التاريخي والجماعي, محدثة خروجًا شبه كلي على التقاليد الكتابية, وعلى مفهوم الأنواع والأجناس, وهذا ما ورثته الرواية الغربية الحديثة كمصدر من مصادر أن التخيل هو الوجه الآخر للواقع).

فإذا كان لعمل فني يضج باللمسات الإبداعية العربية كل هذا التأثير في المخيلة والإبداع الغربيين, فكيف تكون الثقافة العربية - وإبداع المخيلة العربية في قلبها - (ثقافة غير مفهومة) في الغرب?

الاغتناء بالمختلف والمغاير

إن التربص للآخر, الثقافي, ليس موقف البعض, في الغرب فقط, ولكنه موقف الكثيرين لدينا أيضا. وهو موقف لا يقف عند حدود التعسف تجاه الغير, بل يضر بالذات - غربية كانت أو عربية - لأنه يحرمها من عبور جسور الرغبة في المعرفة, ويحرمها من الاغتناء بمعطيات الآخر. ومن ثم فإن واجب المثقفين الأول, خاصة في حقل الترجمة, هو إحباط نوازع التربص, وإبدال هذه النوازع برغبات المعرفة والاغتناء بالمختلف. ولاشك أن هذا الملتقى الدولي للترجمة الذي عقد في القاهرة, مطلع هذا الصيف الذي كان رحيما, أكد على هذا المعنى, من خلال تنوع بحوثه التي فاقت الثمانين, ومن خلال اللقاء المباشر بين المترجمين والباحثين من الضفتين - العربية والغربية - والعديدين من أبناء الثقافة الشرقية من أطراف آسيا. وهذا في حد ذاته مهم وكثير, ناهيك بشئون وشجون الترجمة والمترجمين - من كل الأطراف - وهذا موضوع آخر!

 

سليمان إبراهيم العسكري