بسيطاً في شكله كان ذلك القلم, ولكن وظيفته كانت خطيرة وساحرة ومدهشة.
كان يشفي المرضى, ويحضر الغائب, ويقرب البعيد, وينقل الأشواق, ويطرد الجن من
الأجساد المسكونة, ويعتقل الصور الشاردة والحالات الواردة والذكريات الهاربة, ويخطط
الرسومات ويهندسها, ويلونها, وذلك بألوان نباتية برية, وأخرى مستخلصة من أحمر
البيض, هكذا رأيت القلم لأول مرة.
رأيته في يد الفقيه في (الكتّاب) وفي يد الكاتب العمومي في السوق, وفي
يد من يشتغلون مع (المخزن) في (بيرو عراب), فاحترمته, وعشقته, وقدسته, ولحقني منه
شيء من الخوف مرة, وشيء من الرهبة مرة أخرى.
وعرفت لماذا أقسم الله بالقلم, ولماذا أمر نبيه الكريم أن يقرأ,
ولماذا ربط العلم بالقلم, والقلم بالعلم. وفي البدء, كان اللوح وحده. كان كتابي
ومكتبتي وشاشتي التي أنظر إليها, وأتأملها, صباح مساء, والتي لم تكن إلكترونية, كما
هي اليوم.
صقيلاً كان ذلك اللوح, وصافياً وطاهراً, كالسماء في عز الصيف, وكان
ذلك القلم القصبي حاضراً, يملك وحده القدرة على تأثيث كل الفضاءات, وملء كل
الفراغات, وتسويد كل البياضات, وكنا نغمسه في المداد وفي الدواة, وكنا نغرسه -
وكأنه السيف أو الرمح أو الخنجر - عميقا في جراحاتنا النازفة, وكنا نتعجب, في براءة
أو في خبث, كيف تكون كتابتنا على اللوح, أو على الأوراق البيضاء, أو على الجدران
العذراء, تكون باللون الأسود, ولا تكون باللون الأحمر? وكيف لا تتخضب أصابعنا
الكاتبة بالدم?
اليوم تغير كل شيء, وأصبح العصر عصر الصورة, ودخلنا عتبة الكتابة بغير
الأقلام وبغير المداد وبغير الدواة وبغير اللوح الذي كنا نكتبه صباحاً, ونمحوه
عشية, ونجعل ما في السطور ينتقل إلى الصدور.
ذلك المحو إذن لم يكن محوا (كاملا), وذلك لأنه كان مسكوناً بالحفظ,
وكانت ذاكرتنا العذراء والبيضاء كناشنا وكراستنا وكتابنا المفتوح على الحياة, في
تعددها وتجددها, وتلونها, وتداخل أشكالها وألوانها, ولهذا, فقد كان من الضروري أن
يفرض التساؤل التالي نفسه:
- إلى أي حد يمكن لهذه الذاكرة أن تستوعب كل شيء, وأن تقبض على عقارب
الساعة المجنونة والحمقاء?
- وهل بإمكانها أن تستوعب الكلمات والعبارات والصور المتلاحقة
والحالات المركبة والمشاهدات المتداخلة, والإشاعات المصنعة, والحكايات والمعتقدات
والخرافات والاجتهادات والخيالات والشطحات الصبيانية الغريبة?
وكان لا بد من الورق, وذلك من أجل تدوين الأفكار واعتقالها,
ومصادرتها, والرجوع إليها, وذلك للتواصل بها - ومن خلالها - مع المعرفة أولا, ومع
الذات ثانياً, ومع الآخرين ثالثاً, ومع الماضي رابعاً, ومع المستقبل خامساً, ومع كل
العالم والكون بعد ذلك. يقول شاعر, هو ذو الرمة لراويته (أكتب شعري, فالكتاب أحب
إلي من الحفظ, لأن الأعرابي ينسى الكلمة, وقد سهر في طلبها ليلته فيضع كلمة في
وزنها ثم ينشدها الناس والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام) من كتاب (الحيوان)
للجاحظ.
الكتابة الضوئية
في أواسط السبعينيات, دخلت عصر المكننة, من أبوابه الضيقة طبعاً,
واشتريت آلة طابعة صغيرة, وأمليت عليها كل كتاباتي وكل مسرحياتي وكل بياناتي
وحواراتي التي جاءت بعد ذلك, وقبل ذلك أيضاً. لقد رافقتني على امتداد ربع قرن,
ولكنها اليوم موضوعة على الرف. إنها مجرد تحفة, تساوي عندي كل أموال الدنيا وكل
كنوزها التي لا تقدر بثمن.
لقد دخلت أخيراً - كما دخل كل الناس قبلي - عصر الكتابة الضوئية,
وأصبحت عبداً من عبيد الشاشة, إنني أجدها أمامي وقت الفطور, وساعة الغداء والعشاء,
وفي الكشك الإلكتروني للبنك وعلى مكتبي أيضاً. وإنني, بمناسبة هذه القفزة
(التكنولوجية) أتساءل:
- أهو تطور أم تقهقر, أن أنتقل من الكتابة بالقلم القصبي إلى قلم
الرصاص, ومنه إلى الريشة والمداد وإلى القلم ذي الحبر الجاف وإلى آلة الرقن
وضجيجها, وأن أصل أخيراً إلى الكتابة بالضوء?
أول كتاب طبعته - على حسابي طبعاً - كان عبارة عن احتفالين مسرحيين
هما (عطيل والخيل والبارود) و(سالف لونجة) وتم ذلك بمطابع فكيك بالدار البيضاء, في
أواسط السبعينيات, وكانت الحروف رصاصاً يحترق في الفرن, وكان ذلك عقاباً لها, لأنها
أحرقت قلوبنا وأصابعنا وأكبادنا قبل ذلك, وكان وزن الكتاب - وهو رصاص - في مثل وزن
أوزار إبليس وكل ذريته من بعده, وذلك من بدء الخليقة إلى الآن.
و(سمعت) الجاحظ يقول (المعاني مطروحة في الطريق) وعرفت, أن تلك
المعاني المطروحة في الطريق لا يمكن أن تؤسس إبداعاً حقيقياً, وقد يحدث - في كثير
من الحالات - أن تقدم توليفاً للكلام, وأن يكون هذا الكلام شبيهاً بالشعر وما هو
بشعر, وأن يكون شبيهاً بالنثر وما هو بنثر, وبهذا, فقد رحلت بعيداً بعيداً, بحثاً
عن المعاني (الوحشية) وقمت بترويضها, وبأنسنتها, وبتقريبها من الناس ومن الحياة ومن
المدينة ومن الساعة, وعرفت, أنه لا يمكن اختزال كل (العقل العربي) في ثنائية اللفظ
والمعنى, وبهذا فإنني لم أفهم معنى قول الجابري بأن (العقل عقل يتعامل مع الألفاظ
أكثر مما يتعامل مع المفاهيم) عابد الجابري - تكوين العقل العربي - دار الطليعة -
بيروت - ط1 - ص7.
إنه لا وجود لشيء يسمى العقل العربي, وكل ما هو موجود هو فعل التفكير,
وهو ينتج مفاهيم محسوسة وملموسة, مفاهيم يتداخل فيها اللفظ والمعنى, وبغير هذا
(الزواج) تكون المعاني أشباحاً مجردة, ولا يكون لها علاقة بعالم الناس
والأشياء.
الكتابة وقلق الوجود
وأتساءل الآن:
هذه الكتابة التي نحيا بها - وفيها - كيف تبدأ? ومن أين تبدأ?
كنا - في ذلك الزمن الرصاصي - نكتب ما نكتب, ونقرأه بصوت مرتفع, وكانت
لذة الإنشاد في نفوسنا لا تعادلها أي لذة, وكنا نثق بذلك الشاعر الضرير الذي قال
(والأذن تعشق قبل العين أحيانا), وزكى هذه القناعة في نفوسنا, أننا كنا جيل الحلقة
وجيل الحكواتي الشعبي وجيل الراديو وجيل الفونوغراف, وجيل حكايات الجدات الشفوية
وجيل الطرب والمواويل والليالي والسمر.
في المسرح لا يكفي أن يكتب الكاتب بالكلمات فقط, وذلك لأن محطات الصمت
قد تكون معبرة أيضا, وقد يكون للظلام معناه, وللسكون مغزاه وللفراغ بلاغته. يقول
نوفاليس (إن أكثر الجرائم بشاعة قد لا تترك أثراً عند بعض الناس, وأن روح الإنسان
قد تتأثر إلى الأعماق بتبادل النظرات, بفكرة غير متوقعة, بلحظة صمت) مالكم برادبري
وجيمس ماكفرلن - ترجمة مؤيد حسن فوزي - (الحداثة) ج2 - دارالمأمون - بغداد 1990 -
ص295 ولقد حرصت دائماً, في كل كتابتي المسرحية, على أن أخاطب الأرواح قبل العيون,
وعلى أن أعيد للكلمات سحرها وجاذبيتها, وعلى أن أبحث عن اللغة الفردوسية الأخرى,
والتي ضيعها الإنسان, وضيع معها وجهه الحقيقي, واكتفى بالأقنعة الكرنفالية.
الخوف من الكتابة
إنني أخاف من نفسي وأخاف عليها. أخاف أن تبيع أجمل ما فيها مقابل
السراب والزيف والخلاب. أخاف عليها أن تشيخ, وأن تهزمها الأيام والليالي. أخاف
عليها من نشوة النجاح وحرقة الفشل. النجاح يفضي إلى الرضا وإلى مصالحة الواقع, أما
الفشل فيؤدي إلى السخط وإلى معاداة العالم. إنهما طريقان مختلفان, ولكنهما معا,
يؤديان إلى المحطة نفسها, أي إلى الموت الحتمي, موت الإنسان المبدع بداخلي.
إن النجاح والفشل لا أنظر إليهما من زاوية الجمهور - إقباله وعدم
إقباله على ما أكتب - ولكن من زاوية الإبداع في ذاته, أي أن تحس الأشياء وتحياها,
ثم لا تجد لها معادلها الفني, ذلك هو الفشل الحق, إنني أخاف أن تخونني الكتابة, أي
أن أفكر في شيء, وأن تترجم هي شيئاً مغايرا. أخاف أن تزيف إحساساتي وحالاتي, وأقف
الآن لحظة لأتساءل:
- هل نجحت أم فشلت - حتى الآن طبعا - في أن أجعل حياتي حية في
الكتابة?
إنني لا أجيب, لا بالنفي او الإيجاب, لماذا? لأنني أكره الفشل الخالص,
ولا يستهويني النجاح المحض, وبالمقابل, فإنه لا شيء يرضيني إلا الفشل الناجح
والنجاح الفاشل, وذلك ما حققته إبداعاتي عبر حياتي المسرحية.. إنني أعشق في الفضاء
مركزه, وفي الكون شمسه, وفي الإنسان روحه, ولا تستهويني الأطراف البعيدة, ولا
يغريني التطرف المجنون.
عندما كتبت مسرحية (سالف لونجة) 1973 أحسست بأنها تجربة رائعة, وأنها
جديرة أن أمنحها كل عشقي واحترامي. وعندما جئت لأكتب المسرحية التي بعدها, وجدتها
تكبلني بسحرها, وتمنعني من الفعل والحركة والكتابة, وبذلك فقد كان لا بد أن ينقلب
حبي (عداء) وإعجابي تحدياً. ولولا هذا التحدي ما كان ممكنا أن أكتب مسرحية أخرى
غيرها, ولولا (عدائي) النبيل ذاك, لكررت التجربة نفسها, ولقلدت نجاحي واستعدته تحت
اسم جديد. لقد جاءت مسرحية (الزاوية) كبحث جديد وفضاء مغاير, وذلك لأنني حاولت أن
أنسى مسرحيتي السابقة, وأن أسبح ضد تيارها الجارف والعتيق والقوي. ولقد كانت سباحة
شاقة ومضنية, ولكنها مثمرة بكل تأكيد, لأنها حررتني من السكون, وجعلت حالاتي
الجديدة تجد لها معادلا مسرحياً جديداً. إننا لا نعيش اللحظة نفسها مرتين, ولا نحيا
الحالة نفسها مرتين, ولماذا إذن, نعشق أن نكتب المسرحية نفسها مرتين? إن كل مسرحية
تشكل تجربة خاصة, فهي عمر لا يشبه إلا نفسه, وإنني لا أؤمن أبداً, أن يسير إبداع
الكاتب دائماً في خط واحد, وأن يكون هذا الخط مستقيما بالضرورة, وأن يكون أحادي
الاتجاه وأحادي العين وأحادي اللون وأحادي الحالة وأحادي الموقف, وأن يتم بشكل
تصاعدي, وذلك لأن الحالات - في تحولاتها وتناسلاتها وتشعباتها وتفرعاتها - لا تصعد
إلى الأعلى دائماً, فهي عبارة عن تفاعلات (كيميائية) وذبذبات وتموجات نفسية وذهنية
وروحية, تموجات متحركة ومتغيرة بشكل مستمر ومتواصل, وبذلك فإنه من غير المعقول أن
نقارن بين تجارب المبدع وأن نفاضل بينها. وذلك لأن كل مسرحية - من مسرحياته - تشكل
بنية شبه مستقلة. إنها ولادة أخرى مضافة, ولادة لها شروطها الطبيعية التي أوجدتها,
وإن المقارنة الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا بين التجربة الحية والصادقة, وبين
التجربة المصنوعة والمتصنعة, أما في غير ذلك فإنها لا تجوز أبداً.
التورط في الكتابة
إنني لست أدري, كيف ومتى بدأت فعل الكتابة, وذلك لأنني - من غير أن
أشعر - وجدت نفسي متورطاً في فعل غريب وعجيب يسمى الكتابة. لقد دخلت فضاءها
وعالمها, كما يدخل المتعب فضاء النوم والحلم. ففي لحظة سحر وانجذاب - لا يمكن أن
أحددها - وجدت نفسي غير نفسي والعالم غير العالم, والأشياء غير الأشياء, وأسأل الآن
نفسي?
- هل دخلت الكتابة أم دخلتني الكتابة?
- هل لقيتها ولقيتني عند نقطة معينة?
- وإن كان الأمر كذلك, فما هي هذه النقطة?وأين موقعها? وأين مبتدأ
أمرها, وأين منتهاه?
- وهل تراني, أنا الذي أكتب هذه الكتابة حقاً, أم تراها هي التي تنكتب
بي ومن خلال قلمي?
إنني لا أملك سوى أن أجيب, شبه إجابة طبعا, وأن أقول, وأن أكتب, لست
أدري, ولا أريد أن أدري, لأن هذا الغموض الغني - بأسراره الخفية - يجعل من الكتابة
سحرا أو جنونا أو هذيا خلاقا.
ولأنني لا أملك سوى أن أسأل, ولأن كل ثروتي تكمن في أسئلتي المشاغبة,
فإنني سأستمر في ممارسة لعبة التساؤل المشروع:
- هل يولد الكاتب كاتباً?
- هل تكون الكتابة أولاً في حال الخفاء, لتنتقل بعد ذلك إلى حال
التجلي?
في الكتابة أحاول أن أعرف بنية الجنون, وذلك بحثاً عن المدهش والمرعب
وعن الغريب والمثير, ويبقى أن أشير إلى أن اللعب مع الجنون فيه مخاطرة كبيرة, وفي
كل مخاطرة شيء من النجاة كما يقول النفري, وذلك لأن الدخول إلى فضائه شيء, والخروج
منه شيء آخر. إن الدخول إليه صعب والخروج أصعب وأصعب. إن الأمر يتطلب شيئين
متلازمين, كلمة السر وسر الكلمة.
بين الانقطاع والتجدد
ما الجديد لديك? أعترف أنه لا شيء يقلقني غير هذا السؤال, إنه السؤال/
التحدي, السؤال المفتوح على العدم, لأنه يهرب سؤالاً آخر غيره وهو, أمازلت حيا
تكتب? وإن كنت كذلك, فأين شهادة الحياة? إن الجديد هو وحده الشهادة التي تثبت أن
المبدع مازال حيا, أنه ينمو ويتجدد. إن الجواب بالنفي يعني الموت, الموت الأدبي
والفني, والذي هو انقطاع عن فعل الوجود, والموت لا يكون فقط في توقف نبض الكتابة,
بل وأيضا, في تكرار الكتابات وفي استنساخها, أي أن يكرر اللاحق السابق, من غير أن
يتجاوزه ويغايره, ومن غير أن يضيف لحروفه حرفا, ولأسفاره سفرا, ومن حسن حظي أنني
مازلت أحمل قلقي ورعبي بداخلي, ومازلت أحتفظ بأسئلتي واندهاشي أمام الناس والأشياء.
يقول محيي الدين بن عربي (كل حال يدوم زمنين لا يعول عليه) فكل زمن له حال, وكل حال
له مفعوله ومقوله ومكتوبه, وأتساءل الآن, مرة آخرى:
- الكاتب والكتابة متى يلتقيان? ومتى يفترقان?
- وهل نقول إن الكتابة - تبدأ وتنتهي - بزواج الورق والمداد? أم نقول
إنها تبدأ قبل ذلك, ولا تنتهي بعد ذلك?
إن المبدع لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد, ولا يخرج من تجربة, إلا ليدخل
أخرى غيرها. إنه السندباد في رحلاته التي لا تنتهي. فقد يكون في صمته أبلغ من
كلامه, وقد يكون في غيابه أكثر حضورا, ففي حياة الكاتب - لا شيء يفصل بين الكتابة
والكتابة.. إن الكتابة اعتقال للآن. ويبقى أن نشير إلى أن هذه (الآن) غير ثابتة ولا
ساكنة. إن زمن الكتابة قد يمضي, ولكن القراءة باقية ومتجددة باستمرار, وبهذا تتجدد
الكتابة بالقراءة, وترحل عبر اللغات بالترجمة, والكلمة السعيدة هي التي تجد قارئها,
ولا يهم أبداً أن يتم هذا اللقاء بعد ساعة أو بعد يوم أو بعد عام أو بعد قرون
طويلة.
ففي الكتابة يهرب الكاتب من النسبي إلى المطلق, ومن الساكن إلى
المتحرك. إنه في صراع دائم مع الزمن. إنه لا يمكن أن يؤجل إحساسه بالأشياء, ولكنه
يملك أن يعتقل هذا الإحساس, ليحتفظ بحرارته وقوته وحيويته, وذلك ما حاولت - وأحاول
دائما - أن أقوم به, سواء في كتاباتي الإبداعية أو في كتاباتي النقدية
والتنظيرية.
قلق على الكتابة
لا شيء أصعب من الكتابة, ولا شيء أروع منها أيضا. إنها احتراق بغير
نار. احتراق القلب والأعصاب والأصابع التي تكتب. كل شيء فيها يبدأ بالخوف والقلق,
وينتهي بالخوف والقلق أيضا. تبدأ الكتابة من نقطة الصفر, أو بما هو قبل الصفر. تبدأ
وأنت تجهل كل شيء. تدخل عوالم تجهلها, وتعشقها, وتخشاها. تدفع نحوها رجلا وترد
أخرى. ومع الأيام تولد فيك ومن حولك حياة أخرى, فتتعرف على شخصيات جديدة, شخصيات
تفرض عليك أن تقترب منها, وأن تفهمها - كما هي - وحتى تفهمها, وتدرك بنيتها النفسية
والذهنية, فإنه لا بد أن تفكر كثيرا, وأن تعصر دماغك إلى حد الانفجار, وأن تطعمها
من دمك وعظمك, وأن تجعلها تغتسل وتتطهر بعرقك.
وأنا أكتب مسرحياتي, يصاحبني عادة شعور غريب. شعور من يخاف الموت كل
لحظة. إنني أخاف أن أموت قبل نقطة النهاية. يقلقني أن تبقى حالاتي وأوهامي معلقة في
الفراغ المطلق, فلا هي تنتمي إلى الوجود ولا إلى العدم. ولأنني عشت اليتم في حياتي
- بكل ما فيه من قهر وظلم وضياع وأسئلة وجودية - فإنني أخشاه, بل أكرهه. إنني أخشى
هذا اليتم كثيرا, بالنسبة لأطفالي وبالنسبة لمسرحياتي معا.
أخاف أن أمضي, قبل أن أرتب كل شيء, وأسوي كل شيء, وأنتهي من كل شيء.
لأجل هذا فإنني أدخل دائما في سباق جهنمي مع الزمن. أريد أن أصل قبله, أو معه على
الأقل, وذلك حتى تصبح كلماتي داخله وليست خارجه, وأكون فاعلاً فيه, ومنفعلا به,
وشاهدا على مسرحياته, الضاحكة لحد البكاء, والباكية لحد الضحك.
وتنتهي المسرحية, وتتم الولادة, ومع ذلك يبقى السؤال يلاحقني:
- هل تنتهي المتاعب التي كانت, وبذلك ينتهي القلق المرعب, أم تراها
تبدأ من جديد, وذلك بشكل آخر, مختلف ومغاير?
لو كنت شاعراً أو قاصاً, لانتهت مهمتي مع انتهاء الكتابة, والتي هي
فعل محدود في الزمن والمكان ولكنني مسرحي, والمسرحي تتعدد متاعبه وتتشعب, وتتجدد
باستمرار, وبذلك فإنني, ما إن أفرغ من فعل الكتابة, حتى أجد من يقترب مني,
ويسألني:
- ما الجديد لديك أيها الكاتب?
ولأن فرحة الإبداع أكبر من أن أخفيها, فإنني أبوح بسري, وأعلن عن
الولادة الجديدة. أعطي اسمها ورسمها وبطاقة تعريفها, وما إن أضع أول خطوة في مشروع
الفرح, حتى يطرق بابي الطارقون من جديد, وأسأل:
- من بالباب?
ليكون الجواب. انا رفيقك المخرج - وكل المخرجين أصحابي وأحبابي ورفاق
دربي - وقد جئتك طالبا ضيف الله, وأملي أن تمنحني يد مسرحيتك المصونة. يا الله. إن
رحلة العذاب مستمرة إذن, وإن الخوف مازال مقيما إلى ماشاء الله. ويخرج النص من بين
يدي. يغادرني من غير أن يفارقني الشعور بالقلق, بل إنه يزداد عنفا وحدة وقوة. حقا,
إنه لشيء فظيع أن أتحدث للناس - وأنا معهم - وأن يكون بيني وبينهم مترجم, فإن كان
هذا المترجم صادقا وأمينا, فأنا سعيد وابن سعيد, وأما إن كان خائنا ومزيفا, فذلك هو
الجحيم الذي ما بعده من جحيم. إن في المخرجين/ المترجمين رجالا من كل نوع وصنف,
فيهم العالم والأمي والأمين والخائن, والشاعر والحرفي والجراح والجزار, والمبدع
والخياط. وتبدأ عملية الإخراج, ومعها تبدأ مظاهر الفرجة.. الفرجة التي تضحك وتبكي,
وتفرح وتحزن, وتسعد وتشقى. والتي قد تصل أحيانا إلى حد أن تنبت الشعر في رأس
الأقرع, وأن تنطق الأخرس, ومع ذلك فإنني ألوذ بصمتي وأقول دائماً, إنني مسئول فقط
عما كتبت.. ألا فليسامح الله بعض المخرجين. إن كل اجتهاداتهم تتلخص في عملية الحذف
والبتر.. حذف مشهد, حذف حوار, حذف كلمة, حذف شخصية, وأتساءل مخلصا:
- لماذا هذا الحذف يا سادة ياكرام?
ليكون الجواب: النص في حاجة لكتابة ثانية, وإلى تقطيع تقني, ولأنه
أساسا كتابة أدبية, فهو في حاجة إلى أن يمسرح, وإلى استبعاد ما هو سياسي فيه, وما
هو فكري وفلسفي, وما هو غامض وملتبس, وما هو صعب وما هو سهل, وما هو فوق وما هو
تحت, وهذا حذفناه من غير لماذا, فقط لنمارس سلطتنا.
أليس للمخرج سلطة فوق سلطة المؤلف, وأكبر من سلطة الممثل والتقني? هذا
عصر الدكتاتوريات, دكتاتورية العسكر, ودكتاتورية الناشرين ودكتاتورية المنتجين
والممولين, ودكتاتورية السادة المخرجين. وبهذا, فعوض أن نتحرر بالكتابة الإبداعية,
فإننا نجد أنفسنا - نحن الذين (اقترفنا) الكتابة - ضحايا قمع جديد, قمع بالفن وفي
الفن وباسم سلطة الفن أيضا.
إنه لا شيء أصعب من أن تمارس الخيانة أمام عينيك, وأن تكون موضوعها
وضحيتها وشاهدها وشهيدها.
فكثيرا ما أجد نفسي أمام مسرحية هي (مسرحيتي) إنها فعلا تحمل توقيعي,
ولكني لا أتعرف عليها, فالشخصيات فيها غير الشخصيات, والحوار غير الحوار, والمشاهد
غير المشاهد, ولأنني لا أسمح لنفسي بأن أخدش شعور الآخرين, فإنني أكتفي بأن أتألم -
داخليا - أتألم في صمت - بيني وبين نفسي, وأدع كتاباتي تصارع طواحين الأيام
والليالي.
يبدأ الألم عندي من حضور التدريب, حيث أجد نفسي ضيف شرف على عرس
احتفالي واغتيالي. هذا الحفل الطقوسي, قد يكون عرسا حقيقيا, في بعض الاجتهادات -
وما أكثرها - وبفضل تلك الإشراقات والومضات - والموزعة هنا وهناك - فإنني مازلت
أكتب, رغم كل مخاطر الكتابة.
إنني أحب أن أحضر التدريبات المسرحية وأخشاها - في الوقت نفسه - كما
إنني أرحب دائما بفكرة مناقشة المسرحية مع المخرج والممثلين والتقنيين. ولقد لاحظت
أن أغلب المخرجين يضايقهم اشتراك الممثلين في هذا الحوار. لماذا? لأن الممثل
كالعسكري, عليه أن ينفذ الأوامر فقط, ينفذها كاملة, من غير أن يناقشها, أو أن يعرف
معناها ومغزاها.
في التدريب أعيش تجربة الإبداع من جديد. أعيش فعل الكتابة مرة ثانية
أو ثالثة أو رابعة أو عاشرة.
أعيش التوقف عن الكتابة أو إعادتها واستعادتها. أعيش لحظة التعرف على
الشخصيات والمواقف من خلال الممثلين. إنني أستعيد الاندهاش في اندهاشهم, وأعثر على
انفعالاتي التي ضيعتها. إنني معهم, ومن خلالهم, أستعيد الزمن الضائع, أي زمن
الكتابة, والذي هو زمن القلق وزمن الحلم وزمن الوهم وزمن الانفلات من قبضة اليومي.
إنني أستعيده بكل حالاته ومقاماته, أستعيده حارا كما كان, ومرعبا كما كان, وجميلا
كما كان, وقاسيا كما كان.في مدينة الخميسات - من 1971 الى 1975 سكنت ذات المؤلف
وذات المخرج معا. كنت المتحدث والمترجم, وبذلك فقد كان علي أن أعيش كل عمر
المسرحية, ابتداء وهي فكرة, أو وهي حالة إلى أن تصبح حفلا يحياه الناس معي. يومها
كان خوفي مضاعفا, لأن المسئولية كانت أكبر وأخطر. ففي الكتابة أتعامل مع ذاتي,
ولكنني في الإخراج أتعامل مع الذوات الأخرى. وبذلك كان علي أن أبحث داخلها وخارجها,
وذلك حتى يمكن أن نعطي عطاء واحدا موحدا. إن الممثل هو الجسد, وبذلك فقد كان عملي,
هو أن أكتب هذه المرة بالأجساد, إن السؤال الذي ظل يلاحقني يومها كان السؤال
التالي:
- كيف أجعل الممثلين يتمثلون عالم المسرحية, وأن يندمجوا في فضاء هو
جزء من زمني الكائن, والممكن معا, وأن يعيشوا معي التجربة نفسها, وأن يقتسموا معي
الحالات نفسها?
ومن أجل تحقيق وحدة في الرؤية وفي الإحساس وفي العالم المتخيل, فقد
أشركتهم في خوفي وقلقي.. قلقي في المسرحية, وقلقي على المسرحية.
الكتابة بالكلمات
ساعة عرض مسرحياتي أين أكون? داخل الحفل أو خارجه?
إن ذاتي - في ذلك البرزخ الزمني - تصبح ذاتين, وحالي يصير حالين. أصبح
الناظر والمنظور والذات والموضوع والفرجة والمتفرج. إن الواحد بداخلي يتعدد,
والمحدود يتمدد, والقديم يتجدد, والفاعل ينفعل, والمقيم يرحل, وبذلك أصبح أكبر من
حجمي وأطول من قامتي, وأثقل من وزني, ويعذبني وجودي, وتصبح الثواني في حجم الدقائق
والدقائق في ثقل الساعات.
أثناء عمر الحفل المسرحي ينتابني الشعور بالخوف المركب.. الخوف ممن?
أو الخوف على من? إنني أخاف الجمهور بالقدر الذي أعشقه, أخافه لأنه سلطة عمياء
وغاشمة.فهو مرة يحابي برفق, ومرة يظلم بقوة. وتحاول أن تجد جواباً معقولاً لرضا
الجمهور أو لسخطه فلا تجد شيئا. الجمهور لغز محير, وهو كتلة أسرار مغلقة وغامضة,
يكون كريما أحيانا, وليس لكرمه منطق معقول, ويكون بخيلا أحيانا أخرى - من غير وجود
مقياس موحد. إنه منطق اللامنطق.
يضايقني كثيراً أن أتخذ لي مكانا بين الناس ساعة الحفل المسرحي. إنني
أخشى أن تتفرج علي العيون, عوض أن تحيا المسرحية, وأن تنشغل بالصانع بدل أن ترى
الصناعة. إنني أخشى أن تكون المسرحية مسرحيتي, وألا أجد فيها نفسي. وبذلك تحسب علي
خطأ, وتنسب إلي ظلما. وأكون بذلك بين بين. فلا أنا المبدع الحق,ولا أنا واحد من
الجمهور