تراث يبحث عن مطالبين

 تراث يبحث عن مطالبين
        

          هذه قصة تراث يبحث عن نسب ومطالبين, وعلى قارئيه أن يحملوا هذا الهم معي, لعلنا نجد حلقة الوصل مع لغة العرب الشماليين قبل امرئ القيس ومعاصريه. وليس من همومنا هنا البحث فيما إذا كانت العربية هي الأم أم الخالة أم الجدة, حيث إننا نعتبرها الوارثة الشرعية للتجارب اللغوية السامية جميعاً. وذلك لكونها وحدها الأكمل بعدد الحروف وتأدية هذه الحروف لوظائفها النطقية. كما هي الأكمل بقواعدها ودقّة تأدية هذه القواعد لتحديداتها. والأكمل دائماً يأتي خلاصة تجارب ويكون في النهاية ولا يكون في الأساس. 

          (من ممصأ شمش (حتى) مبائها.

          (بصدقي وبحكمتي وبنعم لبّي بنى أنا حاميات عزّة بكل قاصيات..

          وكان بكل يومتي شبع ومناعم وثبات نعمة وناحة لب لدانيين ولكل عمق (سهل) أدنه ولبيت (موفش) أنا آويت دانيين يرحب أنا أرض عمق أدنه لممصأ شمش وعد مباء).

          الكتابة في الأعلى هي مقتطفات من نص يعود للقرن الثامن قبل الميلاد. وهو بلغة سامية تقتصر على اثنين وعشرين حرفا. ولم نغير شيئا يذكر في الألفاظ. سوى تحويل هاء التعريف الكنعانية إلى (ال) التعريف العربية, وحذف (الكاف) المضافة إلى (أنا). وزيادة حروف المد الصوتية التي لم تكن تكتب في اللهجات السامية المختلفة. كما استعمال حرف (ثاء) العربي بدلا من (الشين) وحرف (الضاد) بدلا من (الصاد).

          ولفهم الكثير من ألفاظ النص الواسع, عدنا للمعجم العربي للتعرف إلى كلمات مثل: (شتع), بمعنى: هلع, وكلمة (مصأ) أو مصع, بمعنى: ظهر النور, وكلمة (مشمر), معنى: عاصمة, وفق مدلول لفظة عصم, وكلمة (أويت), بمعنى: جمعت وأسكنت, و(شعر), بمعنى: شرع الباب, و(رع) بمعنى: رعن - حين تراعي سقوط النون المعتاد -, وكلمة (رزين), بمعنى: أمير أو قائد مهيب.

          وما يلفتنا في النص هو ورود لفظة (أد), بمدلول كلمة (حتى) العربية, وهي اللفظة المستعملة في اللاتينية الوارثة للغة الحثية التي كانت معاصرة لهذا النص الذي وجدت ترجمة له بلغة الحثيين, وهذه اللفظة نعتبرها هنا شهادة للتفاعل الحضاري بين أقدم لغة في المنطقة من اللغات الهندوأوربية ولغة سامية, هي الكنعانية.

          النص هو من خرائب (قره طيبا) في سهول (أدنه) التركية اليوم. وكاتبه هو قائد أو ملك لقبائل الدانيين باسم (أزت ود). وهو شاهد على سعة انتشار الساميين أسلاف العرب إلى الشمال من الأرض السورية, كما هو شاهد على دور هؤلاء في نقل حضارة البابليين والكنعانيين إلى الهلينيين وغيرهم من الشعوب الأوربية.

          لقد كانت دولة (أزت ود) هذه تمتد في سهول (كليكيا) الخصبة, وهي كانت خصبة بمجموعة من قبائل الدانيين الساميين الذين يرقى تاريخ انتشارهم في بلاد الإغريق إلى زمن خروج الهكسوس من مصر, أي أواسط الألف الثاني قبل الميلاد, كما تشير لذلك المرويات الشعبية الإغريقية. وقد ذكرتهم نصوص رسائل تل العمارنة على لسان ملك صور آنذاك (أبي ملكي). بكونهم من البلاد الكنعانية في (أدنه). وجاءت نصوص (أزت ود) لتؤكد ذلك بعد خمسة قرون من تلك الإشارة أو أكثر من ذلك قليلاً.

          ويعتبر اكتشاف دولة الدانيين هؤلاء, مع اكتشاف دولة (أوغاريت) في شمال سوريا, ودولة (ألالاخ) المجاورة لهما, من أهم الاكتشافات الآثارية للقرن العشرين, إذ هي وسعت حدود الساميين الغربيين أسلاف العرب إلى الشمال من سوريا, وأبرزت لهم دوراً في نشوء حضارة الإغريق أوسع من الدور الذي كان المؤرخون يعطونه لمدن لبنان وفلسطين القديمة: مثل: جبيل, صور, صيدون, يافا, عسقلان, غزّة وغيرها.

المسئولية العربية

          تلتقي هذه الدول الثلاث في لغة واحدة ذات لهجات متقاربة, نجد معظم مفرداتها في المعجم العربي. وإذا كنا رأينا لغة الدانيين عربية المفردات في النص الذي ذكرناه, فإننا نذكر بعض الأسماء الواردة في نصوص (آلالاخ), مثل: حيان, جبار, بعل, صمد. بينما نكتشف في لغة ملاحم أوغاريت مئات المفردات العربية الفصيحة إلى جانب عشرات الألفاظ العامية التي نستعملها يومياً ولا نقرؤها في أي معجم عربي, مثل: شاف, سكّر, زرك, حشك, أخوت وغيرها. فهل من المسئولية استمرار إهمال هذا التراث الحضاري, لأن أجدادنا القريبين لم يكونوا على علم به...?

          لم يخل التاريخ العربي من إشارات إلى علاقة قديمة كانت تشمل هذه الجغرافيا الشمالية لبلاد العربية, فنقرأ في مروية سجلها (الثعلبي النيسابوري) في كتابه (عرائس المجالس وقصص الأنبياء) قوله: (وقال بعضهم: ذو الكفل, بشر بن أيوب الصابر, بعثه الله بعد أبيه رسولاً إلى أرض الروم. وكان مقيماً بالشام حتى مات وكان عمره خمسا وتسعين سنة).

          وعند ربط هذا الاسم بأيوب الصابر إنما نعود به إلى أوائل الألف الأول قبل الميلاد, أي إلى زمن ازدهار دولة الدانيين في (أدنه). وقد ذكرته الآية الكريمة في القرآن في قولها: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}. (الأنبياء 85 و 86). ويذكر التراث الإغريقي صفات ذي الكفل تحت اسم (كفالوس). ويذكر من أحفاده (صدّيق) الذي كان مقيما في (كليكيا), أي أرض الدانيين ذاتها, ويحرفه الإغريق إلى اسم (صندوقس). وهو له أكثر من مقام ومزار في لبنان وفلسطين. وعند متابعة نسبه لديهم يتبين بوضوح هذا التحريف, حيث هم يربطونه بذي الكفل وإدريس (هرمس).

          وعندما نجد لغة (الدانيين) سامية صافية لا ترقى لها الشكوك, ونقرأ فيها حماسة قائدهم (أزت ود) وحرصه على أمنهم وازدهار مجتمعهم, نفاجأ باجتهاد بعض الباحثين في تحريف هذا الاسم لجعله (هندوأوربيّا) غريبا عن مجتمعه. فيسمّيه أحدهم (استيفاتاس) ويسميه غيره (أزيتوسّا). بينما هو واضح القراءة بالحرف الأبجدي ومؤلف من خمسة حروف فقط. ولم يذكر أحد منهم أن (ود) هو من أسماء الآلهة العربية الكبار قبل الإسلام. وأن (أزت) أو (عزت) هي صفة, إذا اعتبرنا الهمزة والعين حرفين يتبادلان في العربية. وكلا اللفظتين لهما معنى وصفي, الأولى تعني (المتأجج), والثانية (العزّة), ومن غير المعقول أن يكون مجتمع كبير كالدانيين الذين حملت البلاد اسمهم (أدنه) أو (دانونا) قديماً. من غير المقبول أن يرضوا برئيس غريب عنهم, وهم يتعبّدون لآلهة كنعان.

          فهل يبقى للباحثين العرب عذر بتجاهل هذا التراث وإهمال مسئولياتهم نحوه?

من الدانيون?

          لا يبدو أن التسمية تختص بقبيلة واحدة, ذات نسب محدد, كما هي القبائل العربية. ومستندنا في هذا القول هو ما ذكره الجغرافي سترابو من أن (البلاسجيين) المعروفين جيدا كبناة حضاريين في التاريخ الإغريقي كانوا يوصفون أيضاً بأنهم (دانيون). وهذا يعني أن التسمية كانت في بلاد الإغريق تطلق على الساميين بوجه عام. ولهذا تردّد اسمهم كثيرا في النصوص الإغريقية القديمة. وكان هذا الجغرافي العالم واضحا جدا عندما ذكر أن مهاجرين من العرب وصلوا إلى بلاد الإغريق برفقة (قدموس) المهاجر الأشهر من الساميين إلى تلك البلاد. وذكر ذلك عند حديثه عن سكان منطقة (عوبوا) الإغريقية. وهذا يعني أن تسمية دانيين شملتهم هناك.

          كما أن هناك رسالة من (أرياس) ملك (اسبرطه) حفظها المؤرخ (يوسيفوس) يذكر فيها أن الإسبرطيين هم من سلالة إبراهيم, وهكذا لابد من أن يكونوا من سلالة إسماعيل الذي باركته الآية القرآنية مع ذي الكفل وإدريس, أي هرمس وفق التسمية الإغريقية.

          وتذكر الرواية الإغريقية أن (دوناس) الجد الأعلى للدانيين هاجر إلى بلاد الإغريق بعد سقوط دولة الهكسوس في مصر. وقد اصطحب معه بناته الخمسين اللواتي نظّم معهن مؤامرة لقتل أزواجهن المصريين. وهذا يعني للكثيرين من المؤرخين أنه خلص مجموعة من نساء الهكسوس الساميين من الرق. وهن علمن أهالي (أرغوس) حفر الآبار للحصول على المياه, فاشتهرن بهذه العملية. ولعل أشهر أسماء البنات كان اسم (ميمونه) وهو اسم عربي, كما نرى, ولانزال نستعمله لبناتنا, مع أنه يكتب باليونانية (أميمونه), ونحن نفترض أن الحرف الأول هو في الأساس (ها) التعريف الكنعانية.

جدل تاريخي

          أثار موضوع انتشار الدانيين في بلاد الإغريق الكثير من الجدل, بين علماء الآثار والتاريخ, وكاد بعضهم أن ينفي الأصل السامي الكنعاني عن هذه الجماعة. كما حاول بعضهم, اعتبار وجودهم في سهل (أدنه) حصل بعد حرب طروادة, وأنهم جماعة من الإغريق أقاموا في هذه المنطقة الخصبة. ولكن القرائن التاريخية, أشارت إلى وجود الدانيين في أدنه, قبل حرب طروادة بأكثر من مائتي عام, وفق رسائل (تل العمارنة), وبأكثر من أربعمائة عام, وفق نصوص ألالاخ وبوغازكو الأكادية والحثية. وهكذا تسقط الفرضيات العصبية ذات الأحكام المسبقة.

          وهنا, لا نكتفي بنسب الدانيين للجد (دوناس) المهاجر إلى (أرغوس), بل نعتبر الاسم (دان) ليس أكثر من صفة اشتهر بها الساميون الأوائل في بلاد الإغريق, أي (القضاء) كما تعني الكلمة. وهذه الصفة لازمت الأجداد الذين اشتهروا بها هناك, أمثال: قرون, عباس, وقدموس, وأمثالهم من منظمي المجتمعات ومؤسسي المدن ومعلمي الحضارة للإغريق القدماء.

          وكان الرمز الأعلى لهؤلاء (دانيل). الوارد ذكره باختصاص القضاء في ملحمة (أقهات) في نصوص أوغاريت. وغدا اسم (دانيل) مضرب المثل بالحكمة مع نوح وأيوب, وفق نص حزقيال (14:14), بل إن حزقيال حين تنديده بملك صور الكنعاني المتكبر يذكره بقوله: (ها أنت أحكم من دانيل, سرّ لا يخفى عليك). (28:3). ونجد في هذه المقارنة توكيداً على كنعانية هذا الحكيم المثال.

          لقد كان ترداد ذكر الدانيين في التراث الإغريقي مثيراً للدهشة والاستغراب, لدى الكثيرين من المتحمّسين للحضارة الغربية. وحاول بعضهم فصلهم عن التراث الشرقي السامي بجعل بعضهم إغريقا بالعرق والثقافة والآخرين ساميين شرقيين, لكن دراسة متعمّقة كتلك التي حققها (مخاييل أستور) في كتابه (هلينوسمتيكا). كشفت الأصل المشترك لهم جميعا. وهي ما جعلتنا نعتقد أن الكلمة كانت صفة تطلق على الكنعانيين في بلاد الإغريق. وهذه الصفة هي ذاتها ما نفسر به إطلاق سرغون الثاني تسمية (دانيين) على سكان (قبرص) الواقعة في البحر الغربي, كما يقول. وذلك في القرن الثامن قبل الميلاد, أي في زمن ازدهار دولة (أزت ود).

          أما إشارة سترابو إلى أن (البلاسجيين) كانوا يعتبرون من الدانيين, فإنها ذات أهمية كبرى, إذا عرفنا أن البلاسجيين هم ذاتهم الفلسطينيون الذين جاءوا من (كفتور) كريت مع غزوة شعوب البحر حوالي سنة (1200 ق.م). وقد وردت تسميتهم (باريسطو) في النصوص الفرعونية. وهذا يحتاج إلى بحث خاص بهم.

عود لود

          وكي لا نبتعد عن النص الذي بدأنا هذه العجالة به, نشدد على أن اسم البطل صاحب النص (أزت ود), ليس غريبا عن العربية, حين نعرف أن اسم (ود) كان من معبودات العرب الجاهليين الكبار. وكان له مقام كبير بينهم في دومة الجندل على الأخص. وكما يذكر الباحث جواد علي: (هناك من يرى وجود صلة بين ود وإيروس الصنم اليوناني, ويرى أنه صنم يوناني في الأصل استورد من هناك وعبدته العرب). وما نريده من هذه الإشارة هو أنه جاء من أرض الشمال الأقرب إلى اليونان, و(إيروس) ذاته لم يكن غير نجم الحب لدى البابليين, وفق ملحمة الخلق البابلية. ووفق ذلك لا يكون اسم (أزت) سوى اسم له مدلول سامي, وينسب إلى (ود) الذي نجد في أسماء الجاهلية نسبته, في تسمية (عبد ود). ومن الاسم مدلول الحب والمودة

 

يوسف الحوراني   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الكتابة هي بالحرف الأبجدي الفينيقي