في مشهد عميق الدلالة, تسلم هربرت صامويل إدارة فلسطين رسميا من
الميجور جنرال لويس بولز, رئيس الإدارة العسكرية التي انتهى عملها في آخر يونيو
1920 بعد أن ظلت مسئولة عن الحفاظ على الوضع الراهن هناك منذ وصول القوات
البريطانية إلى فلسطين بقيادة اللنبي في أواخر العام 1917. في ذلك المشهد, قال
الجنرال بولز, وهو على أهبة المغادرة, لصامويل إنه يريد منه أن يوقع إيصالا. وحين
تساءل صامويل عن ماذا, رد بولز: (عن فلسطين). وقد استمرت المحادثة, كما روتها
المصادر التاريخية, وكما سجلها صامويل نفسه في مذكراته على النحو التالي:
صامويل: لكنني لا أستطيع ذلك. إنك لست جادا في طلبك.
وأجاب بولز على ذلك بقوله:
إنني جاد بالتأكيد, وها هو ذا الإيصال مطبوعا.
وعقب ذلك قدم بولز قصاصة من الورق كتب فيها: (تسلمت من الميجور جنرال
سير لويس بولز فلسطين واحدة, كاملة). وكانت القصاصة تحمل تاريخ اليوم والمكان الخاص
لتوقيع صامويل. واعترض صامويل, ولكنه أمام إصرار بولز, وقع على الإيصال, مضيفا
عبارة (ماعدا السهو والخطأ) E&O.E (وهي عبارة تستعمل في المعاملات
التجارية).
من الخطأ إلى الخطيئة
بيد أن الفصول الرئيسية التسعة في هذا الكتاب والتي تتناول فترة
السنوات الخمس التي عمل فيها صامويل كأول رئيس للإدارة المدنية في فلسطين (1920 -
1925) تبرهن على أن ما قام به من تجاهل لحقوق عرب فلسطين, الذين كانوا يمثلون 93 في
المائة من عدد السكان, تجاوز الخطأ إلى الخطيئة ومضى أبعد من السهو إلى الإيغال في
التواطؤ مع المخططات الصهيونية لاستلاب أرض فلسطين وإنشاء الوطن القومي اليهودي
الذي تعهد به وعد بلفور وتم دمجه في صك الانتداب. وقد شكل هذا التواطؤ من جانب أكبر
قوة استعمارية آنذاك ضد شعب فلسطين العربي, الذي ساندها في الحرب ضد الأتراك, جريمة
تاريخية تتواصل فصولها الدامية أمام أنظار العالم حتى اليوم.
على الرغم من أن هذا الكتاب الذي نحن بصدده نسخة منقحة من الأطروحة
التي نالت بها المؤلفة درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر البريطانية العام 1995,
ينصب على عمل صامويل في فلسطين, فإن قارئه يجد فيه لوحة مكتملة الأبعاد للربع الأول
من القرن العشرين: محاولات عرب فلسطين لمقاومة موجات الهجرة اليهودية إلى وطنهم,
الأنشطة الصهيونية لاستملاك واغتصاب الأراضي وإنشاء المستعمرات الجديدة وتهريب
السلاح إلى التنظيمات الصهيونية السرية الناشئة, تواطؤ الإدارة المدنية مع
الصهيونيين من أجل تحقيق هذه الأهداف وإجهاض محاولات عرب فلسطين لإسماع صوتهم للشعب
البريطاني وإقناع حكوماته وشخصياته البارزة بمخاطر السياسة البريطانية المؤيدة
للصهيونية في فلسطين.
إن عمليات البحث والتنقيب التي تقوم بها الباحثة تزيل الغبار في كل
فصل من فصول الكتاب دون استثناء عن وقائع وحقائق مجهولة أو مخبوءة في طيات المصادر
الأساسية من المذكرات والوثائق البريطانية لدى وزارات الخارجية, والمستعمرات
والحرب, فضلا عن أوراق مجلس الوزراء البريطاني والأوراق الخاصة والمذكرات المنشورة
للفاعلين الرئيسيين (بريطانيين وصهيونيين) والمواد الأرشيفية المنشورة وغير
المنشورة للحركة الوطنية الفلسطينية, والصحف البريطانية والعربية في تلك السنوات
المصيرية. وتتضح أمامنا بالتالي الملامح والقسمات الحقيقية والأهداف والغايات
القريبة والبعيدة للكثيرين من مؤيدي ومناوئي المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين
على كل من الساحتين البريطانية والعربية.
صهيوني حتى النخاع
ليس ثمة شك لدى غالبية المؤرخين في أن اختيار هربرت صامويل, في حد
ذاته, كأول مندوب سام بريطاني في فلسطين, كان دلالة على النوايا البريطانية, ليس
فقط باعتباره عضوا قياديا في النخبة اليهودية البريطانية, بل لأنه كان أيضا, أثناء
اشتراكه كوزير في حكومة أسكويث Asquith (1906 - 1916), أول سياسي بريطاني يحاول
إقناع زملائه بفكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين منذ العام 1914. وكما كتب هو في
مذكراته, فقد كان اليهودي الثاني فقط, بعد دزرائيلي, الذي يصل إلى مثل هذا المنصب
السامي في الحكومة البريطانية. ومن هنا تجد الباحثة لزاما عليها أن تتحرى إلى أي حد
أثرت خلفية صامويل الدينية والعرقية في عملية اتخاذ القرار الرسمي من جانبه.
وفي هذا السياق, تفي مذكرات صامويل ومعاونيه وغيرها من المواد
الأرشيفية بالغرض وتضع النقط فوق الحروف. وعلى سبيل المثال, سجل نورمان بنتويتش,
الصهيوني المتحمس الذي عينه صامويل العام 1920 مستشارا قانونيا في إدارته المدنية,
أن صامويل وصل إلى فلسطين عن اقتناع راسخ بأنه, كما تحدث النبي أشعيا أحد أهم
أنبياء بني إسرائيل وقد عاش في القرن الثامن قبل الميلاد: (على عرشه لن يجلس أي
غريب, ولن يرث أي أجنبي مجده). بل إن صامويل نفسه قال في مذكراته إن أكثر المراسم
الاحتفالية التي حضرها في حياته إثارة للمشاعر كان في الكنيس الكائن في الحي
اليهودي في القدس عقب وصوله إلى فلسطين مباشرة في العام 1920 كأول مندوب سام. لقد
تصور نفسه منقذا للشعب اليهودي, وقال: (في ذلك اليوم, وللمرة الأولى منذ هدم
الهيكل, استطاعوا (المستوطنون) أن يروا واحدا من بني جلدتهم حاكما في أرض إسرائيل.
وبالنسبة لهم, بدا أن تحقق النبوءة القديمة ربما بات أخيرا قاب قوسين أو أدنى).
أما صحيفة مورننغ بوست البريطانية فقد كتبت في يونيو 1921 قائلة إن
زملاء المندوب السامي الصهيونيين يعرفونه ليس باسم هربرت صامويل وإنما باسم أليعازر
بن مناحيم, وإن المنافقين من حوله لم يترددوا في مخاطبته بـ (أمير إسرائيل).
مسكنات لفظية
إن التجرد الذي تتسم به مناقشة المؤلفة لآراء عدد من الباحثين الذين
تناولوا هذا الموضوع, مثل فاسرشتاين Wasserstein وفريزل Friesel وغيرهما, يضفي على
كتابها حيوية إضافية. فهي تفند ما ردده هؤلاء عن حيادية صامويل ونزاهته وقدرته على
تعديل قناعاته الصهيونية الراسخة. وهكذا تبرهن على أن تعهد صامويل بتنفيذ ما ورد في
وعد بلفور من (التزام مزدوج), أي إقامة وطن قومي (وليس دولة) لليهود في فلسطين
والحفاظ, في الوقت نفسه, على حقوق العرب المدنية والدينية, كان تعهدا لفظيا استخدمه
في تصريحاته الكثيرة كنوع من (المسكنات) لتهدئة العرب, بينما مضى هو في إرساء دعائم
دولة يهودية مكتملة من خلال التدابير التي اتخذها في المجالات السياسية,
والاقتصادية والإدارية. ونشير هنا فقط إلى أن صامويل عمل, في المجال السياسي, من
أجل سد الطريق أمام المطامح الوطنية العربية الفلسطينية الساعية للاستقلال برفضه
الاعتراف بممثلي عرب فلسطين المنتخبين (اللجنة التنفيذية العربية, والجمعيات
الإسلامية - المسيحية), واستغلال الخلافات بين زعمائهم بغية إضعاف وتمزيق حركتهم
الوطنية, وإعطائهم الحق في إدارة شئونهم الدينية فقط عن طريق إنشاء (المجلس
الإسلامي الأعلى), بدلا من إعدادهم للحكم الذاتي, كما اشتـــرط ذلك صـــك
الانــتـداب. ولا يملك المرء, وهو يتابع ما يجري من محاولات لقمع الانتفاضة الحالية
للشعب الفلسطيني, إلا أن يقول ما أشبه الليلة بالبارحة!
لم يكن صامويل إذن إداريا نزيها, كما أكد فاسرشتاين, آخر كاتب لسيرة
حياة صامويل, ولم يكن سياسيا منصفا, إذ يبدو أنه, وعلى حد تعبير الأستاذ وليد
الخالدي في مقدمته الرائعة لهذا الكتاب, قد أقنع نفسه, ليس فقط بأنه كان المنصف
والنزيه معا, بل أيضا أن الصهيونية - كما فهمها - مفيدة بطريقة ما للفلسطينيين حتى
لو تمخضت عن غالبية يهودية ودولة يهودية!
خوف وترقب!
وفيما يتعلق بإدارة صامويل, تؤكد المؤلفة في كتابها هذا الصادر
بالإنجليزية عن دارنشر I.B.Tauris في لندن تحت عنوان A Broken Trust أن إدارة
صامويل كانت في نظر العرب, وفي نظر العديد من المسئولين البريطانيين, إدارة صهيونية
على العموم, وإن تنكرت في هيئة بريطانية. لقد اختار صامويل معاونيه بعناية ودهاء,
وإن كان ذلك لم يمنع ظهور بعض المنشقين البريطانيين على هذه الإدارة. وتسجل المؤرخة
رؤية بعض الشخصيات البريطانية قبل نحو ثمانين عاما لما يخبئه المستقبل لمنطقة الشرق
الأوسط في ظل دعم بريطانيا للصهيونيين في فلسطين. لقد حذر اللورد سيدنهام, أحد
الناطقين باسم الأعضاء المناوئين للصهيونية في مجلس اللوردات, في نوفمبر 1921, من
أن (وعد بلفور مشحون بالديناميت), ووصف الظلم الذي يتعرض له عرب فلسطين بأنه (ظلم
لا سابقة له في التاريخ). أما غيلبرت كلايتون, الذي عمل نائبا أول للمندوب السامي
البريطاني فقد كتب العام 1924 في خطاب إلى أحد أصدقائه بعد عام واحد من العمل هناك
قائلا: (إن قضاء سنة في فلسطين جعلني أنظر إلى المجازفة بأسرها بشعور من الخوف
والترقب. إننا ندفع عنصرا غريبا وممقوتا إلى صميم قلب الإسلام, وربما يأتي يوم
يواجهنا فيه خيار الإبقاء عليه هنا بقوة السيف أو التخلي عنه وتركه لمصيره)!
ويستعرض غلاف الكتاب صورة (هربرت صامويل في الطريق إلى تهدئة العرب),
في إحدى المناطق الجبلية في فلسطين, 25 سبتمبر 1920. وبعد ذلك بأقل من عام واحد, في
يونيو 1921, لم يستطع صامويل القيام بجولة مماثلة إلا في حراسة السيارات المسلحة,
واستقبله أثناءها عرب المنطقة رافعين الأحذية القديمة على عصي, مرددين الهتافات
المعادية له ولليهود