مجتمع المعرفة العربي أحمد محمود عبدالجواد

مجتمع المعرفة العربي

الدعوة إلى إقامة تجمع عربي على مستوى إنتاج المعرفة يعكس رغبة ملحة بين العلماء العرب بكل انتماءاتهم الوطنية واعتقاداتهم الأيديولوجية, مع الأخذ في الاعتبار أن هناك العديد من المصاعب والعقبات التي تحول دون تحقيق تلك الدعوة.

ويبدو أن المعضلة الأساسية التي تواجه المجتمعات العربية, سواء على مستوى الدول منفردة, أو على مستوى التجمعات الإقليمية مثل مجلس دول التعاون الخليجي أو اتحاد دول المغرب العربي, أو على مستوى العمل القومي العربي مثل جامعة الدول العربية, تبدو في ضعف البيئة الحالية المنوط بها عملية إنتاج المعرفة, فإنتاج المعرفة بمعناها الحديث أصبح مهنة قائمة بذاته يتضمن العمل والتعاون بين العلماء والباحثين والتقنيين والإداريين, تحت مسميات متعددة مثل الجامعات ومراكز البحوث والأكاديميات والجمعيات العلمية وهيئات النشر, وبذلك فهي عملية معقدة تشمل جوانب مادية, كما تشمل جوانب إدارية وتنظيمية وقيمية ومعيارية. وفي هذا السياق, فإنه يجب التذكير بأن التعليم والتعليم العالي ومراكز البحث العلمي بمسمياتها المختلفة هي تنظيمات حديثة نسبيا في دول العالم العربي, إذ تعود إلى تجربة التحديث والنهضة العربية وإلى خبرة الاحتكاك بالغرب, أي منذ القرن التاسع عشر. وتعد الجامعات ومراكز البحوث سواء التي تتبع الدول أو الشركات الصناعية وهيئات النشر في الدول الأوربية من ضمن المشروعات التي استقر نظامها القانوني وهيكلها الإداري بحلول فترة القرن الثامن عشر. وحتى تؤدي هذه المشروعات عملها بكفاءة فقد كان لابد من توافر شرطين أساسيين, هما:

أولا - استبعاد التحيزات بكل صورها, سواء القائمة على علاقات ذوي القربى أو القائمة إلى العرق أو النفوذ.

ثانيا - القدرة على تقييم مستوى الأداء والالتزام بمعايير الجودة لما تقدمه هذه التجمعات من إنتاج علمي. وهو ما يرتبط بالقدرة على ممارسة النقد الذاتي وتقبل النقد الخارجي, والقدرة على الالتزام بمعايير متفق عليها لقبول الأعضاء الجدد للانضمام لهذه المشروعات أو التنظيمات. هذه المعايير تتصف بصفة الكلية أو العمومية أو الشمول.

تشمل عملية التقييم, كلا من التقييم الداخلي أو الذاتي والتقييم الخارجي. وتبدو عملية التقييم الذاتي من خلال معايير النشر في الدوريات والمجلات العلمية التي تلتزم بها هيئة التحرير أو الدور الذي يقوم به المحكمون في فحص وإجازة البحوث. وكلما كان الالتزام بتلك المعايير أشد وكان التحكيم على درجة كبيرة من النزاهة والحيادية, كان ذلك دليلا على جودة مستوى البحوث وارتفاع مستوى الدورية العلمية والطلب عليها على المستوى الدولي وهو ما نراه على سبيل المثال في دوريات كثيرة مثل Nature و Science. وعلى هذا المستوى نفسه هناك أيضا الدور الذي تلعبه اللجان المنوط بها الترقيات العلمية, وإلى جانب التقييم الذاتي, كما يمارس في الدوريات العلمية ولجان ترقية أعضاء هيئة التدريس, هناك التقييم الخارجي. ففي فرنسا على سبيل المثال يعهد (إلي اللجنة القومية للتقييم) والتي أنشئت عام 1985 بعمليات التقويم المستمرة للتعليم العالي, وهي هيئة مستقلة تقدم تقاريرها مباشرة إلى رئيس الجمهورية ويرأسها عضو بارز من الأكاديمية الفرنسية وتضم 16 عضوا نصفهم من الأكاديمية ونصفهم الآخر من الهيئات التي تراقب الأداء الحكومي مثل: مجلس الدولة, وهيئة المحاسبات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي, ويقيم الأكاديميون من هيئة التدريس عن طريق تقارير الأداء التي يفحصها المجلس الأعلى للجامعات, بينما يتم تقييم الباحثين عن طريق النظم والقواعد التي يضعها المجلس القومي لتقييم البحوث.

معايير النشر العلمي

وارتباطًا بالتقييم الذاتي, فسوف نتعرض لمعايير النشر في الدوريات العلمية العربية بوجه عام وانعكاس ذلك على جودة هذه الدوريات ومدى الطلب عليها في الدول الأخرى أي عالميتها. وهناك مؤسسات في الدول الأوربية والولايات المتحدة وكندا تقوم بمراقبة تلك المعايير وتصنيف تلك الدوريات على المستوى الدولي, ومن ضمن هذه المؤسسات مؤسسة المعلومات العلمية ISI وهي مؤسسة قاعدتها فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية, وتضم أكبر قاعدة معلومات دولية مبرمجة عن الدوريات العلمية والمهنية في دول العالم المختلفة وتشترط تلك النشرة الدولية لضم الدوريات في سجلاتها المستوى العلمي الرفيع, انتظام الإصدار, وأن يتم الاستشهاد بالمقالات المنشورة في تلك الدوريات بكثرة نسبية في أعمال علمية دولية. وقد ضمت نشرة ISI لعام 1989 دورية علمية عربية واحدة وهي مجلة جامعة الكويت, بينما ضمت النشرة نفسها (9) مجلات إسرائيلية, (12) هندية, وواحدة كورية جنوبية وواحدة تايوانية. وفي عام 1995 تضمنت النشرة 3 دوريات من المملكة العربية السعودية والكويت.

ويتضح مما سبق أن هناك عددا قليلا من الدوريات العلمية العربية التي تحظى بالمكانة الدولية, وإذا أخذنا في الاعتبار ضخامة عدد المجلات أو الدوريات العلمية التي تصدر في العالم العربي والتي تبلغ 83 دورية, حسب سجلات مكتبة الكونجرس لعام 1985, والذي من المحتمل ارتفاع عددها منذ هذا التاريخ, لظهر أن معظم هذه الدوريات تتصف بصفة المحلية ولا ترتفع إلى صفة العالمية. ويمكن القول هنا, إن صفة المحلية التي تتميز بها الدوريات العربية هي دليل على ضعف الإنتاج العلمي العربي في مجال المعرفة, لكنها تعد أيضًا دليلا على ضعف معايير النشر.

وعدم الالتزام بمعايير الجودة لما تحتويه هذه الدوريات من بحوث علمية. فلا جدال في وجود العديد من العلماء العرب المتميزين الذين يفضلون النشر في الدوريات العلمية الأجنبية, إما فرادى, أو بالاشتراك مع علماء أجانب. وإذا تعرضنا لجانب التقييم الخارجي, فسوف نلاحظ أيضا ضعف وجود المؤسسات المتخصصة والفاعلة في هذا المجال على مستوى الدولة الوطنية. ولكن يمكن رصد بعض الجهود المتواضعة على المستوى الإقليمي والتي تمت بمساعدة جهات أجنبية. فهناك على سبيل المثال مشروع (المكتب الإقليمي للدول العربية) والتابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (لتقييم نوعية مؤسسات التعليم العالي) في الدول العربية, وقد قام هذا المشروع بتقييم علوم الحاسوب في الجامعات العربية.

طغيان الفردية العلمية

يؤدي غياب القدرة على تقييم مستوى الأداء والالتزام بمعايير الجودة سواء على المستوى الذاتي أو الخارجي, إلى نشوء ظاهرة على جانب كبير من الأهمية ألا وهي سيادة العامل الفردي أو الشخصي أو (الشخصانية) في إدارة المشروعات (التجمعات والتنظيمات) صغيرة الحجم أو كبيرة الحجم سواء المملوكة للأفراد أو الدول والحكومات. ففي هذا النمط الأخير من المشروعات يتم إدارتها عن طريق التوجيهات أو القرارات الإدارية التي يصدرها الرئيس المباشر الذي تتبعه الوحدة أو المنشأة, أو الرئيس غير المباشر الذي تتبعه هذه الوحدات كرؤساء الكليات أو الجامعات ومراكز البحوث (تقرير عن أداء البحوث بمصر في أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا 1989). ونعني بسيادة العامل الفردي, أو (الشخصانية) عدم الفصل بين رئيس المشروع أو مديره والمشروع ذاته واعتبارهما شيئا واحدا في نظر المسئول عن إدارة المشروع, وهو ما يتعارض مع البيئة الحديثة للمشروع. فما هو السبب في عدم قدرتنا على تأسيس نظام إداري حديث, على الرغم من قدم المجتمعات العربية كمصر والعراق وسورية في نظم الإدارة? فمصر والعراق من أقدم الدول النهرية التي مارست فنون الإدارة على مستوى الوحدات الإقليمية كبيرة الحجم. فهل تتماثل تلك النظم الإدارية القديمة مع النظم الحديثة في الإدارة? وإذا كانت تختلف, فلماذا لم تستطع المجتمعات العربية تطبيق نظم الإدارة الحديثة, والتي عرفناها منذ قرنين من الزمان, أي منذ فترة جهود التحديث لمشروع محمد علي في مصر (1805 - 1949)?

ويمكن القول إن حركة التحديث الأوربية كانت نتاج مجموعة من التطورات الفكرية والعلمية والقانونية والسياسية والاقتصادية التي بدت من خلال فلسفة التنوير, والثورة الفرنسية وحركة التصنيع في إنجلترا, وفي ظهور الدولة القومية وفكرة سيادة القانون. وكان من المستحيل تحقيق تلك التطورات على المستوى العملي من دون أطر تنظيمية إدارية تستوعب ظاهرة نمو واتساع المدن نتيجة لتلك العملية الواسعة وغير المسبوقة لهجرة الأفراد من الريف إلى المدينة.

وقد صاحب ذلك, الانتقال من حالة الاقتصاد القائم على الاكتفاء الذاتي في الريف, إلى الاقتصاد الصناعي والخدمي في المدن, والانتقال من حالة توارث المهن اعتمادًا على اتباع التقاليد المهنية والحرفية إلى حالة اكتساب المهن اعتمادا على نظم التعليم والتربية الحديثة التي تعتمد على اكتشاف قدرات الفرد وإمكان الانتقال من نمط العلاقات القائمة على علاقة ذوي القربى إلى نمط العلاقات القائمة على المشاركة في الالتزامات المهنية والمنهجية.

ويمكن القول هنا إن الثورة الصناعية, وكذلك عملية التجنيد في الجيوش الحديثة, وأيضًا عملية تكوين الأحزاب في النظم السياسية الحديثة قد اعتمدت على مبدأين أساسيين من أجل ضمان استمرارها وتطورها, هما:

أولاً - استبعاد علاقات ذوي القربى, وكذلك استبعاد الامتيازات التي تقوم على الوراثة سواء كانت خاصة بوراثة المهن أو النفوذ أو المكانة.

ثانيا - الاعتماد على معيار الكفاءة وحده لتولي مناصب الإدارة العليا. وقد كان الإطار الذي عكس الالتزام بهذين المبدأين هو نظام المؤسسة والتي تعود بجذورها الأولى إلى حركة النقابات في القرن الثالث عشر وخاصة نقابات هيئة التدريس ونقابات الطلبة بالجامعات الأوربية. فقد كانت تلك الجامعات عبارة عن نقابة أو تضامن بين هيئات التدريس والطلاب أو كليهما, وتعد مؤسسة التضامن هي الأساس الذي تقوم عليه إدارة جمع الأنشطة العلمية والمعرفية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في المجتمعات الأوربية منذ فترة القرن الثالث عشر, وهو الشكل الذي بلغ كماله القانوني بحلول فترة القرن الثامن عشر, والذي شهد أيضا التوسع في استخدامه في العديد من الأنشطة المختلفة. ويتضح من السابق أن مؤسسة التضامن الأوربية أو النقابة هي تجمع مهني يبغي تحقيق مصلحة أعضائه, كما أنها الإطار التنظيمي الذي يعكس قدرة الأفراد المكونين لها على إدارة شئونهم. فما هو الإطار التنظيمي المقابل في العالم العربي, والذي يعكس قدرة التجمعات المهنية المختلفة على إدارة شئونها? وهل تختلف تلك الأطر التنظيمية عن مؤسسة التضامن الأوربية? وما أوجه الاختلاف التي انعكست بدورها على قدرة كل منهما على تقييم مستوى الأداء وبالتالي على مستوى الإنتاجية?

جذور المؤسسة

إذا عدنا إلى تلك الفترة التي تسبق جهود التحديث في المجتمعات العربية فسوف نلاحظ أن مجمل النشاط الخدمي (مثل التعليم والإنتاج العلمي والأدبي وتنظيم المهن) والنشاط الاقتصادي والاجتماعي كان يقوم على نظامين أساسيين وهما: نظام الوقف ونظام طوائف أرباب الحرف. والمعنى الفقهي للوقف هو حبس الأصل وتسبيل الثمرة, أي تخصيص جزء من أموال الواقف وإنفاق الريع أو الفائدة الناتجة عنه في الإنفاق على وجوه البر المختلفة مثل إنشاء دور العلم كالمدارس والمكتبات والمساجد والمراصد, والأسبلة والمستشفيات والرعاية الاجتماعية, وحتى بناء الحصون. كان النظام الآخر الذي يعمل بجانب نظام الوقف هو نظام طوائف أرباب الحرف, حيث كان أصحاب المهنة الواحدة يتوارثون تقاليد المهنة جيلا بعد جيل, وذلك مثل الأطباء بأقسامهم الأربعة والصيادلة والبياطرة والعطارين والنجارين والخشابين والبنائين... إلخ, وذلك تحت إشراف وسلطة المحتسب.

يتضح من السابق, أن نظام الوقف ونظام طوائف أرباب الحرف اللذين كانا سائدين في المجتمعات العربية, يتفقان مع مؤسسة التضامن الأوربية أو النقابة في أن كليهما هو تجمع مهني يبغي تحقيق مصلحة الأفراد المكونين له, لكنهما يختلفان في نقطة أساسية كان لها الأثر الكبير على أسلوب الإدارة في كل من النظامين وبالتالي في كل من المجتمعين الأوربي والعربي.

وتتعلق تلك النقطة بكيفية تحقيق الغرض الذي أنشئ من أجله كل من النظامين, أي كيفية تحقيق مبدأ الدوام أو الاستمرار. فلا بد من مرجعية ما تستمد منها طريقة الأداء بما لا يتعارض مع الهدف أو المصلحة المقررة أو المتفق عليها. فكلا النظامين يعتمدان على العقد كأساس للمرجعية, فهناك الميثاق في حالة مؤسسة التضامن, كما أن هناك حجة الوقف التي يجب كتابتها وينص فيها على شروط الواقف. لكن المرجعية تختلف في النظامين, ففكرة الدوام أو الاستمرار تعتمد في مؤسسة التضامن على (المشاركة في القدرات والإمكانات) بين الأعضاء أو الأفراد الذين تضمهم المؤسسة, أي تعتمد على الصفات المعنوية للجماعة الممثلة للمؤسسة. أما في حالة نظام الوقف, فالمرجعية هنا تعتمد على التزام إدارة الوقف بالحفاظ على ثروة الواقف للإنفاق على ذرية الواقف في المقام الأول, ثم الإنفاق على وجوه البر الأخرى. وذلك من حيث إن الأصل في الوقف هو (صدقة جارية لذوي القربى, أي يصرف ريعها وفائدتها على ذوي القربى أولا, ثم على جهات البر الأخرى والتي تعتبر منافع عامة للمسلمين كدور العلم والمستشفيات والأسبلة). وبذلك فشروط الواقف وما اشترط عليه من تخصيص الأموال وكيفية إنفاقها هي المرجعية التي يستند إليها حتى بعد وفاة الواقف بأجيال عدة. ويرتبط بالنقطتين السابقتين اللتين تميزان مؤسسة التضامن عن الوقف بنتيجة أخرى على جانب كبير من الأهمية تتعلق بأسلوب الإدارة في كل منهما. ففي نظام المؤسسة هناك مجلس الأمناء الذي يقوم بالإشراف على المؤسسة بطريقة جماعية اعتمادًا على المرجعية المنصوص عليها في العقد, والقائمة على المشاركة في الالتزامات, أما في حال نظام الوقف فالأمر يختلف, إذ تعتمد الإدارة على الأسلوب الفردي تمامًا حيث يقوم (ناظر الوقف) بشخصه بإدارة كل شئون الوقف تنفيذًا لوصية الواقف. ولاعتماد نظام الوقف على هذا الأسلوب الفردي, فقد كان من حق الواقف أن يعين نفسه أو أحد أقاربه أو من يختارهم كناظر أو مدير للوقف. وقد كان من حق الواقف وضع الشروط لمن يقومون بالتدريس في المدرسة التي ينشئها, ومن حقه تحديد مرتبات هيئة التدريس ومن حقه أيضا تحديد أوجه الإنفاق على الوقف وكيفية صيانته.

يتضح مما سبق أن نظام الإدارة السائد في المجتمعات العربية الذي يقوم على نظام الوقف, ونظام طوائف أرباب الحرف, يعتمد بالأساس على علاقة ذوي القربى. فإدارة الوقف حق شخصي للواقف ولذريته من بعده أو لأقربائه أو من يشترط تعيينهم من أصحاب النفوذ والأمراء. ويقوم نظام طوائف أرباب الحرف هو الآخر على علاقة ذوي القربى, حيث تورث المهن جيلا بعد جيل. ولأهمية الدور الذي تقوم عليه علاقة ذوي القربى في المجتمعات العربية, فقد رآها عالم الاجتماع الفذ ابن خلدون (1332-1406) الذي تولى القضاء في مصر, ظاهرة عامة توجد في المجتمعات البدوية كما توجد في المجتمعات الحضرية, فهي لا تقتصر فقط على مجال السياسة, بل تتحكم أيضا في وجود وقوة النخب العلمية والتجارية وأهل الحل والعقد وأمراء الجند. وقد أطلق ابن خلدون على تلك الظاهرة المهيمنة على كيفية إدارة مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية اسم ظاهرة (العصبية). ويرى ابن خلدون أن مصدر الترابط في العصبية هو أمر فطري في الطبيعة البشرية, أساسه (النعرة على ذوي الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة).

العصبية والتضامن

تعد العصبية عند ابن خلدون هي الشكل الأساسي للجماعة التي تهدف إلى غرض معين سواء كانت مهنية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية) في المجتمعات العربية, وهو ما دعا ابن خلدون إلى أن يراها السبب الأول في تحوّل دولة الخلافة إلى ملكية وراثية, كما أنها السبب وراء انتقال مبدأ الشورى إلى الاستبداد السياسي. ولأهمية دورها في المجتمعات العربية, فقد رآها المبدأ الأساسي في تفسيره لصعود الدولة الإسلامية وتدهورها. ويمكن القول هنا إن نظام الوقف ونظام طوائف أرباب الحرف ينطبق عليهما مفهوم العصبية حسب مفهوم ابن خلدون للعصبية, والتي تقوم على علاقة ذوي القربى وصلة النسب. كما يمكن القول إن نظام العصبية يتفق مع نظام مؤسسة التضامن في أن كليهما يشير إلى كل تجمع يهدف إلى غرض معين, لكن العصبية تختلف عن نظام المؤسسة في شيء مهم ألا وهو طبيعة الروابط التي تجعل هؤلاء الأفراد يتضامنون مع بعضهم البعض. فالروابط في نظام العصبية تقوم على صلة النسب والقرابة, والعلاقات الشخصية, أي على العلاقات المحسوسة والمباشرة, أما في نظام المؤسسة الحديثة فالروابط تقوم على المشاركة في الالتزامات المهنية والمنهجية والاعتماد على أهمية القدرات والإمكانات من أجل تحقيق مبدأ الدوام أو الاستمرار, أو في وجود المؤسسة. وبهذا فالمؤسسة هنا تعتمد على الروابط المعنوية غير المحسوسة وغير المباشرة.

إذا كانت العصبية هي النظام السائد الذي تقوم عليه نظم الإدارة قبل فترة التحديث التي شهدتها المجتمعات العربية, فما مصير ذلك النظام بعد الأخذ بنظم الإدارة الحديثة, وبعد محاكاة نظام المؤسسة الأوربية كما حدث في فترة محمد علي وما بعدها في مصر على سبيل المثال? وهل نجحت المجتمعات العربية في تجذير نظام المؤسسة كنظام للإدارة, أم ظل نظام العصبية هو السائد, ويعمل بطريقة غير مباشرة, بينما ظل ما استوردناه من أنظمة له الهيمنة على مستوى الشكل والمظهر والمسميات فقط?

إذا نظرنا إلى القدرة على التقييم بنوعيه الداخلي والخارجي, وهو ما يميز بنية المشروع الحديث, ومن ضمنها تلك التنظيمات المنوط بها إنتاج المعرفة, فسوف نلاحظ ضعف القدرة على التقييم الذاتي أو الداخلي كما بيّنا في ضعف معايير النشر العلمي العربي, وكذلك ضعف وجود الهيئات أو المؤسسات المستقلة والفاعلة التي تمارس عملية التقييم الخارجي. وهو ما يعني في نهاية الأمر ضعف الأطر المؤسسة لمجتمع المعرفة العربي. ويمكن القول إن الحداثة الأوربية قامت في الأساس على نظام فكري وتربوي يعلي من أهمية إدراك المجرد, وهو ما يعني الانتقال من المعين والمشخص إلى اللاشخصي, والانتقال من الجزئي المحسوس إلى الكلي غير المحسوس, والكلي هنا هو مصدر المعايير التي يتم على أساسها تقييم مستوى الأداء الذي يستنبط منه الالتزام بمعايير الجودة, وهو الذي كان من نتيجته الانتقال من علاقة ذوي القربى إلى العلاقة القائمة على الكفاءة, وتقدير القدرات والإمكانات بالنسبة لتنظيم الجماعات, أي الانتقال إلى نظام المؤسسة. ويمكن القول أيضًا إنه على الرغم من القضاء على نظم الإدارة القديمة التي كانت قائمة قبل فترة القرن التاسع عشر والتي تعتمد على علاقة ذوي القربى, وعلى الرغم من ثقل ومحاكاة نظام المؤسسة الأوربية منذ تلك الفترة وعلى مدى قرنين من الزمان, فإننا لم نستطع تأسيس نظام فكري وتربوي يعلي من أهمية الروابط والعلاقات التي تتصف بما هو كلي وعام وشامل, ومازلنا نعمل في نطاق الاهتمام فقط بالجزئي المحسوس والمشخص, وبالتالي, فلم نستطع الانتقال من نظام العصبية وثقافته إلى نظام المؤسسة وثقافته, وهو ما يعكس في نهاية الأمر تلك الازدواجية القائمة على وجود نظام المؤسسة على مستوى الشكل والمظهر فقط, بينما يظل نظام العصبية هو النظام الفاعل, وإن كان على مستوى غير ظاهر. ونتيجة لذلك يسود نمط الإدارة الفردي بأشكاله المختلفة والتي تشمل علاقات الصداقة, والشللية والتحيزات بأنواعها, وتغيب بالتالي القدرة على تقييم مستوى الأداء ويضعف إمكان الالتزام بمعايير الجودة, وهو التحدي الأكبر الذي يواجه مجتمع المعرفة العربي حتى يكون فاعلا.

 

أحمد محمود عبدالجواد