كيف بدأ العالم الإسلامي إصلاحه الدستوري? وجيه كوثراني

كيف بدأ العالم الإسلامي إصلاحه الدستوري?

بدأ الوعي بحالة الاستبداد في العالم الإسلامي, والبحث عن حل دستوري للحكم الفردي في دوله, في مرحلة تاريخية دقيقة شهدت تحوّلاً في صيغة الدولة السلطانية القديمة إلى صيغة الدولة الحديثة.

لقد ساد في المركز الأوربي خطاب يدعو إلى إقامة إصلاحات وتنظيمات في العالم الإسلامي من شأنها تسهيل عمليات التبادل التجاري والاستثمار, كما برز في داخل العالم الإسلامي خطاب إصلاحي أيضًا يدعو إلى الحد من مساوئ الحكم الفردي الاعتباطي من خلال اعتماد صيغة الدولة الدستورية التي ترتكز إلى دستور ينص على وجود برلمان تشريعي وفصل للسلطات, وعلى حقوق وواجبات تنظم العلاقة بين الأفراد والمجتمع من جهة, والهيئات الحاكمة من جهة أخرى.

واللافت أن فقهاء إصلاحيين ساهموا في بلورة الخطاب الإصلاحي الداخلي, من وجهة نظر تقوم على الاجتهاد الديني الهادف إلى انتزاع ذريعة استخدام الدين في الحكم الفردي, وما ينتج عنه من استبداد تشعب الفروع والحقول.

ولنبدأ أولاً بتعريف لـ(الدولة السلطانية), وماذا نقصد بذلك تاريخيًا?

الدولة السلطانية ما هي?

إن استخدام مصطلح (الدولة السلطانية) هو للتعبير عن نموذج من الحكم آلت إليه التجربة التاريخية الإسلامية في العهدين البويهي والسلجوقي, ولاحقًا في العهدين العثماني والصفوي, وأهم مظاهره وآليات اشتغاله ما يلي:

أ- آل الدين عبر ممثليه الفقهاء والعلماء والكتّاب والوعّاظ إلى الانضواء في لواء السياسة السلطانية, بصفة كُتّاب أو قضاة أو وعّاظ أو مدرسين, ولاسيما بعد تأسيس نظام الجامعات والمدارس وتوسّعه, الأمر الذي مكّن الدولة بشخص سلطانها من توظيف الدين في العلاقة بالرعية توظيفًا أيديولوجيًا داخل المؤسسة الحاكمة.

ب - ومنذ كتابات الماوردي (القرن الخامس للهجرة) أي منذ دخل الفقه ميدان السياسة السلطانية, راج ما عُرف في التراث بـ(الآداب السلطانية). وهذه الأخيرة هي جملة تلك الأدبيات الواسعة التي تراوح في موضوعها بين التعريف بالمناصب والوظائف السياسية والإدارية في الدولة من جهة, والنصح والإرشاد والوعظ في شئون سياسة الملك من جهة أخرى.

ويلاحظ الدّارسون أن مرجعية هذا النمط من الكتابات هي مرجعية فارسية, تتمثل بشكل رئيسي في (نصيحة أردشير) المعروفة بـ(عهد أردشير). وهو الذي ينصح صراحة السلطان باستثمار فعالية الدين ورجاله في المجتمع, لكي لا تنشأ (رياسات مستترات) على حد تعبير صاحب (العهد) (ويقصد محاولات الانقلاب باسم الدين).

ج - إن مثل هذه العلاقة التي تكرّست في الدولة السلطانية على امتداد مراحلها وأسرها المختلفة, ما لبثت أن تعمّمت داخل مؤسسة الدولة وخارجها أي في المجتمع, وأضحت جزءًا من نسيج العلاقة بين المجتمع والدولة.في هذا الإطار, شكّلت (مشيخة الإسلام) في كل من الدولة العثمانية والدولة الصفوية الإيرانية, وإن اختلف مذهب كلّ من الدولتين, مؤسسة كبرى وعامة, كان لها دورها في مجالين متكاملين:

- مجال تقاسم السلطة مع الهيئة السلطانية ولكن في إطار ميزان قوى غلبت فيه كفة السلطان وسياساته. ويتلخص دور هذا المجال في إضفاء الشرعية الدينية على الفرمانات السلطانية, أي قرارات السلطان ومراسيمه.

- مجال إدارة المجتمع, وذلك في نسق من العلاقات تمارس فيه الهيئات الدينية الرسمية (بدءًا من إمامة المسجد إلى المفتي إلى القاضي إلى شيخ الإسلام...), وظائف دينية وثقافية واجتماعية, بل واقتصادية, ولاسيما عبر مؤسسة الوقف التي توزّعت بين الهيئات الدينية (العلماء من ذوي التقليد الفقهي) ومشايخ الطرق (من ذوي التقليد الصوفي), ويذكر أن الفريقين - وقد يتداخلان - لهما امتدادهما في المجتمع, ونفوذهما الشعبي في الحارات والأحياء والقرى.

ويُمكن الاستنتاج أن المؤسسة الدينية المنتظمة في أطر الدولة السلطانية أخضعت لحال من الاستتباع الوظائفي للسلطان القائم. بل يُمكن القول إن الاشتداد بالدعوة الدينية التي سبق لابن خلدون أن تحدث عنها - ربما بتأثير عمق أردشير وبتأثير وعيه للتجربة التاريخية من غير شك - أضحى في نهاية عهود الدول السلطانية (في غضون القرن التاسع عشر الميلادي), حال استتباع وطاعة طرفاها: السلطان والرعية, وبينهما مؤسسة دينية متشعبة الفروع والأدوار والوظائف تعمل لتمكين هذه العلاقة في النظام العام.

هذا, ونجد وصفًا معبراً عن سمات هذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وكما أضحت عليه في نهاية القرن التاسع عشر, في كتاب (طبائع الاستبداد) للكواكبي, إذ ينقل لنا المؤلف صورًا معبّرة عن أخلاقيات ومسلكيات المستبِد والمستبّد به, ويصوغها بمصطلحات لافتة وجريئة أبرزها صوغه لمصطلح (الاستبداد الديني), واعتبار هذا الأخير مدخلاً (للاستبداد السياسي).

كتاب الكواكبي الذي صدر في القاهرة العام 1900, يشكل حال كشف أو اكتشاف لنموذج من الحكم السلطاني الذي كانت تمثله آنذاك الدولة العثمانية, ولكنه أيضًا محاولة تفكيك لبنية الدولة السلطانية في التاريخ الإسلامي بصورة معرفية أشمل.

عوامل (وعي الاستبداد)

كثيرة هي العوامل التي أدّت إلى هذا الانكشاف في بنية الدولة السلطانية, والتي مهدت بالتالي لنوع من الوعي بالحريات العامة عبر الوعي بأهمية دستور خاص لها, ويُمكن أن نذكر من هذه العوامل:

أولاً: وعي نخب جديدة في المجتمعات الإسلامية, بفعل الاطلاع أو التماس أو التعلم من أوربا لمفارقة مثيرة: حال الاستبداد في الداخل, وحال الحريات في أوربا (أي في الخارج).

الأمر الذي أدّى إلى ما يمكن أن نسمّيه (الوعي الدستوري عبر الإدراك التاريخي المقارن).

ثانيًا: إدراك المدى الذي وصل إليه تقهقر الدولة السلطانية في أهم عنصر من عناصر شرعيتها التاريخية الموروثة عن نظام الخلافة: حماية دار الإسلام والدفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين. فطيلة القرن التاسع عشر, كانت تتساقط ثغور العالم الإسلامي وتُخترق حدوده وجغرافيته من كل صوب.

ثالثًا: بداية بروز تناقضات بين رموز المؤسسة الدينية الرسمية (المفتي والقاضي) وبين طلبة علوم دينية أخذوا يقرأون النصوص الدينية التأسيسية مباشرة دون العودة إلى كتب (الأحكام), فاتهموا بالاجتهاد. ومن ذلك الحادثة المعروفة في دمشق, بـ(حادثة المجتهدين) في العام 1895, والتي يرويها أحد علماء دمشق, وهو جمال الدين القاسمي, وكان هو أحد أبطالها.

هذا, ومن المعروف أن عملية الردّ على الاستبداد الفردي صيغت بالمطالبة بالدستور (المشروطة) التي تقيد السلطان بأحكام ومجلس تمثيلي منتخب من الأمة. ويذكر أيضا أن أوّل تجربة دستورية في العالم الإسلامي, كانت تجربة (إعلان الدستور) في عهد السلطان عبدالحميد الثاني في العام 1876 التي فشلت بعد أقل من سنتين ليعود الدستور في العام 1908 محمولاً على كتف انقلاب عسكري هو انقلاب حزب (الاتحاد والترقّي).

وعلى موازاة الانقلاب العثماني, بل قبله بقليل, تقوم انتفاضة شعبية في إيران في العام 1906 وتستمر حتى عام 1911, بين كوادرها وقياداتها الأساسية علماء شباب, لكنهم يستظلون بمرجع تقليد كبير مقيم في النجف هو الملا كاظم الخرساني الذي أفتى بشرعية إقامة الدستور ووجوبه منعًا للاستبداد الفردي. يقول: (نحن بحسب اطلاعنا على البلاد التي تطبق فيها الدساتير, نعلم أنها تدار وفق قوانين عادلة. ونحن نقول بكل صراحة ليس في المشروطية أي نقطة تخالف الدين الإسلامي).

وكان المسار الذي شهدته الحركة الإصلاحية الدستورية في إيران, شبيهًا أيضًا بمسار الحركة التي شهدتها تركيا العثمانية وولاياتها العربية, لناحية البدء بالإصلاحات والتنظيمات من فوق, وصولاً إلى طرح النخب الجديدة لمسألة إقامة الدستور وانتخاب ممثلين عن الأمة, مع فارق واحد هو الاختلاف في مواقع العلماء حيال الدولة السلطانية في كل من تركيا وولاياتها العربية من جهة, وإيران من جهة أخرى.

في تركيا العثمانية والبلاد العربية, كان ثمة انتظام للمؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام) فكان من الطبيعي أن يخرج العلماء الإصلاحيون, ومن بينهم المطالبون بالدستور من داخل هذه المؤسسة (مثال جمال الدين, ومحمد عبده, ورشيد رضا....).

أما في إيران القاجارية, فقد كانت هناك مؤسسة دينية, شبيهة بالمؤسسة العثمانية, قامت منذ أيام الصفويين, وكانت لها مراتبها ومناصبها وامتداداتها في المجتمع, إلا أن صيغة ما عُرف بـ(مراجع التقليد) في فقه الشيعة الإمامية, وانتظام هذه المراجع في حوزات علمية مستقلة (ومنها النجف) عن الدولة, أتاحت تعددية في الرأي والاجتهاد والموقف, وسمحت بدورها بقيام عدد من العلماء والمراجع بأدوار قيادية وتعبوية في انتفاضات أو مطالبات لإصلاح شأن الدولة والمجتمع.

في هذا الخط من الاستقلالية كان لجيل من العلماء دورهم في قيادة الانتفاضة الدستورية في إيران بين (1906و1911). وقد أنتجت أدبيات هذه المرحلة عملاً لافتًا كتبه أحد العلماء, وهو حسين ناتيني بعنوان (تنبيه الأمة وتنزيه الملة). صدر في معترك الصراع بين الفقهاء المؤيدين للدستور والفقهاء المؤيدين للشاه, وهو الصراع المعروف تاريخيًا بالصراع بين (أصل المشروطة وأهل المستبدة).

وبالعودة إلى التجربة العثمانية, تستوقفنا أيضًا كتابات رشيد رضا في المنار, في دفاعه عن الدستور العثماني قبل 1908 وبعده. فكيف عالج هذان الفقيهان المعاصران للحدث الدستوري في كل من إيران والدولة العثمانية مسألة الإصلاح الدستوري? وكيف أجابا على إشكالية الداخل والخارج في وجوب الاستجابة لمطلب الإصلاح?

اجتهادات فقهية

تستحضر أولاً لدى الفقيهين مرجعية واحدة هي مرجعية الشورى في الإسلام باعتبارها أصلاً, ولكن هذا الأصل لم يستمر. أما التجربة التاريخية للدولة الاستبدادية, فهي في رأيهما انحراف عن هذا الأصل بسبب غلبة نزعة الاستبداد لدى الأفراد وبسبب الغطاء الديني الذي وفّره بعض الفقهاء. فهؤلاء هم (فقهاء الحشوية) في خطاب رشيد رضا, وهم (علماء السوء) في خطاب حسين نائيني. بل إن النائيني يتحدث - وربما بتأثير عبدالرحمن الكواكبي - عن (شعبتين متآلفتين) يقوم عليهما الاستبداد: شعبة الاستبداد الديني وشعبة الاستبداد السياسي.

والسؤال: لماذا غيبت الشورى على امتداد التاريخ الإسلامي, حتى تذكرها فقهاء الإصلاح في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين? وما الأسباب التي دعت إلى تذكّرها واستحضارها?

لعلّ الجواب نجده عند رشيد رضا عندما طرح عليه قاريء مسلم في (المنار) في العام 1907, السؤال التالي: لماذا نتحدث عن حكم دستوري استفدناه من أوربا ولدينا نحن المسلمين ما نستفيده من أصول ديننا? يجيبه رشيد رضا بصراحة وجرأة (لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم من أصول ديننا, فنحن قد استفدنا من الكتاب المبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا من معاشرة الأوربيين, والوقوف على حال الغربيين! فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكّرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام, ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء الدين في الأستانة وفي مصر وفي مراكش, وهم الذين لايزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية, ويُعد من أكبر أعوانها (...), إنني لا أنكر أن ديننا يفيدنا في ذلك (....), ومع هذا كله أقول إننا لولا اختلاطنا بالأوربيين لما تنبّهنا من حيث نحن أمة أو أمم إلى هذا الأمر العظيم, وإن كان صريحًا جليًا في القرآن الكريم).

إذن المنبه للشورى أو المرجعية الثالثة في اجتهاد رشيد رضا هو منبه أوربي, يكمن في النظام الديمقراطي البرلماني الذي انتصر في أوربا على امتداد القرن التاسع عشر, ولولاه لما حصل هذا التذكر أو (التنبّه) بتعبير رشيد رضا.

هذه الشفافية في التعبير عن حال التثاقف التي نقرأها في نص رشيد رضا نجد مرادفًا لها أيضًا عند النائيني عندما يرى هذا الأخير (أن تحرر الملل الأجنبية جاء اتباعًا للمبادئ الطبيعية وإحاطة بالقوانين الإسلامية) إذ لا يرى تناقضًا بين المرجعيتين الإسلامية والغربية.

هكذا يجري لدى الفقيهين استعارات اصطلاحية من ثقافتين وتاريخين للتعبير عن حاجات سياسية إصلاحية معاصرة واحدة: تقييد الحاكم الفرد بنصوص وإشراك الأمة في الحكم.

ولنلاحظ في هذه الاستعارات من ثقافة الداخل وثقافة الخارج معًا, إن المهم في منهج الإصلاحيين النهضويين, ليس مرجعية المصطلح التاريخية, كما يرى محمد عابد الجابري اليوم, بل كان المهم في اجتهاد الفقيه المصلح آنذاك هو الاستجابة للحاجة الإصلاحية, وتحقيق الهدف والقيام بوظيفة القيام به: مقاصد الشريعة ومصالح الأمة.

ووفقًا لهذا الاجتهاد, يتبلور موقف ثقافي - سياسي يدعو للانخراط في الإصلاح كشرط للتقدم كما ينفتح مدخل لمواكبة المسار العالمي, وتطور الفكر الإنساني أيّا كانت جغرافيته أو مصادره القومية. ووفقًا لهذا الاجتهاد أيضًا بتراجع مفهوم الخليفة الواحد للعالم الإسلامي الذي تستّر به (سلطان الضرورة) فشرّع الاستبداد و(البيعة القسرية), ويتقلص دور (نائب الإمام) في الدولة السلطانية الشيعية التي كان نموذجها يتمثل في الدولة الصفوية, ثم القاجارية في إيران, كما يتراجع دور (مشيخة الإسلام) في إضفاء الشرعية على الحكم لتصبح (الجمعية التمثيلية) أي البرلمان ونصوص الدستور, مصدرًا للشريعة ومانعًا للاستبداد.

وكل هذا الاجتهاد كان يعني منطقياً انفتاحًا على إمكانات تحوّل كبير في مفهوم الدولة في العالم الإسلامي, لتكون دولة دستورية في المستقبل. بل كان يعني أيضًا تجاوزًا وخروجًا من سجن الثنائية التي لايزال يُعبر عنها اليوم بـ(غرب/إسلام) أو بـ(خارج وداخل).

ولكن مع الأسف, لم تستمر مفاعيل هذا الاجتهاد في التجربة التاريخية العربية اللاحقة, ولم تؤثر في بلورة مفهوم ديمقراطي للدولة العربية في الممارسة, وإن استمرّ الخطاب الإصلاحي العربي على مستوى البيان والنظرية. فلماذا حصل ما حصل? ولماذا كانت انتكاسة هذا الفكر في الواقع العربي? آمل في متابعة هذا البحث على صفحات العربي قريبًا.

 

وجيه كوثراني