هل يمكن قيام نهضة عربية? رفيف رضا صيداوي

هل يمكن قيام نهضة عربية?

التساؤل عن إمكان قيام نهضة عربية يقتضي التعمق في دراسة أسباب تعثرها حتى الآن.

لايزال السؤال حول إمكان بناء نهضة عربية يثير العديد من الطروحات والإشكالات وردود الفعل المتنوّعة حتى يومنا هذا.فالدعوة الأولى إلى نهضة عربية - إذا جاز التعبير - نادى بها متنوّرو الربع الأخير من القرن التاسع عشر, في حين تكوّنت معالم الدعوة الثانية إلى النهضة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وتبلورت هذه الدعوة في خمسينيات القرن المنصرم, بعد سلسلة من الاستقلالات العربية, وبعد اشتداد عود حركات التحرر العربية, فضلا عن الانتشار الواسع في عالمنا العربي للمدّ الليبرالي والناصري والقومي والماركسي. لكن سرعان ماأدّت الأحداث العربية بعد هزيمة عام 1967 إلى بروز الاختلالات في جسم الأحزاب المنضوية تحت لواء الاتجاهات التقدمية, ومنها الثغرات البنيوية التي تبدّت في حركة المقاومة الفلسطينية.

ومع ثمانينيات القرن المنصرم, بات السؤال عمّا إذا كان العرب قادرين على ضبط خضوعهم الكامل للغرب, سؤالاً ملحًا وكذلك سؤالهم عن إمكان بناء نهضتهم الحقيقية الذي شكّل محور نقاشات المثقفين العرب حتى الوقت الراهن.

والملاحظ أن التفوّق السياسي والثقافي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي... إلخ, للغرب كان, ولايزال, منطلق هذه الدعوات الثلاث, الآيلة إلى إيجاد سبل الخروج من التبعية للآخر, الغربي تحديدا. ولعل إحدى الإشكالات الأساسية التي كانت ولاتزال تشكّل عائقا أمام الترجمة العملية لهذه الدعوات, تكمن في جوهرة الغرب عبر تمثّله ككتلة جامدة ومتجانسة, وكواقع لا يتغير ولايزول, تفوقه نهائي وأزلي, لأن أزليته من طبائع الأشياء.

إشكالية تمثّل الغرب

أسباب تعثر النهضة العربية متنوّعة ومتعددة في آن معا. وقد يتقاطع السياسي منها مع الاقتصادي والثقافي في عملية تفاعلية قد تتداخل فيها الأسباب بعضها بالبعض الآخر إلى حدّ التلاحم أحيانا واختلاط المحدّدات بالنتائج. لذا آثرت أن يكون مدخل هذا المقال مقتصرا, في البداية, على إشكالية تمثّل الغرب في الثقافة العربية, لاسيما أن تفوّق هذا الغرب على الصعد كافة, شكّل - كما سبقت الإشارة - التحدّي الفاعل للحثّ على البحث عن مقوّمات النهضة العربية المنشودة وركائزها.

إن إشكالية تمثّل الغرب في الثقافة العربية تنهض أساسًا من الانبهار العربي المستمرّ بالتفوّق الأوربي منذ القرن التاسع عشر وبالتفوّق الأمريكي اللاحق, والحالي, الذي يردّ هذا التفوّق إلى طبيعة الغرب المفطور على التفوّق وعلى تأبيده. وهي قناعة أسماها صادق جلال العظم, في كتابه (ذهنية التحريم), (ميتافيزيقيا الاستشراق) بسبب تفسيرها (الفوارق بين ثقافة وأخرى بين شعب وآخر... إلخ, بردّها إلى طبائع ثابتة وليس إلى صيرورات تاريخية متبدّلة).

ولّدت إشكالية النظرة إلى الغرب, الناتجة إذن عن تحييد الغرب عن الظروف الزمانية والمكانية, رؤية جامدة إليه, تتمثّل بتيارين فكريّين هما, أولا: تيار السلفيين الجدد الذين يشدّدون على قدرة الإسلام الأصلية على النهضة, لأن النهضة العربية المنشودة, بحسب هؤلاء السلفيين ذوي الفكر الماضوي, لها أصولها المرسومة بدقّة في المجتمع الإسلامي الأول وعصره الذهبي. إذ لا ديمقراطية أو عدالة اجتماعية تضاهي مجتمعهم الأول.

ثانيًا: التيار التغريبي المنبهر بامتلاك الغرب لسرّ القوّة والسيطرة, وما يترتب على هذا الانبهار من جعل الغرب القدوة التي ينبغي على النهضة العربية أن تتأسس عليها.

إن كلا التيارين يغيّبان جوهر الرأسمالية الغربية, التي بلغت مرحلة متطوّرة من التوسع الرأسمالي, تعرف اليوم بالعولمة, تتمتّع بمقوّمات جديدة ومكونات مختلفة تسمح للرأسمالية بتكييف بناها, من دون تجاوز جوهرها الاستغلالي والاستقطابي, ناهيك بما ينتج عن هذا التكييف من مظاهر مهدِّدة للنهضة المنشودة على الصعد الثقافية والتقنية والسياسية والاقتصادية كافة, بحيث يتمحور هم الفئات الحاكمة وفئات الفاعلين الاقتصاديين (أصحاب السيادة الاقتصادية من القطاع الخاص والبرجوازية وغيرهما من القوى الفاعلة والنافذة...) في جذب الاستثمارات الأجنبية وتسخير المنجزات الاتصالية لخدمة القيم الثقافية للعولمة.

يقوم كلا التيارين, إذن, بحجب جوهر الصراع الحقيقي بين بلدان الجنوب, ومنها البلدان العربية, والقوى العالمية المتحكّمة بالاقتصاد العالمي (الإمبريالية المتجدّدة أو الجديدة). فيغدو الصراع إما صراعًا بين الإسلام والغرب المسيحي (حسب تيار السلفيين الجدد) أو صراعًا بين الغرب المتفوّق ومناهضي تفوّقه المعادين للتقدّم (حسب التيار التغريبي). يجري تغييب جوهر الصراع الحقيقي, إذن, دونما تمييز بين النخب العربية من جهة, الساعية إلى دور تغييري للمجتمع وللدولة على أساس المصلحة العربية المشتركة, وعلى أساس تغيير علاقات القوى الدولية لتغدو أكثر عدالة وديمقراطية في ظلّ تحديّات العولمة, وبين مناهضي الغرب من جهة ثانية, الّذين ينبني عداؤهم لهذا الغرب أساسًا من فهمهم الجامد له, شأنهم في ذلك شأن المتغرّبين أنفسهم, لكن بالاستناد إلى منطلقات نظرية مختلفة وإلى رؤى مغايرة. أي هؤلاء الذين يمثّلون ما أسماه العظم أيضا, في كتابه (ذهنية التحريم), (الاستشراق المعكوس).

هذا الاستشراق المتمثّل بنقل (حكمة القيمة من القول بتفوّق العقلية الغربية إلى القول بتفوّق العقلية العربية الشرقية). وفي الحالتين - حالة التيار التغريبي وتيار السلفيين الجدد - يتعطّل أحد أبرز الأهداف البعيدة للنهضة المتمثّل بعقلنة الحياة الاجتماعية القومية على الأصعدة كافة.

بهذا, تغدو المعركة شديدة بين المنتمين إلى هذين التيارين والمثقفين التقدميين المناضلين من أجل العقلنة, التي لا نهوض كاملا من دونها. إذ إن تحرّر العقل الكامل, كما شرح ناصيف نصّار في كتابه (منطق السلطة), يستلزم في دنيا الإنسان الاجتماعي (استقلال العقل, ليس فقط عن السلطة الدينية, بل أيضا عن السلطة السياسية التي تلتقي في فضائها القوي السائد في المجتمع).

تحرير العقل من الاتباع, سواء أكان اتباعًا جامدًا للتراث أم للتفوق العقلي الغربي, هو شرط بناء مرتكزات النهضة الجديدة المنشودة, ومن دون بناء هذه المرتكزات على هذا الأساس التحرري, لن تجدي كلّ المحاولات التنموية, ولن تفضي إلا إلى نمو شكلي مفارق للنهضة المستندة إلى تثوير الفكر. وليس أدلّ على ذلك مما شهدته العقود الثلاثة الأخيرة من إخفاق البلدان العربية, حتى الغنية منها, في مسيرة الإنماء نفسها, على الرغم من مواردها البشرية والطبيعية الوفيرة. نكتفي بالقول إنه على الرغم من بلوغ إنفاق البلدان العربية على التعليم - على سبيل المثال لا الحصر - نسبة من الناتج المحلي الإجمالي تفوق ما تنفقه أي منطقة أخرى من العالم النامي, حسب (تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002), وإنه على الرغم من ارتفاع الإنفاق على التعليم بنسبة خمسين في المائة (بالأسعار الجارية) بين عامي 1980 و1995 - حسب التقرير نفسه - فإن معدلات الأمية في العالم العربي مازالت أعلى من المتوسط الدولي, وأعلى من متوسطها في البلدان النامية. إذ قدّر التقرير عدد الأميين في البلدان العربية بنحو ستين مليون بالغ.

اختلاط النوايا

ولعلّ (تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002) قد يصحّ بحدّ ذاته كمثال, في سياق هذا المقال, للتدليل على أحد أشكال الاتباع للتفوّق العقلي الغربي, على الرغم من دعوته الطموح لبناء نهضة عربية, وتساؤله عمّا إذا كانت حركة المنطقة في التاريخ سوف تستمرّ محكومة بالقصور الذاتي? أم سيقوم في المنطقة مشروع للنهضة غايته مستقبل زاهر لأبناء الوطن العربي?.

إن هذا التقرير - الآتي بعد سلسلة التقارير السنوية التي اعتاد البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة على إصدارها منذ العام 1990 - يعكس المناخ العالمي الجديد وضرورات استيعاب المتغيّرات الجديدة الحاصلة في مختلف الميادين الاقتصادية والمعلوماتية والاتصالية...إلخ, السائرة نحو التدويل والعولمة. وهو تاليا - أي التقرير - لا يحجب الجهود العلمية المبذولة من قبل الخبراء العرب لدعم المعرفة بأحوال البلدان العربية دعمًا علميًا. إذ جاء مقرونا بالتحليلات والإحصاءات والأفكار التي تكشف الثغرات وأوجه الخلل المعيقة لعملية التنمية في العالم العربي من جهة, وتبيّن من جهة ثانية, التحدّيات التي تفترض التعاون العربي وتعميقه. هذه الجهود التي نكنّ لها كلّ احترام وتقدير - وبعيدا عن التشكيك بنوايا الخبراء وبحرصهم القومي - لا يسعها أن تحجب أيديولوجية العولمة الرأسمالية التي يلطّف التقرير نزعهتا القسرية. إذ يوهم خطابه بتقديم خطة عملية تأخذ بالحسبان التحدّيات العالمية الجديدة جنبًا إلى جنب مع الحاجات الفعلية للتنمية الداخلية, في حين أن عولمة قيم الحرية والديمقراطية والمشاركة والتمكين والمجتمع المدني وحقوق الإنسان...إلخ تترك بصماتها عليه. فيرسم خبراء التقرير العربي نماذج الحرية والديمقراطية والمشاركة, هذه التي قادت إليها عملية التنمية في الدول الغنية, كمثال لعملية التنمية في الدول الفقيرة. في حين لا تعدو هذه النماذج الجاهزة كونها آليات قسرية لإدماج البلدان العربية إدماجًا أكبر في السياسات والبرامج الإصلاحية التي ارتبطت بها هذه البلدان منذ منتصف الثمانينيات. وهي سياسات وبرامج مستندة إلى منهج التثبيت الاقتصادي والتكيّف الهيكلي المتّبعين من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, مع الإشارة إلى أن هذا النهج بترك مسألة تصحيح الاختلالات للسوق, فيما يصعب افتراض حتمية تعبير السوق عن مصالح البلدان الفقيرة والضعيفة.

ومن هنا يأتي تغييب التقرير للاختلالات البنيوية الحقيقية الكامنة وراء الاختلالات النقدية والمالية. ومن أبرز هذه الاختلالات البنيوية: الفساد السياسي والإداري, ضعف الاندماج الوطني والقومي, النزعة المتزايدة لصرف الشعوب العربية عن أي ثقافة جادة, قمع الحركة الشعبية العربية, تسييس الفكرة القومية وافتراض أنها واقع بديهي ينشأ عليه المواطن العربي بالفطرة...إلخ, وهي جميعها اختلالات تضطلع (الأنظمة) والحكومات العربية بالمسئولية حيالها.

وتمويه الاختلالات البنيوية في التقرير, يوازيه تمويه التعارض بين النمو الأخطبوطي للشركات المتعددة الجنسية من جهة, والسياسة الاقتصادية الحمائية القومية للدول الضعيفة من جهة ثانية, في ظلّ سوق مالي وتجاري حرّ وفي ظلّ خصخصة قطاع الدولة.

عبر تمويه هذه الاختلالات تختفي معاداة العولمة الرأسمالية لوجود دولة قوية, كما يختفي اتجاه هذه العولمة إلى إزالة مختلف العوائق التي تقيّد حركة رأس المال ونموّه, عبر المضي في توجيه اقتصاديات العالم المتخلّف. فلم يشر التقرير, مثلا, إلى انتشار البطالة والفقر, أو إلى انخفاض معدلات الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بين عامي 1980 و1995, في أعقاب تطبيق برامج التثبيت والتكيّف الهيكلي, هذا في الوقت الذي تؤكد فيه تجربة بعض بلدان شرق آسيا أن رسمها لسياسات اقتصادية سليمة - الغائبة في البلدان العربية التي تعاني ضعف المساءلة والرقابة - سمحت, حسبما جاء في ملاحظات الخبير الاقتصادي مهدي الحافظ حول تقرير التنمية الإنسانية, بتحقيق (قفزة النمو الإنمائية), تلك الفترة التي اعترف بها - والكلام للحافظ - الاقتصادي الأمريكي بقوله إن تجربة شرق آسيا (كانت تجري على الضّد من توجيهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والتي كانت تلحّ على نمط إطلاق اليد للسوق والتقليل من دور الدولة, وفرض وصفة الإصلاحات الهيكلية والتحديث الاقتصادي).

معاداة سلطة العقل

هذا الاتباع الفكري المُمأسس, وبسبب تمأسسه خصوصا, لايكتفي بعرقلة استقلالية العقل وتحرّره في البلدان العربية وحسب, وإنما هو يسمح باستقطاب مثقفين ومفكرين من خارج التيّار التغريبي, أي من غير المبهورين بالغرب لمجرد الإيمان بتفوّقه الطبيعي. وما قدرته الاستقطابية هذه إلا نتيجة لخاصيّة هذا الاتباع في مجتمعاتنا, أي تمأسسه, وقدرته بفعل هذا التمأسس على التمويه.

ولعل إحدى الأولويات التي يجري من خلالها تعطيل العقل تتمثّل في تعطيل قدراته التحليلية والنقدية, التي سبق لأنور عبدالملك أن شرح كيفية تحققها عبر السياسة التعليمية التي زرعها الاستعمار البريطاني في مصر. إذ يقول عبدالملك في كتابه (دراسات في الثقافة الوطنية): (رأى دانلوب, مستشار التربية أيام اللورد كرومر, أن الضمان الوحيد لاستعباد مصر على مرّ الأجيال لا يكمن في الاحتلال العسكري والاستعمار الاقتصادي بقدر ما يكمن في ضرب الفكر المصري في الصميم بحيث يصبح عاجزًا عن التطور والإبداع والخلق, ويظل معتمدًا على غيره ليتحرك. ورأى دانلوب أنه, لكي يتحقق هذا الهدف, لابدّ من أن تتّجه سياسة التعليم كلّها - في مراحلها الابتدائية والثانوية والعالية على السواء - نحو الحفظ دون المناقشة, والترتيل دون النقد, ومحاكاة المراجع والأساتذة دون تشريحها وتكوين رأي مستقل فيها, واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها والتصارع فكريا معها).

انتهي من حيث بدأت لأسأل عن إمكان قيام نهضة عربية حقيقية? وأختم بألا مستحيل في هذا الصدد, شرط أن تبدأ الخطوات الحقيقية في عملية إطلاق حرية العقل وتحريره من القيود الداخلية والخارجية.

 

رفيف رضا صيداوي