عزيزي القارىء

عزيزي القارىء
        

القدس.. ملاذ الروح

          تبدأ (العربي) مع هذا العدد عاما جديدا مع قرائها هو العام الخامس والأربعون من عمرها, وهو يعني أن أربعة أجيال على الأقل قد توالوا على قراءتها ومتابعة القضايا التي تنشر على صفحاتها, وكعادة (العربي) في بداية كل عام فهي تصدر هدية مجانية تتمنى دوما أن تكون مفيدة لقرائها ومكملة لرسالتها كمطبوعة. وفي هذه المرة تثير الهدية وجعا كامنا في الجسد العربي, فهي تنشر خريطة دقيقة للقدس العتيقة بأحيائها ومبانيها, وقد قام بإعدادها الخبير الفلسطيني المعروف د.سليمان أبو ستة رئيس هيئة أرض فلسطين, والخريطة ناطقة رغم خطوطها الصامتة, فتلك المدينة كانت, ومازالت, ملاذا روحيا للجميع, ورغم أن العرب هم الذين تولوا عهدتها على مدار التاريخ وهم الذين بنوا أسوارها وعبدوا طرقاتها الضيقة وزرعوا أشجار زيتونها وأعطوها طابعها وبهجتها وألقها وأحزانها, إلا أنهم أفسحوا فيها دائما مجالا للآخرين, لقد حافظوا دوما على الفسيفساء الديني والعرقي الذي سادها ولم يغلقوها أبدا على دين واحد أو عرق واحد, لقد وجد الجميع في القدس موطئا للقدم ومهجعا للعبادة ومساحة للتأمل رغم ضيق المكان, تجاورت الأحياء, وتوثقت العلائق البشرية حتى وصلت المدينة إلى نوع من التوازن السامي قلما يتحقق في مكان له هذه القدسية, وقد ظلت العهدة العمرية التي حدد بموجبها الخليفة عمر بن الخطاب العلاقات بين العرب وبقية سكان المدينة سائدة ومحترمة من العام الخامس عشر للهجرة حتى جاء الاحتلال الإسرائيلي فقضى على كل عهد وميثاق. فمنذ الأيام الأولى قام هذا الاحتلال بنسف حي كامل هو حي المغاربة حتى يوسع الساحة أمام المكان الذي يدعون أنه حائط المبكى, ثم لم تتوقف عملية النسف والتهجير ومصادرة البيوت والأراضي ومحاولة تغيير وتشويه كل معالم المدينة, لقد شبه الأديب الفرنسي ألبير كامي فعل الاحتلال بمرض الطاعون, ولعل القدس - أو أي مدينة على وجه الأرض - لم تواجه طاعونا بمثل هذا العنف والقبح. إن الخريطة الدقيقة والحزينة التي ترافق هذا العدد من (العربي) توضح تلك المأساة التي تعيش فيها هذه المدينة النبيلة, وتكشف القناع عن العار العربي الذي نعيشه حتى أصبح قوت يومنا.

          دعونا نضع هذه الخريطة أمامنا طويلا, دعونا نتأمل ما فيها من خطوط وما عليها من كلمات, دعوا تفاصيلها الصامتة تنزع من نفوسنا حالة الرضا, ومن عقولنا حجاب التواطؤ, فما يحدث لا يمكن السكوت عليه, فضياع هذه المدينة يعني ضياع جزء مهم من التاريخ العربي ومن الذاكرة العربية والأهم من ذلك كله ضياع جزء مهم وأساسي من هويتنا الروحية, وهو أمر لا نريد أن ندفع ثمنه تخاذلا أو جلدا للذات, ولكن تفكيراً إيجابياً يكون فيه خلاصنا جميعاً.

          ولا تكتفي (العربي) بهذه الهدية ولكنها تقدم عددا إضافي الصفحات تثير فيه العديد من القضايا, فيثير رئيس التحرير في افتتاحيته قضية الهيمنة الثقافية وكيف أنها المدخل للهيمنة الاقتصادية والسياسية, وترحل (العربي) إلى خطوط التماس بين باكستان وأفغانستان لتستكشف الجذور التي أنبتت حركة (طالبان), وتواصل (العربي) رحلتها في آفاق الفكر والفن والثقافة وتدخل معكم في عام جديد تتمنى أن يكون أفضل من سابقيه

 

(المحرر)