جمال العربية

جمال العربية
        

الحنين إلى البادية في شعر العدواني 

          بين عامي 1923 و1990 عاش الشاعر الكويتي أحمد العدواني. ولم يتح لكثير من شعره - خاصة في المرحلة الأخيرة من حياته - أن يصدر في ديوان إلا بعد رحيله بست سنوات. فكان ديوان (أوشال) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1996 عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت, بعد أن صدر للشاعر - في حياته - ديوانه الأول (أجنحة العاصفة) عام 1980.

          بالمعيارين: الإنساني والإبداعي يعتبر العدواني علامة فارقة بين عصرين من الشعر في الكويت. عصر الكلاسيكية والتقليد ومحاولة إرساء الأسس والاستفادة الكاملة من الموروث, وعصر التجديد والمغايرة الذي شارك فيه العدواني رائدا وطليعة, على مستوى الموقف, والحساسية الشعرية, والتشكيل الشعري, الذي تجاوب مع بنية القصيدة الجديدة, وإن لم يتخلّ تماما عن نموذج العمودين, والنماذج المختلفة التي أبدعها الشعراء المهجريون وشعراء جماعة أبولّو. كما يعد العدواني واحدا من رواد التنوير, ومفكرا صاحب رؤية ومنهج ومبدع آليات. عقله الجسور وراء الكثير من مشاريع البنية الثقافية والأساسية في الكويت, ورؤيته المستقبلية مهدت الطريق, وعبّدت الجسور, ووصلت بين الأفق المحلي والأفقين العربي والعالمي.

          من هنا, لا يمكن النفاذ إلى شعر العدواني: على مستوى الرؤية والجماليات إلا من مدخل سجله التنويري, حتى يمكن الكشف عن رموزه واستعاراته. ولقد سبق لي القول عنه: (وجه المفكر فيه لا ينفصل عن وجه الشاعر, وكلاهما يضيء بحقيقته وقلقه الدائم وتطلعه, وهو في الوجهين من وجوه تجلياته وإبداعه وتألقه يجافي الناس ويبتعد عنهم ويقنع بعزلته ليعرفهم أكثر على طريقة صلاح عبدالصبور (أجافيكم لأعرفكم). وهو يلتحم بصميم مجتمعه وجحيم تناقضاته وانحرافه - نتيجة لطغيان الثروة واختلال القيم والموازين في ظل الطفرة واهتزاز الوجدان الإنساني - محذرا ومنبها ومصححا. بينما يغلق على نفسه صومعته حبيس تأملاته وعزلته ملتفعا شملته - كما كان يفعل البدوي القديم - الذي يستعيد شاعرنا صورته وهيئته ومنطقه في العديد من قصائده, مفجرا حنينه الموصول إلى عهود الفطرة والنقاء والبراءة, في وجه الاقتحام العاتي لعهود الثروة والتسلط والقهر والتحكم في الإنسان.

          هذا الحنين الملازم للبداوة, هو لون من ألوان الاحتجاج على مجتمع المدنية الزائف, وتمرد على القيم التي أتى بها التحضر والتمدن, فإذا بها قيم تفسد براءة الإنسان, ونبل مقاصده, ونقاء تكوينه, قبل أن يصبح الصراع الذي لا يرحم أسلوب حياته, والتهام الكبير للصغير قانون حياة ووجود, واغتفار كل الوسائل والأساليب البعيدة عن الشرف والنزاهة والصدق, من أجل الوصول إلى الغايات. إنه رافض - في أعماقه - لمجتمع الكذب والتبرير والشهوة, شهوة الامتلاك وشهوة الانفراد بما يُمتلك, مدرك عمق الهاوية والمنحدر الذي يسقط فيه الإنسان المعاصر, وهو يظن أنه يعلو ويرتفع, بينما هو يهوي إلى السفح والقاع).

          كل من يتاح له النفاذ إلى الطبقة العميقة في شعر أحمد العدواني, تلفحه حرارة التمرد الفكري والوجودي الملتحم بالوجدان الشعري والرؤى الإبداعية, الأمر الذي جعل الشاعر والمؤرخ الكويتي خالد سعود الزيد يقول عنه في الجزء الثاني من كتابه: (أدباء الكويت في قرنين): (لقد كان القلق سوط راحلته في رحلته إلى اكتناه الحقيقة, متدثرا بالرمز, ملتحفا به لكيلا يرى العابرون ملامحه, فلا يعرفون من وجهته سبيلا. بيد أن هذا الرمز كان خفيفا في بداياته, يكتنفه الغموض فيما قاله أخيرا. لذلك, كان العدواني صوتا متفردا يسير في الدرب وحده, فلم يجار في طريقته من شعرائنا في الكويت أحدا, ولم يجر وراءه أحد. لقد أعجب بالمهجريين في بداياته وبمن درجوا في طريقتهم في التجديد, كما كان معجبا فيما نقرأ له أخيرا برواد الشعر الحر, ولكنه لم يتأثر بهم تأثر مقلدين. كان ابن عصره وبيئته, وسهيل إذا استقل يماني.فلقد حاول دائما أن يفتح نوافذ نفسه لتستقبل جميع التيارات الشفافة ذات الأثر في تطوير الفن والفكر. وعلى رأيه فإن الإعجاب بالأديب الواحد والكاتب الواحد شيء ترفضه نفسي. فشعر العدواني صورة ذاته الحالمة الممتزجة بالواقع, وإن شئنا قلنا إنه ذاته القلقة ومسيرته نحو المجهول المعلوم. لم يكن قلقه مصطنعا بل كان تطلعا, إنه قلق الصوفي المتحفز وعقله المستوفز على رأي ابن عربي فهو لا يرفض شيئا, ولا يقف عند شيء, فله على كل مورد وقفة, وعلى كل مشرب مأخذ, شأن الغزالي في طريقه).

          في ضوء هذا الموقف الحياتي والوجودي, وهذه النزعة المتطهرة, المشتعلة حنينا وانعطافا إلى الأصول, إلى البداوة البعيدة, التي تطمسها حجارة الأبنية الباذخة, وعصف التحضر والتمدين السريع, وتلف الإنسان الذي فقد الأمان والبراءة والصدق - في ضوء هذا كله نستطيع أن نرى المسار الإبداعي في قصيدته (صفحة من مذكرات بدوي) باعتبارها كشفا عن الذات, وإبحارا في تجلياتها, ونقلة في المكان والزمان والحياة والوجود.

          يقول أحمد العدواني:

كنتُ هنا, وكان لي بيتٌ من الشَّعَرْ

نسجْتُه, صُنْعَ يدي, بالصوف والإبر

قام على رابية, مُخضرة الطرر

تَؤُمُه الضِّيفان, بين مرتقى ومنحدر

والشمسُ تفترّ له, ويضحك القمر

***

كنتُ هنا, وكان لي على الحمى مقر

ملاعب الربيع بالأعشاب والزهر

تمرح في أرجائها الأغنام في بطرْ

قد سرحت, فاجتزأت أطايب الثمر

وعبَرتْ بنزقٍ من عيْشِها النّضِرْ

تباركت تلك الشياه, ما نمى خبر!

زاد حياتي كلها من جودها انهمر

اللبن المخيض بالزبدة قد خَثرْ

وربما طبخته بالنار فانشمرْ

كقطعٍ من اللجين, سلكها انتثر

لذيذة مسعفة بالحلّ والسفر

***

وللصبايا لعبٌ يمضي بلا حذرْ

تواثبت فيها الحياة وثْبة الظفرْ

فانطلقتْ باسمة الآصال والبُكَرْ

مثلَ فراشات الربيع, لونها سَحرْ

كم عبثتْ بكلبي الأمين فانزجرْ

أو شلّها فعثرتْ, وبان ما استترْ

فانقلبتْ ضاحكةً, لكنْ على خَفر

***

ولي إذا جنّ الدجى وائتلف السَّمرْ

مع الصباح مجلسٌ بالأنس قد عَمرْ

تدور فيه قصصٌ عن زمنٍ غَبرْ

عن الجدود الأولين, من معدٍّ ومُضَرْ

وكيف رام عنترٌ, عبلة فانتصرْ

وكيف ساد حاتمٌ, وسيْبهُ غَمرْ

مناقبٌ فيها لنا الحكمةُ والعِبرْ

***

يا ليت شعري, ما أرى? ما فعل القدر?

ملاعب الربيع قد حلّت بها الغِيرْ

عفّى على آثارها ناسٌ من الحَضرْ

شادوا عليها لهمو القصور من حجرْ

كأنها مقابرٌ معكوسة الصّور

***

كنتُ هنا, وكان لي بيت من الشّعَرْ

وذكريات نفَحتْ من زهرة العُمُرْ

الحبّ فيها والمنى والظلُّ والشجر

واليوم.. مالي ها هنا.. بيتٌ ولا أثرْ

          هذا الحنين الهادر إلى حياة البادية, وبيت الشّعر, في لغة سلسة طيعة, تنساب في رفق وروية وتؤدة وتغزل صورها الشعرية من عناصر البادية الأولية, دون عنتٍ أو مشقة, وقد سلس لها الإيقاع وانقادت الموسيقى, فاكتملت تعبيرا وتصويرا, وإحساسا عارما وأداء مؤثرا - تكمله لوحة شعرية أخرى, هي اللوحة الثالثة من لوحات قصيدته (أوشال), التي صارت عنوانا لديوانه الثاني, يقول في هذه اللوحة :

          قال لي الغرابْ:

ما هذه القصورْ?

ما هذه الأحجارْ?

ما هذه الزهورْ?

ما هذه الأشجارْ?

تنافرتْ فشوهتْ وجْهَ التراب!

صدقْتَ يا غراب

امضِ بها إلى الخرابْ!

وفي اللوحة الرابعة يقول:

ما كان يدري أنه طريدُ زمنه

حتى رأى آثاره في وطنه

منبوذةً,

تلهو بها الرياحْ!

فدار حول نفسه

وبين كفّيْهِ

بقية من أمْسِه

مضيئةُ الجراحْ

ضاق بحمْلها

فسكب النار عليها واستراحْ!

ثم يقول أحمد العدواني:

اجري بنا اجري

أيتها السفينة

فراكب البحرِ

لا يطلبُ السّكينةْ!

          يصل هذا الموقف المتمرد, الرافض, المغاير للسائد والمألوف من الشاعر أحمد العدواني - يصل إلى أوْجِهِ ونهاية مداه, حين يترك الرمز والحجاب والأقنعة, ويخرج للميدان عاريَ الصدر, مهيأ لاستقبال السهام والطعنات, وهو يقول في سخرية مريرة, وتهكم لاذع, ولغة كاشفة لا لبْس فيها ولا تورية, تحت عنوان (نشيد الأغنياء):

العلالي والقصور

قد بنيْناها, وأرسلْنا البدورْ

فوقها تسطعُ بالضوء المنير

العلالي والقصور

أرضها مصبوبة بالذهب

وبها كلّ أفانين العصورْ

من تُحفْ

وتماثيل على أسرارها

يغفو التّرفْ

صورة من جنة الخلْد على أجفان حالمْ

قد صنعْناها ولكنْ..

بالدراهم..

بالدراهمْ نشتري المعْبدَ والسوقَ ونبتاع المراهمْ

بالدراهمْ

كلّ ما نطلبُه يأتي إلينا

خاشعا بين يديْنا

قائلا: هأنذا تحت الطلبْ

كرُمت أرضاً, وطابت منزلا

داركم كنْزُ الذهبْ

إنها للمجد والأمجاد خادمْ

بالدراهم

لِمَ نقضي العمرَ طلاّبَ علوم أو فنونٍ أو حقيقة

نُنفق الأيامَ في جهد مرير

إننا نملك للمجد طريقة

يسّرت كلّ عسيرْ

ربما, كنّا نياما

أو قعودًا أو قياما

نملأ الدنيا دويًّا ومكارمْ

بالدراهمْ!

أنت يا درهمُ.. يا كلَّ المنى

قد ملكناك فما أعْظَمنا

للسيادة!

والمناصبْ

ولنا في الحرب والسّلم القيادة!

والمراتبْ

والذي يُنكر ما سوَّدنا

فهو كاذبْ

ما درى سحْرَ الدراهمْ!

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات