شعاع من التاريخ

 شعاع من التاريخ
        

          حساب الآخرة في التراث الفرعوني  

          يمتزج التاريخ الفرعوني بكثير من الأساطير حتى لم يعد من الممكن الفصل بين الاثنين, ولعل ذلك نابع من أن الباحثين في أمور المصرولوجيا اعتمدوا كثيرا على النقوش التي نقشها المصريون القدماء على جدران المعابد وأوراق البردي والآثار التي لاتزال باقية حاملة الكثير من ألوان الحياة في مصر الفرعونية حتى لو اختلط بعضها بأفكار وتصورات المصري القديم في الحياة الدنيا والآخرة. من بين هذه النقوش على جدران المعابد وكتاب الموتى تلك القصة التي يعتبرها البعض تاريخا ويعتبرها آخرون مجرد أسطورة.

          ومن ذلك حكاية الحساب في الآخرة عندما يحكي التاريخ أن ساتني ابن الفرعون (سنوزيرس) من العصر الوسيط لم يكن يعرف السعادة قط, وكان عقمه هو سر تعاسته, فما استطاعت زوجته الأميرة (ماهي) إنجاب ولد يخفف عنهما الوحدة رغم كثرة دعواته للآلهة.

          وذات يوم سمع ساتني في نومه هاتفا يهتف به:

          - يا ابن فرعون, ستضع امرأتك طفلا سمه (سنوزيرس) أيضا ولتهنأ مصر بالخوارق التي يأتيها لكل الناس...!

          وكانت السماء عند وعدها, فما مضت أسابيع حتى كانت زوجته قد وضعت طفلا لم يكد يرى النور حتى سجد يصلي, والحق أن الوليد كان أكثر من معجزة, وكان وهو في السادسة من العمر يشترك مع الكهنة في قراءة كتاب الحكمة ويدهشهم بقدرته على تفهّم نصوصه التي وضعت قبل ذلك بمئات السنين.

          وذات صباح, بينما كان ساتني يغتسل على سطح بيته وإلى جواره ولده, شق السكون صوت عويل يرتفع في الطريق, وأطل ساتني فإذا جنازة رهيبة لواحد من الأغنياء يشيع في موكب فخم إلى مقابر منفيس.

          ومضت لحظات, وإذا ميت آخر في الطريق, ملفوف في خرقة يشيعه بضعة أفراد من ولده بغير ما احتفال ولا موكب, وهتف ساتني وهو يطل إلى السماء:

          - يا أوزوريس, يا سيد الأمنت العظيم القدرة في العالم الآخر, اكتب لي دخول دار الأموات في عظمة وجلال كهذا الغني ولا تحرمني من شجو الموسيقى وندب النادبين كما حرمت هذا الفقير.

          ونظر إليه ولده سنوزيرس طويلا ثم قال:

          - يا أبت, كم أتمنى أن تموت ميتة هذا الفقير لا ميتة ذلك الغني...!!

          وتألم ساتني وهو يعتب على ابنه أنه لا يتمنى الخير لأبيه, وأجاب الصبي:

          - إذا أردت: فأنا على استعداد لأطلعك على مصير كل منهما في الآخرة, وأمسك سنوزيرس بيد أبيه وأخذ يتلو تعاويذ بدت غريبة على أبيه. ثم انطلق به يقوده إلى جبل منفيس حيث هبطا معا فجوة ضيقة بين الصخور, ما كادا يهبطان إليها حتى وجدا أنفسهما في قاعة قادتهما إلى أخرى أكثر اتساعا ثم إلى ثالثة كأنها أكبر من قاعات مقر فرعون نفسه, وهنا شهد ساتني جماعة مزدحمة من الناس فيها الفقير والغني, الوضيع والرفيع, الجميل والقبيح.

حساب الآخرة

          عاد الصبي يقود أباه ويجتاز به الباب إلى القاعة الرابعة, وهناك شهدا قوما مولين على ظهورهم حمير تأكل وقوما آخرين يمدون أيديهم إلى الطعام المعلق فوق الظهور فلا يستطيعون إليه سبيلا إذ تقف دونهم حفر يحفرها قوم آخرون تتسع وتتسع وتحول بينهم وبين الزاد.

          واجتازا بابا إلى قاعة خامسة, وشهد ساتني باب القاعة يرتكز على عيني رجل راح يستغيث ويصرخ, ومن خلفه ناس يبكون, يلحون في طلب الدخول فلا يسمح لهم أبدا.

          وكان لابد لهما أن يدخلا القاعة فإذا بهما يدوسان على الرجل المنطرح تحت الباب, وكان هذا جزءا من العقاب الذي قدّر له, إذ يدوسه كل الأموات الذين يجتازون قاعات العذاب, إلى مكان السعداء...!

          ثم كانت القاعة السادسة...

          وشاهد ساتني محكمة الموتى منعقدة- يرأسها القاضي الأكبر أوزوريس سيد (الأمنت) الدار الآخرة, متربّعا على عرش من ذهب, وفوق رأسه تاج الجنوب الأبيض المرصّع من جانبيه بريشتي نعام, وإلى جوار أوزوريس يتربع أنوبيس وتوت وحولهما من شمال ويمين اثنان وأربعون قاضيا تكتمل بهم هيئة المحكمة, وكان هناك في وسط القاعة ميزان توزن فيه الحسنات والسيئات, يستجوب أنوبيس الميت ويدوّن توت إجابته, فمن رجحت حسناته السيئات قاده الآلهة المحيطون بأوزوريس إلى جنة الأموات الصالحين حيث يتمتع بالسعادة الخالدة, وأما من رجحت سيئاته حسناته, فإنه يسلم إلى كلبة سيد الأمنت المفترسة المستلقية تحت قدميه مستعدة لتمزيق كل محكوم عليه بالعقاب, وتفرس ساتني في آلهة العقاب, فإذا به يلمح رجلا نبيل الطلعة يرتدي ثوبا من كتان فاخر يقف إلى جوار أوزوريس, وسأل ساتني ولده عمن يكون هذا الرجل فأجابه:

          - هذا هو الفقير الذي رأيته مكفنا بخرقة بالية ومحمولا بلا موكب إلى خارج منفيس, إنه هو نفسه الذي تمنيت يا أبي ألا تموت ميتته قد حل أمام محكمة الموتى فرجحت حسناته سيئاته, إنه تعذب كثيرا في الأرض ليسعد طويلا في السماء. ولكي تتم سعادته خلع أوزوريس عنه كفنه الممزق وألبسه كفن الغني الذي رأيته مشيعا في حفاوة إلى مقبرة منفيس. هذا الفتى نفسه هو الذي دست فوقه عندما ولجت القاعة, وكان محور الباب مرتكزا على عينه اليمنى يضربها كلما فتح أو أغلق. فقد حوكم الغني الطاغية فرجحت سيئاته حسناته وحكم عليه بالعقاب الصارم, بعد أن تلقفته كلبة سيد الأمنت المفترسة تلك التي ترى فمها فاغرا كأتون, ومخالبها حادة كسكين, ورأسها مدببا كتمساح, وجسمها بشعا كتنين!

          وهكذا ترى يا أبي أنني قد تمنيت في الأرض ميتة الفقير لا ميتة الغني, لأنني كنت أعلم مصير كل منهما في الآخرة, كما كنت أعلم الكثير مما سيحدث بعد ذلك وحرصت ألا تشهده بعينيك حتى لا يزداد الأمر هولا لديك. ففي أعماق الجحيم هناك الزبانية الذين ينشغلون دائما بتعذيب الأرواح الشريرة, فيتولى بعضهم تحطيم عظام المذنبين, ويتولى البعض الآخر سلخ لحم المذنبين عن عظامهم. وهناك من يعذبون الضالين بضربهم بالرماح ثم يفرمون لحومهم وشيها بعد تمزيقها بالكلاليب. وغير هؤلاء يوجد حملة السيوف والسهام لطعن الأجساد بعد تعذيبها بمساحيق نارية, كما يوجد من يغرسون المحكوم عليهم في الأتون المشتعل, ومن يقذفونهم بقوة على الصخور, وهناك من تكون مهمتهم إرغام الأرواح على الجلوس فوق الخوازيق.

العودة إلى الأرض

          قال ساتني يسأل ولده:

          - لقد رأيت يا بني في الأمنت ما أوحشني, فهل تستطيع أن تخبرني عن هؤلاء الذين رأيناهم مولين وعلى ظهورهم تأكل الحمير. وعن أولئك الذين لا يملكون سبيلا إلى الزاد بسبب الحفر التي تزداد وتتسع تحت أقدامهم?

          أجاب سنوزيرس:

          - أجل يا أبت. الأولون هم أبناء هذه الأرض الذين لعنتهم الآلهة ويعملون ليل نهار ليضمنوا بقاءهم دون أن يهتموا بمن حولهم فتتحول نساؤهم إلى حمير نهمة تنهب أموالهم وتأكل على ظهورهم. أما الذين يمدون أيديهم عبثا إلى الطعام فهم من استأثروا بخيرات وما شبعوا فعوقبوا بالحرمان. وما كاد سنوزيرس ينتهي من شرح ما خفي على أبيه حتى شده بيده ليعود به إلى مجلس فرعون حيث راح ساتني يحكي له عمّا شهده في الأمنت. ولم يكد يطل حوله باحثا عن ولده حتى كان هذا قد تلاشى من أمامهم فجأة كأنه كان يحمل رسالة من السماء ليشهدها الناس.

          وسكت الجميع, فما كان أحد ليستطيع أن يتكلم بعد...!

 

سليمان مظهر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات