قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?

-------------------------------------------

الفن القصصي من أثرى الفنون الأدبية لما يضمه من أعمال استطاعت أن تحجز حضورًا متميزًا وواعيًا لأصحابها في المناخ الأدبي العالمي، فبقدر ما تحتل الرواية اليوم اهتمام الكتاب والمتلقين والناشرين على مستويات مختلفة وغايات غير متفقة، فإن القصة لاتزال الأكثر تماسكًا فنيًا ورهبة إبداعية لمن يجد فيها الفضاءات الغنية، تُلغي كل إشاعات الانغلاق المُغرضة بحقها وبحق كاتبها.

ولأن الإنسان هو نقطة مركزية القصة / الرواية، يرى فرانك أكونور أن الإنسان في الرواية مصور على أنه الذي يعيش ‏في مجتمع / جماعة ما، أما الإنسان في القصة فهو كائن منعزل، منكفئ على ذاته. وهو ‏ما يمكن رصده في رأي ايخنباوم في تفريقه بين القصة والرواية، أن الأخير متعدد ‏الأصوات خلاف الأول منفرد الصوت الذي يمكن أن " يفجر الإمكانات السردية والروائية لتجارب القصة ‏القصيرة بوضعها في شبكة عريضة من النصوص والمفردات الثقافية، بما يلغي وهم أن ‏القصة القصيرة في تجربة كاتب ما نص مستقل وأنها تمتلك خصوصية منعزلة وصوتًا ‏منفردًا كما يرى غلوم.

لهذا، قد يأتي الصوت المنفرد متكلمًا يعبر عن شخصية إحدى شخصيات القصة، أو ساردا من خارجها، عليم ضليع بمجرياتها السابقة واللاحقة كما هي الآنية.

  • ففي قصة «القناع» نادية أحمد محمد - مصر

التي أجدها الأكثر فنية ولغة، إلا أنها بحاجة لمزيد من الاشتغال في بناء الشخصية القصصية فيها، حيث السارد يروي حال امرأة فضلت قناع الابتسامة على قناع الحزن مقابل قناع زوجها الحديدي المقيّد لمشاعره وأحاسيسه الدفينة حتى لا يشعر بالضعف أمامها. لهذا، قررت المرأة / الزوجة أن تقيّد نفسها بقناع آخر لا يقل انعزالاً عن حالة الضعف العاطفي التي تعيشها بمنأى عن معرفته بذلك، لكونها تثق بما يفرضه واقعها:

«الأقنعة تتغير، هي تعرف هذا، وسوف تغيّر هذا القناع شاء أم أبى».

والأقنعة هنا غير مرتبطة بكائن دون آخر.

  • في قصة «Game Over» مولاي عمر علوي - المغرب

جاء السرد متكلمًا عن صاحبه المسالم، المهذب والخلوق، الذي لا يستطيع العيش في مكان واحد يخلو من أقل مساحات الحلم والخيال الشخصي، خاصة أنه رجل لم يكبر وفق طموحه، بل وفق طموح الآخر، حتى في أقل صور مُتعه المستحقة / المفترضة له في هذه الحياة لأن يأكل ما يشتهي هو لا ما يشتهيه الآخر. فجاء السرد ذاتيًا من بدايته حتى نهايته في اكتشاف ذاته فعلا:

«قالت مرة : سأصنـع منك رجلاً رائعًا، لم أنتبه حينها للمعنى العميق لطموحها، فقد صنعت فعلا ذلك الرجل الذي كانت تشتهيه.

لكني اكتشفت متأخرا أنه في اللحظة التي انتهت فيها من تسويتي رجلا كنت قد مت تماما.

وأقترح على الكاتب أن يتعمّق مستقبلا في اختيار العناوين التي تجاور النص فكرة ولغة وفنية.

  • وفي قصة «الأسطورة» يونس محمود يونس - سورية

يأتي السرد خارجيًا يحاول فيه الكاتب الربط بين عالم الأساطير والواقع لدى إنسان تشكلت حياته وفق عوالمه الداخلية بالرغم مما تحركه معادلاتها المتصارعة في دوائر قد تكتمل أو لا، فيكون بطل أساطيرها يوما، وتحكي عنه الجدات والأمهات، كما حكت عن غيره أُخريات سابقات وكيف تكوّن ابن آدم من الأرض وتفرعن في دنياه كلما كبُر طموحه بقدر العالم من حوله وسط تطلع الجميع لحياة أفضل بأي وسيلة كانت، وهو ما يفتقده الإنسان البسيط المتفرغ لتفاصيله اليومية وطموحه المتواضع في امتلاكه مطبعة صغيرة، مقابل عائلات تحلم بثراء وشهرة. ورغم براعة النص، إلا أنني أتمنى من الكاتب الاعتماد لاحقًا على بناء أكثر تماسكًا والتصاقًا بالفكرة وتحوّلها المكثف القصير نحو نهايتها.

  • أخيرا.. يستمر الصوت المنفرد في قصة «أنا وهو» عمران عز الدين - سورية

في صراع نفسي بين واقع وخيال لرجل مسكون بهاجس ملاحقة غريب له دون أن يعلم من أمره شيئًا. يستمر السرد بصوته بعدما انطلق من عنوان القصة الموضح لهذه العلاقة الثنائية بين كائنين «أنا وهو»، الأول كائن انطوائي منعزل غير منتمٍ لأي تيار أو فكر لا يفتعل المشكلات مع أحد، والآخر كائن غامض اشبه بالشبح أو ملاك الموت المتربص بضحيته، فيرهقها حتى ينال منها. هو ما جعل الرجل يرضخ تحت وطأة الأسئلة الباحثة عن أجوبة شبه مستحيلة عليه.

وكم كان يمكن أن يكون النص أكثر فعالية بتخليه عن ترهله السردي الحالي إلى ما هو أكثر رشاقة لغوية وفنية.

----------------------------
القناع
نادية أحمد محمد الإسكندرية مصر

قررت لصق ابتسامة على شفتيها، ابتسامة محددة الأبعاد لاتحيد عنها، تواجه بها قناعه الجديد، غير مبالية بما يعلوه من عبوس، الأقنعة تتغير، هي تعرف هذا، وسوف تغيّر هذا القناع شاء أم أبى.

........

القناع جامد الملامح، لايمتلك المقدرة على التحول، عيناه ضيقتان، فمه مزموم، كلماته مبتورة الأطراف، ثلجية المذاق، وبلا لون، يدخل به البيت، لايفكر في خلعه حتى أثناء النوم، وفمه الذي كانت الكلمات تتساقط منه متدافعة، لتحاصرها منذ دخوله من باب الشقة والى أن يسلّم نفسه لسلطان النوم صار الآن كهفًا تغطى فوهته خيوط العنكبوت، أما عيناه فلا يستخدمهما مثل السابق في إحاطتها بسياج من نظراته الدافئة، بل يكتفي الآن بنظرات ثلجية، هذا إذا إضطر للنظر إليها وإلا فهناك أشياء أخرى يرمي اليها بعينيه، تبرز البسمة لتواجه بها قناعه، يدير وجهه قبل أن تتمكن منه..تعرف أن النظرة لو طالت قليلًا سيذوب الجليد الرابض فوق سطح العينين، ليس هذا فقط بل سيتساقط القناع الحديدي ذاته عن الملامح، ينصهر ويظهر الوجه الحقيقي الذي يصر على إخفائه هذه الأيام. لكن كيف؟

منذ تشاجر معها وهو يصر على انتهاج ذات الأسلوب، ينكمش داخل سراديب نفسه وسط ظلمة ورياح هوجاء لا تعرف مدى، يسير مستترًا خلف قناعه الحديدي، مقيدًا فمه حتى لايفلت منه حرف دون إرادته.. كم من مرة قالت له إن رحلتهما معًا فى براح درب الزواج قد طالت بما يسمح بتغيير جذري في إسلوب تعامل كل منهما مع الآخر، يفترض أن يتشاجرا الآن، وينسيا الأمر بعد دقائق معدودات، إما أن يستمر الغضب لأبعد من ذات اللحظة فهذا سيجعل المسير كئيبًا والرفقة جحيمًا، وهو كان يتفهم الأمر، ويعدها أنه فى حالة أي خلاف سيذكر هذا، وفي كل مرة ينسى ويهرول نافيًا نفسه بإرادته وسط سراديبه المظلمة وقناعه الصدئ. اليوم بالذات قررت أن تكسر هذا المنهج الذي يسير عليه، تنهيه بفعل حازم يقطعه من جذوره، رأته يدخل حاملًا ذات القناع، اتجهت اليه، وقفت أمامه، واجهته ببسمتها، تشبث بالقناع، أدار عينيه بعيدًا، اعادتهما اليها، رماهما أرضًا، رفعت ذقنه بأصابعها، تلاقت النظرات، همست: أعتذر اليك..ذاب الجليد!.

----------------------------
Game Over
مولاي عمر علوي - المغرب

نعم أنا مسالم، وفوق ذلك شخص مهذب وخلوق. ها أنا أغادر البيت، بيتنا معا، أتركه لها وحدها، هي حسمت الموضوع. هذا السقف لا ينبغي أن نوجد تحته معا.

رفعت بصري للسماء الخالية من النجوم، هذا السقف الآن يجمعني بجميع الناس، أو على الأقل هؤلاء الذين يمشون الآن على الرصيف أو يتبضعون في المحلات التي مازالت مفتوحة في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

في جانب من الشارع الذي يبدو واعيا رغما عنه تحت أضواء النيون تتصاعد سحابة دخان، دخان شواء أخبرني أنفي بسرعة بأنه شواء قطع من الطحال. الطفل الذي لم يمت بداخلي يعشق كثيرا قطع الطحال المشوي وهي تصبغ بالسواد بياض (لبابة) الخبز، قصدت العجوز الذي كان مايزال يقلب قطع الطحال فوق الجمر الملتهب، جلست على صندوق الخضار الخشبي وطلبت نصف خبزة وقطعا أوصيته أن يختارها بعناية. تخيلتها وهي في البيت لوحدها الآن، أحسست بأن طعم الطحال في فمي قد تغير، كانت تجد ذلك مقرفا، رجل محترم وكلاس يجلس الآن على صندوق خشبي ويمضغ تلك الأشياء التي لافكرة له مطلقا إن كانت نظيفة بما يكفي.

حاولت أن أكنس من رأسي كل فكرتي عن النظافة، النظافة المقرفة التي تجعلني لا أستسلم لنصف الخبزة الذي يحضن في أحشائه ألذ قطع الطحال.

شبع الطفل وتصاعد إحساسه بالرضا وأطل من وجهي الذي أحسست به ساخنا يستدفئ بمعدتي. وأنا أسير في الرصيف فكرت في أن كل خلافها لم يكن معي، كان مع ذلك الطفل الذي بقي حيا داخلي، كان عناده هو الذي يحفظ لي في الأعماق شيئا من معنى الحياة.

قالت مرة: سأصنع منك رجلا رائعا، لم أنتبه حينها للمعنى العميق لطموحها، فقد صنعت فعلا ذلك الرجل الذي كانت تشتهيه، رجل ناجح في أعماله يتحرك بدقة محسوبة ويعيش تفاصيله وفق جدول مرسوم. لكني اكتشفت متأخرا أنه في اللحظة التي انتهت فيها من تسويتي رجلا كنت قد مت تماما، وكان رجل آخر لا علاقة له بي قد ولد ليحتل كل تفاصيل حياتي.

رفعت رأسي عاليا وخبطت برجلي على الأرض كطائر يخرج للتو من بركة ماء، نظرت أمامي وقلت للطفل:

هاقد شبعت من الطحال المشوي مابرنامحك الآن أيها الطفل المقرف الجميل؟

----------------------------
الأسطورة
يونس محمود يونس - سورية

في اليوم الذي خطف فيه المرأة التي أحبها وأحبته، وكان قد اتفق معها على الزواج بعيدا عن معارضة ذويها. في ذلك اليوم وبينما كانت الحافلة التي تقلهما تزحف على الطريق الممتد عبر الخلاء. اكتشف أنّ حبيبته مغرمة بالأساطير. فأكد لها أنّ حبل الأساطير في هذا الشرق لم ينقطع، وقد يكون ارتباطهما مدخلا لأسطورة جديدة.

أما هي فاكتشفت حبه للمرح. حيث سمعت منه في تلك الرحلة ذاتها المنام الذي رأته أمه قبل ولادته بأيام، وبحسب رواية أمه وليس أي شخص آخر. فإنها رأت طفلا يخرج من رحمها لا بداية له ولا نهاية ! ما يعني أنه طويل.. طويل ! وأنّ طوله لا يقدر بالأمتار بل بالزمن !

هكذا مضت تلك الرحلة المفعمة بالمشاعر، وفي البيئة الجديدة التي حط رحاله فيها كان عليه أن يناضل ليعيش. علما أنه تعرض في هذه المرحلة من حياته إلى الكثير من المخاطر والخوف والجوع، وفي فصل من فصول مأساته. أجبرته الظروف لأن يقتات من أعشاب الأرض.

يومها كان مطرودا أو هاربا مثل أي لاجئ يبحث عن مخبئ يحتمي فيه، وقد وجد هذا المخبأ في أرض مهجورة تماما. فلما عضه الجوع. أكل ما يعجبه من الأعشاب التي نمت في تلك الأرض. مجرد أعشاب لها طعم مستساغ، ويمكن لأي شخص جائع أو أي حيوان عشبي أن يأكلها. إلا أنّ أسطورة هذا الرجل بدأت حقا بعد تلك الوجبة العشبية!

ومما جاء في الأسطورة أنّ زوجته عندما شاهدته يحلق كالنسر في أعالي السماء. لا تخيفه الغيوم، ولا تطارده المدينة التي أصبحت صغيرة تحت عينيه. أيقنت أن زوجها فتح بابا من أبواب القدر، وإنّ الحكماء والفلاسفة وأفراد الشعب سوف يكون لهم نصيب في صياغة أسطورة زوجها.

وجاء في الأسطورة أيضا أنّ شابا من العامة قال لأحد محدثيه ذات يوم.

ـ إنّ هذه الأسطورة ستكلفنا الكثير الكثير.

فلما سئل عن قصده. نظر إلى محدثه وفمه مطبق تماما. لعله رأى في تلك اللحظة ـ وهو صاحب المطبعة الصغيرة، والعارف ببواطن الكتب أن لا يثق بمعرفته، ولعله كان محقا. لأنّ صاحب الأسطورة الجديدة كان قد تبوأ مركزا مهمّا على كل حال، وبغض النظر عن مركزه الجديد فإنّ بريق عينيه أصبح شديد التأثير، ومن تجرأ على النظر في عينيه مرة أولى لم يتجرأ مرة أخرى، وهذا ما أتاح له الانصراف إلى الأمور الأكثر إلحاحا وجاذبية. ذلك لأن تلك البداية كانت بداية فقط. بعدها توالت الأحداث والاضطرابات إلى أن أصبح هذا السيد زعيما من زعماء هذا الشرق ! حتى لكأن المؤامرات والاضطرابات التي خرج منها منتصرا. جاءت بإيعاز أو تسهيل من القدر ليصبح أكثر صلابة وأرفع شأنا.

لكن ألا يقر العلم بأنّ الشيء يحمل نقيضه فيه ؟ وإذا كانت المدن والأرياف المنتشرة بكثرة على سطح الكرة الأرضية تتواصل وتتجمع لتصبح أشبه بالقرية الكونية الواحدة. فإنّ أعداد الحكام إلى ازدياد.

هذه المعادلة التي لا تحتاج إلى الكثير من الإيضاح. سمحت له بالتسلل إلى صفوف الملوك والحكام الذين يطبقون على أنفاس شعوبهم. فإذا ما أصابوا كُتب لهم أجران، وإذا ما أخطأوا كُتب لهم أجر واحد.

المعادلة مغرية جدا، وأهم ما فيها أن يصبح المرء حاكما بدل أن يبقى محكوما. لهذا كله اعتلى كرسي الحكم متعللا بالكثير من العبارات الإنشائية والشعارات التي لها ظاهر وباطن.

ففي الظاهر مثلا أشيع عنه أنه يُحلق في أعالي السماء ليرى بنفسه أحوال البلاد والعباد، وفي الظاهر والباطن معا سرعان ما أصبح رب المال والأعمال. الناس يطلبون العون منه وحده، ومن رضي عنه حظي بالجاه والعيش الرغيد، ومن لم يرض عنه حلت عليه اللعنة وبئس المصير.

وبالعودة إلى الشاب صاحب المطبعة. فقد أصبح بعد حين من الزمن أكثر صمتا، واستمر في الذهاب إلى مطبعته الصغيرة صباحا، ثم العودة إلى بيته عصرا ليتناول طعامه مع أمه العجوز، وبعد أن ينام قليلا. يختلي بكتبه طوال فترة المساء.

هكذا كانت تمر به الأيام رتيبة هادئة رغم الازدحام الذي يحيط به. فقد كان الشارع الذي يعيش فيه مزدحما بالعائلات والأفراد الذين يتطلعون إلى حياة أفضل.

تلك هي القاعدة المتبعة عند تلك العائلات، وصاحب المطبعة يعرف هذه القاعدة، ويعرف أنّ وجوده في ذلك الشارع يساوي تماما عدم وجوده. علما أنّ أكثر رجالات الشارع علما وثراء في ذلك الشارع كانوا يمثلون بصورة واقعية الوجه الآخر لمن هم أكثر جهلا وفقرا، وهذه المعادلة تحديدا لطالما حاول الشاب استيعابها دون جدوى.

حتى أمه العجوز فاجأته ذات يوم، وكان يستريح كعادته بعد تناول طعام الغداء. حيث قالت له:

يا بني :

الحياة في داخلك.

وهي تكون أجمل عندما يكون داخلك جميلا.

لذلك فإنني أنصحك بعبادة الله كل يوم.

وأضافت :

كن رحيما مع الضعفاء.

ولا تهن منكسري القلوب.

وليكن رائدك الخير والخدمة كل أيامك.

ولا تتلفظ بذم.

بل قل ما هم حسن.

وامتدح الناس.

ولا تذكرهم بسوء.

كذلك قالت :

لا تسيء إلى خصمك.

وأحسن إلى من يسيء إليك.

وعامل عدوك بالعدل.

ولا تنسى يا بني أنّ التقوى تولد السعادة.

وتقديم القرابين يطيل الحياة.

والصلاة تكفر عن الذنوب.

لقد قالت أمه ذلك وهو يصغي إليها بانتباه شديد. فلما فرغت من قولها. سألها والدهشة تعقد لسانه عن المصدر الذي سمعت منه هذه الموعظة. فأخبرته دون أن تجد سببا لدهشته أنها سمعت بها من والديها. فتركها تنظر إليه، ثم قام إلى كتاب الأساطير الذي قرأه منذ أيام فقط، وطبعا لم يجد صعوبة في البحث عن الصفحة رقم (49) حيث قرأ فيها العبارات ذاتها. كلمة بعد كلمة، ومقطعا بعد آخر.

وبعد أن هدأ قليلا. قرأ ما يلي :

"هذه الموعظة التي ألقتها أم على مسامع ابنها تعود إلى ثلاثة آلاف عام"

فقال الشاب لنفسه:

"منذ ثلاثة آلاف عام والشمس تشرق علينا ونحن كما نحن. الأمهات تلد الأبناء، والحاكم الأب لا يتوقف عن النضال حتى يصبح خليفة الله على الأرض، والكهنة جاهزون دائما للتكاثر مثل الضفادع في الربيع، والأغنياء يستوردون الرفاهية من كل بلاد العالم، والفقراء يعبدون الله صاغرين، وقد تصاب أدمغتهم في بعض الأماكن بحمى العصيان. فيرتكبون الجرائم باسم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله"

----------------------------
أنا وهو
عمران عز الدين - سورية

منذ مدة زمنية قصيرة، قصيرة على نحو ما، شهر تماماً، بل توخياً للأمانة، شهر أو أكثر تقريباً، يلاحقني أحدهم كظلي، يتعقبني مثل بهلوان خبير اعتاد على أمور كهذه، لم أعر الأمر أهمية بادئ ذي بدء، ولم يكن بمقدوري بعد ذلك ـ تجنباً للسلامة ـ غير أن أحتاط أكثر!. فهذا الرجل الطويل مثل شجرة نخل، الذي يرتدي معطفاً أسود سميكاً، ويعتمر قبعة من الصوف، الجامد الوجه والهادئ السمت، الذي تنم عيناه الزرقاوان على التفكير والتأمل المستمر، والذي من الصعوبة بمكان تحديد عمره، لا يكل ولا يمل في تعقب أثري، وهو ـ على ما يبدو ـ لا يعرف أحداً في هذه المدينة الصاخبة، أو لا يعرفه أحد، سيّان، فهو في ملاحقته الدءوبة لي، التي يتقصد ربّما أن تكون مكشوفة للجميع، لم يحدث أن تجاذب أطراف الحديث مع أحدهم، أو سلّم سلاماً عابراً على أي كان، كما لم يوقفه أحدهم لتحيته، وهذا ما يتعبني، هذا ما يرهقني حقيقة، حتى إنني فكرت مؤخراً أن أفتعل معه مشكلة، بالرغم من أنني ـ وكما يخيل لي ـ كائن مسالم جداً، أعرف تماماً ما يترتب عليّ من واجبات، وما أتمتع به من حقوق، أنا حقيقة كائن أوهى من أن يفتعل المشاكل، لكنني، فكرتُ على هذا النحو فقط، لكي أتبين منه بالتحديد، ما يريده مني، وفي كلّ مرة، وقبل أن أهم بافتعال المشكلة معه، كان يختفي فجأة، فأخفق في مسعاي، كأنه يعرف تماماً ما أبيت له، كأنه يقرأ أفكاري، وهذا ما يتعبني، هذا ما يرهقني حقيقة!.

هل هو مخبر يا ترى؟ لا أعتقد، فأنا لم أنتسب في حياتي لتنظيم سريّ معاد، لم أقترف مخالفة وظيفية أو عملية، ولا أشاهد القنوات الفضائية المغرضة، كما إنني لا أتصفح الصحف المعادية أو المواقع المحظورة على النيت!. قد يكون داعية دينياً متشدداً، متنكراً بزيه العصري هذا، مكلفاً بمراقبتي، ومن ثم تجنيدي في صفوف التنظيم الذي يعمل فيه؟ احتمال واه، فأنا غير ملتزم دينياً، وأنتسب للنظام الأخلاقي، أفرق تماماً بين الخير والشر، وكذلك بين الحق والباطل. هل اقترفتُ في يوم ما جرماً مثلاً، فكلف أحدهم هذا الرجل لكي يقتصّ له مني؟ غير معقول، فأنا بطبيعتي كائن انطوائي، أستمتع بعزلتي، كما إنني كائن نباتي، أنفر من شكل الدم، وتقرفني رائحته. ثمّ إنني لا أرتاد إلا أماكن محدّدة بعينها، حتى إن كلّ من يمت لي بصلة ما بإمكانه أن يعثر علي بكلّ سهولة ويسر، ولأنني مجبول على هذا النحو، فبإمكاني قطعاً أن أميز ـ دون أن أبذل جهداً ـ بين ما أنا عليه، وبين تلك التفاصيل التي تقتحم ـ دون إخطار أو إذن مسبق ـ حياتي مهما كانت صغيرة، لسبب بسيط فقط، إذ يربكني الأمر الطارئ، يمرضني بكلّ صراحة ودون مواربة. ربّما، ثمة شبهاً بيني وبين رجل آخر يعرفه !؟ لا، لو كان الأمر كذلك، لأخبرني به، ولكفى نفسه هذا العناء، عناء مراقبتي. إذن.. ما الذي يريده مني بالضبط؟ ما الذي يريده مني هذا الرجل الغامض، هذا الرجل الذي يتعقبني منذ شهر أو أكثر، دون أن يكشف لي عن هويته، ودون أن يفصح لي عن نواياه؟ قد يكون مكلفاً بحراستي؟ لكن، ممن يحرسني؟ أكاد أجن، إلهي... ما الذي ينتظرني؟.

بناء على طلب زوجتي المتبرمة، والتي باتت عزلتي المنزلية تضجرها، كنت أرتشف منذ شهر أو أكثر تقريباً فنجاناً من القهوة في ركن منزو من المقهى، هناك رأيته، رأيته هناك للمرة الأولى، كان يحدق فيّ ملياً، يرصد تحركاتي بدقة متناهية، كان يجلس على كرسي رفقة بعض أصدقائه ربّما، وعلى عكسهم، فلم يكن يرتشف شيئاً، لم يكن يدخن، كما إنه لم يكن يشاركهم الكلام أو لعب الشدة، إذاك، وعلى ما أذكر، علت أصواتهم، ابرحوا بعضهم البعض ضرباً وشتماً، بينما بقي هو متشبثاً بكرسيه، لا يفارقه، وكأن الأمر برمته لا يعنيه البتة، ثمّ انصرفوا، وبقي هو، وعندما هممت بالانصراف، انصرف هو أيضاً دون أن يحاسب النادل. فاعترضتُ طريقه، ثمّ أوقفته وسألته: من الذي كلفك بمراقبتي؟ وماذا تريد مني؟ فابتسم بسخرية دون أن أعثر له على ملامح واضحة، وانصرف دون أن يحر جواباً، وقبل أن أغادر المقهى بدوري، أوقفني النادل وسألني بأدبٍ جمّ:

ـ سيدي، مع من كنتَ تتكلم قبل قليل؟

فغادرت المقهى بسرعة دون أن أجبه لا ألوي على شيء.

في الأيام العشر الأُول، كان يكتفي بمراقبتي مرة واحدة في اليوم، لم يكن منتظماً في مواعيده، كان يظهر صباحاً أو مساء، في العمل أو الحافلة أو في الشارع، وبالسرعة ذاتها التي كان يظهر بها كان يختفي أيضاً. وهذا ما كان يحيرني، هذا ما كان يصعقني ويدهشني. لكنه بالغ في نشاطه في الأيام العشر التالية، كان يراقبني صباحاً ومساء على حد سواء، بات في حكم المؤكد أنه يعرفني تماماً، ويعرف كلّ الأماكن التي أتردد إليها، لم ينفع معه التمويه والتلصص والتملص والسفر أيضاً. كنت عندما أقرر السفر مثلاً إلى مكان ما، أصطدم به إما في الحافلة التي كانت ستقلني، أو أصطدم به في المكان ذاته. أما في الأيام العشر الأخيرة، في هذه الأيام وحتى اللحظة، فقد كثف من جرعات نشاطه، وبات يراقبني في حلي وترحالي، ضقت ذرعاً، أخبرت زوجتي بالأمر، لكنها لم ترد عليّ، وبعد صمت مطبق طلبت مني أن أرفه عن نفسي قليلاً، ثمّ اقترحت أن نخرج معاً إلى مقصف، يقع في مركز المدينة، ويقدم كوكتيلاً شهياً. وهنااااك، سردت لها كلّ ما يجري معي من تفاصيل، فأطلقت ضحكة طويلة، ولم تصدقني كما تبين لي من ردودها، ثمّ قالت:

ـ أنت متعب يا عزيزي، عليك أن تخلد للنوم فور عودتنا للمنزل مباشرة.

ـ فقط، عندما أكون في المنزل، أرتاح منه، ومن رؤيته.

ـ هل أساء لك؟

ـ كلا، لم يسئ لي.

فنفرت مني، وقالت بحدة لم اعتدها:

ـ تجاهله.

وفجأة، لمحته، كإعصار تقدم منا غير آبه بشيء، وكفراشة افترش الكرسي الذي يقع بالقرب من زوجتي.

حمداً لله، ستتأكد أخيراً من صدق كلامي. فقلتُ لها بصوتٍ عالٍ حدق فينا كلّ من في المقصف على إثره:

ـ هذا هو الرجل الذي أحدثك عنه، هل تأكدت من كلامي؟

ـ.............!!؟

ـ إنه يقبع على الكرسي الذي يحاذيك مباشرة.

أطلقت نظرة فاحصة، ثمّ انتصبت واقفة مثل شجرة صفصاف وهي تطلب مني أن نغادر المقصف!.

قبل أن نلج البيت، كان بالقرب من مدخل البناية يشيعني بنظراته، فأحكمت إغلاق الباب، ثمّ ألقيت نظرة من النافذة على الشارع، كان ما يزال على حاله، يقتعد الرصيف، دون أن تهتز له شعرة في ذلك الطقس الشتائي البارد.

خطر لي غير ما مرة، أن أتمدّد على سرير المرضى، أن أراجع طبيباً نفسياً، أن أبوح له بعد تنهيدة طويلة بكلّ ما ينتابني وأنا أرهف السمع لتلك الموسيقى الخافتة التي تساعد مرضى من هذا النوع على الاسترسال في سرد التفاصيل الممضة، الطارئة، التي باتت تقض مضجعي شخصياً، لكن سرعان ما كنت أعدل عن هذا الأمر، فأنا لست مريضاً نفسياً، يقيناً، سأستعيد نشاطي، وسأتمتع بصحة جيدة، لو توقف هذا الرجل عن مراقبتي، فقط، لو توقف عن مراقبتي.

اهتديتُ أخيراً لحلٍ أسعفتني به دائرة خياراتي المحدودة، سألزم البيت، ولن أبرحه إلا بعد أسبوع من الآن، لم لا ؟ وإذا حدث ووجدته ما يزال يراقبني، سألزم البيت لأسبوعين متتاليين آخرين، وهكذا دواليك، إلى أن يمل ويكف عن مراقبتي أو أجعل من بيتي سجناً أو منفى اختيارياً. لكن، لم يكتب لخطتي النجاح، إذ ذبلت صحتي، ووهنت عظامي، واشتعل الرأس شيباً، لقد عبث هذا الرجل بحياتي، وبات في حكم المؤجل أو المقسط ربّما كلّ المشاريع والأماني والأهداف التي كنت بصدد تحقيقها، لزمت البيت، ولم أعد أقوى على الحركة، فلزمت السرير، وأنا لا أكف عن التفكير فيه، إذ بات يتصدر شاشة التلفاز، فعفتها، بات يشاركني مجلس الطعام، فعفته، بات يتربص بي في المرآة، فعفتها، بات في كأس الماء، فعفته، بات في الحمام، فعفته، بات في ألبوم الصور، فعفته، بات في رأسي، شلّ تفكيري، كبلني، أطبق على كلي، أحكم سيطرته عليّ تماماً، فتركته يعيث بي كما يشاء. وكمحتضر اشتدت عليه الحمى، تكومت مثل خرقة مهترئة في فراشي، لا حول لي ولا قوة.

في صباح شتائي باهت، صباح كافكاوي أشبه بموسيقى جنائزية، استجمعتُ قواي، ودبّ النشاط في جسدي، ففتحت عينيّ، كان الأهل والأصدقاء بالقرب من سريري، يطوقونني بالورد والابتسامات، فيما كانت والدتي تبتهل إلى الله أن يشفيني، توسعت نظرتي، شملت الكل، لكن سرعان ما شلت حركتي، وجحظت عيناي، واحتبست أنفاسي، وبصوت واهن ومبحوح تمتمتُ في أذن زوجتي مستفسراً:

ـ من هو الرجل الواقف بالقرب من النافذة؟

كفكفت دموعها التي كانت تسيل بغزارة، وقالت:

ـ أين ؟

ـ ذاك الذي يتصفح دفتر يومياتي؟

ـ.............. !!

ـ لماذا لا تردين؟

وكما لو كنتُ سجيناً في قفص محكم، ناء ومظلم، يصول فيه ويجول كابوس ممرض، أحكم قبضته الفولاذية على رقبتي لشهر أو أكثر قالت:

ـ لا يوجد أحد هناك.

فومضَ مثل نيزكٍ، ثمّ ترقرقت الدموع في عينيه، وتبخر.

أما أنا، فقد سرت قشعريرة باردة في كياني، انتفض على إثرها جسدي، ومثل شمعة واهنة انطفأت!.
-----------------------------------------
* كاتب وناقد من الكويت.

 

فهد توفيق الهندال*