أشياء غريبة تحدث منى الشافعي عرض: سعدية مفرح

أشياء غريبة تحدث

إنها أديبة جديدة وقديمة في الوقت نفسه. جذور البدايات عندها غائرة, ولكنها فضّلت أن تتجاهلها وتبدو في صورة أكثر نضجًا.

يحتار المرء في تصنيف الكاتبة القصصية منى الشافعي زمنيًا أو تاريخيًا من بين زملائها وزميلاتها كتّاب وكاتبات القصة القصيرة في الكويت. فهي من جهة بدأت الكتابة القصصية, وفقًا لتجليّات مختلفة, وعبر صور متعددة تلبورت في مجموعة كبيرة من السيناريوهات الدرامية والحلقات التلفزيونية, منذ فترة مبكرة جدا في حياتها, أي في الستينيات, مما يجعلنا نرصد بداياتها توازيًا مع بدايات جيل إسماعيل فهد إسماعيل وليلى العثمان وليلى محمد صالح وثريا البقصمي وسليمان الشطي وسليمان الخليفي وفاطمة يوسف العلي وغيرهم. لكن منى الشافعي من جهة ثانية تختلف عن هذه الأسماء التي بدأت في النشر منذ بداياتها الكتابية تقريبا, فمنى تأخرت في النشر حتى عقد التسعينيات حيث صدرت مجموعتها الأولى (النخلة ورائحة الهيل) عام 1992, محتوية على قصصها الأخيرة فقط, أي تلك التي كتبتها في السنتين الأخيرتين السابقتين لسنة صدور المجموعة, وبقدر ما يخلق هذا الوضع الخاص الذي مرت من خلاله تجربة منى الشافعي القصصية حيرة للحريص على التوثيق والتأريخ, فإنه يمنحها ميزة امتازت بها عن غيرها من زملائها السابقين والمجايلين واللاحقين, ونعني بها ميزة عدم نشر البدايات, بما قد يعتورها عادة من ضعف مبرر قد يحرج الكاتب في مراحله اللاحقة. فبالرغم من أن (النخلة ورائحة الهيل) هي المجموعة الأولى للكاتبة, فإنها بدت ناضجة بدرجة كبيرة, أي على عكس المجموعات الأولى للكتاب عادة.

أما مجموعتها الثانية, فكانت بعنوان (البدء مرتين) عام 1994, وفيها قدمت الشافعي قصصا ناجحة مكتوبة بلغة ذكية وأسلوب قصصي يراوح بين السرد والحوار برشاقة تليق بموضوعات القصص ذات الطابع الاجتماعي, وبخطاب ينحاز للمرأة ويعالج همومها دون أن يضع مشكلاتها الخاصة في سياق مجتمعي عام يحتفي بالذكورة ويعلي من شأنها على حساب الأنوثة.

وبالرغم من أن الشافعي كانت قد انشغلت بتكوين ملامح قصها الخاص في تلك المجموعة عبر تركيزها على قضايا بعينها, فإنها لم تهمل عناصر القص الأخرى, والتي تبلورت أكثر فأكثر في مجموعتها الثالثة التي صدرت عام 1995 بعنوان (دراما الحواس), وفيها اشتغلت منى الشافعي بأسلوبها القصصي ذي الحس الدرامي المميز على موضوع الغزو بطريقة غير مباشرة عالجت فيها تداعيات الغزو في النفوس التي عاش أصحابها مع مفردات الاحتلال وتفاصيله اليومية.

والجديد في مجموعة منى الشافعي الثالثة ذلك التصوير النفسي الهادئ الذي ينطلق من المساحة الملتبسة التي تركها الغزو في أعماق المواطن الكويتي ليحلق في فضاء إنساني عام أجادت الكاتبة التعامل معه بموهبة متوثبة.

وهاهي تعود إلى القصّ بعد فترة توقف طويلة نسبيا ومقارنة بالفترات التي كانت تفصل بين صدور مجموعة وأخرى لها, ولعل في تلك الوقفة ما يبعث على مزيد من التروّي في إنتاج القصة القصيرة, ولكنه أيضا بعث على إصرار الكاتبة على التفتيش عن عوالم جديدة بالرغم من مألوفيتها لكي تكون الإطار والموضوع للقص الجديد.

(حلم ...فوق الورق)

وقد صدرت الشافعي (أشياء غريبة تحدث) بمقدمة عنونتها بـ(حلم...فوق الورق), وحاولت الإجابة فيها عن سؤال: (لماذا الكتابة?), بالقول: (....لماذا الكتابة? هذا السؤال الأبدي الذي اكتشفت له في كل لحظة إجابة مناقضة ومغايرة للتي سبقتها, وعادة ما تتنوع إجاباتي وتتباين, حيث اعتقدت يومًا أنني أنظر إلى أشياء غامضة لا شيئية, فأعيش بداخلها لأرسم عوالم لا منظورة جديدة.

وفي مرة أخرى, تصوّرت أن الكتابة ما هي إلا ردة فعل لحدث ما, وفي مرات عدة اعتقدت أن الكتابة نوع من الحلم تنطلق من داخلي ببساطة لتستقر فوق الورق, وهذا ما أصبحت أؤمن به, بأن الكتابة حقًا حلم لذيذ رائع يهفو نحو الأفضل, وأنها طموح للتأمل والحرية, ولطرح الأفكار المتطورة لتواكب تسارع خطوات الحياة الحديثة وملاءمتها للمجتمع الذي أنتمي إليه.

شعرت مرة وأنا أكتب مسترسلة بأن الكتابة حاجة نفسية وفكرية, وحتى اجتماعية, فرضت نفسها علي ككاتبة وعلى القارئ أيضا كمتلق, كما اعتبرتها أيضا حاجة اجتماعية وحضارية, وهي دائما عندي رغبة داخلية ملحّة تتمنى الانطلاق والانعتاق من شراييني.

أحسست وأنا أكتب بأن الكتابة نتيجة للواقع المعيش الذي أحياه, فأينما توجد حياة توجد كتابة, كما هي إدراك لمجريات أمورنا الحياتية اليومية, وهي عندي تتمثل بانعكاس رؤيا أجمل, رؤيا خاصة جديدة لعوالم أرقى وأنقى من عالمنا, عالم متخيّل ولكنه ينبع من صميم الحياة بكل تفاصيلها ودقائق أمورها, بمشاكلها وعللها وهمومها, وأعراسها وأفراحها, عالم متخيّل بواقعية تخرج من رحم الوجود نفسه...).

ولعل في المجموعة الجديدة للكاتبة ما يعبر بدقة عن رؤيتها تلك, فهي هنا تغوص في عوالم محببة وأجواء أثيرة بالنسبة لها, دون أن تستغرقها تماما, إنها ذات العالم المتخيل بواقعية تخرج من رحم الوجود نفسه, وتنبع من تفاصيل الحياة. والشافعي في هذه القصص مازالت تبدو وكأنها تريد رسم ملامح قصصها عبر خطوط خارجية سوداء على أرضية بيضاء تاركة للتفاصيل أن تتبدّى شيئا فشيئا أثناء القص بمتعة تحرص الكاتبة على مضاعفة جرعتها عبر وسائل وأدوات كثيرة تجيد التعامل معها دون أن تفقدها موضوع القصة الأساسي.

نجاة من الشرك النسوي

ببراعة ووعي وخبرة متنامية, قصة بعد قصة, ومجموعة بعد مجموعة, تنجو منى الشافعي من شرك الكتابة وفقا للمعايير النسوية التقليدية, أعني أنها لا تحاول أن تركب تلك الموجة المغرية والتي تركبها كثير من كاتبات القصة القصيرة هذه الأيام وهن يمسكن بتذكرة الاهتمام النقدي الذي يبديه كثير من النقّاد بكل ما تكتبه النساء, بغض النظر عن مستواه, وبكل ما يكتبه النساء والرجال ويكون موضوعه النساء بغض النظر عن مستواه أيضًا. فالشافعي لا تلتفت إلا لمحض فكرتها الأساسية, بغض النظر عن جنس أبطالها, وهي تبدو شديدة الإخلاص لذلك الموضوع, حيث تستغرقه بشغف وبساطة وعفوية ملحوظة. وبالرغم من أن مجموعة (أشياء غريبة تحدث) تبدو حافلة بالنساء وبموضوعاتهن وهمومهن وعطورهن وملابسهن, وباهتماماتهن وأيضا برجالهن, أي بالرجال وفقا لمنظورهن, ومن الزوايا التي يلتقطنها لهم, فإنها تتناول كل ذلك بموضوعية شديدة تبدو معها هؤلاء النساء - في كثير من الأحيان - مدانات وملومات, بل ومتهمات أيضا, وفي كثير من قصص المجموعة التي بين أيدينا ما يوضح ما نقول, ويشير إلى ميزة أصيلة لهذا القص التي تتصدى له منى الشافعي.

ثلاثة أجزاء بخيط واحد

والقاصّة تقسم مجموعتها الأخيرة (أشياء غريبة تحدث) إلى ثلاثة أجزاء وهي على التوالي وفقا لترتيب الكاتبة (جليد اللحظة), و(أشياء غريبة تحدث), و(آخر المساءات), وفي كل جزء من هذه الأجزاء الثلاثة مجموعة من القصص القصيرة التي تنتظم في خيط رفيع من المشاعر الإنسانية ذات التجليات المختلفة, والتي تهتم في مجملها بعذابات الإنسان المعاصر ومراراته, في عالم محتشد بكل ما يتجاهل هذه المشاعر, بل وفي كثير من الأحيان يحاول الاقتصاص من كل من يحتشد بها. إنها قصص تحتفي بالإنسان في كل زمان ومكان, ولكنها تؤطره في لحظة راهنة, لكي تحاول أن تضع يدها على جراحات نازفة تسببت بها متطلبات تلك اللحظة واشتراطاتها اللحوح.

تفاصيل ومنمنمات

في القسم الأول من المجموعة القصصية التي أزعم أنها تمثل الأسلوب القصصي المفضل لمنى الشافعي خير تمثيل, حيث التفاصيل والمنمنمات تبلغ المدى الأقصى في رسم ملامح الدهشة والفضول, والذي توزع مساحته الكتابية على مدى تسع قصص قصيرة, تتماشى مع الكاتبة بين أروقة عوالم برّاقة وأنيقة من الخارج, ولكنها هشّة وتكاد تكون فارغة من الداخل, فهنا تقبع نساء مترفات في عوالم من الحرير الناعم والمخمل الفخم والألماس الراقي والفرو الفاخر واللؤلؤ وغيرها من مفردات مستلة من عوالم الفخامة والأناقة الخارجية بإلحاح شديد من الكاتبة على تبيان تلك التفاصيل الدقيقة لهذه العوالم, وكأنها تريد أن تبين مدى الهشاشة التي تحيل العالم الواقعي إلى مجرد (فاترينة) للعرض.

ففي قصة (تكوين), وهي القصة التي تفتتح بها الكاتبة مجموعتها تحكي, بشفافية وبساطة متناهيتين, كيف يتحول جلد جنين نوع من الماعز إلى قطعة راقية من الملابس عبر عملية قاسية التفاصيل, تلحّ الكاتبة في رصد خطواتها لمزيد من الدفع, نحو انتقاد هذا النوع من السلوك البشري المتفشّي في تجليّات اقتصادية مختلفة, وفي هذا المقطع لجّة التفاصيل التي تبرع الكاتبة منى الشافعي في تسجيلها بحرفية وذكاء: (بطريقة علمية مدروسة, تجبر المعزة الأم على الإجهاض من خلال فترة حمل معينة, ثم ينزع جلد الجنين, ويعالج كيميائيا حتى يخرج على هذا الشكل الراقي الذي ترينه.

اختنقت, غاصت في الصمت كلماتي, قبل أن أصرخ بلوعة: أي أن صديقتي العزيزة ستمشي مغرورة و300 جنين قتيل تصرخ ظلما فوق أكتافها, يا إلهي! يا لكم من قتلـ.....لــ....ة!!).

وهكذا تتوالى المشاهد ذات التفاصيل المؤلمة رغم البريق والألوان المسيّجة لها, في (لاغير) و(دوائر نارية) و(غدا يوم آخر), (وجع), و(شظايا الآخر), و(كانت تستحم في دمي), و(جليد اللحظة), أما في قصة (الأخرى) فتنجح في خلق قصة ذات ألق خاص للتعبير عن شخصية امرأة جديدة تنتمي لعصر جديد, تتماهى مع صورتها الحلمية في فضاء لوحة تشكيلية, تتداخل الألوان والرؤى, ولكن صوت الشخصية يتبلور في المشهد الأخير: (انطلق في فضاء المرسم, ليتعانق صوتي وصوتها, ولتخرج صرختها معبأة بالرفض والوجع, تصيح بجرأة في وجهه الأصفر الذابل: مَن هذه الدمية?).

عوالم شفيفة

الجزء الثاني من المجموعة القصصية حمل عنوان المجموعة نفسها (أشياء غريبة تحدث), وهيمنت عليه أجواء القصة التي حملت العنوان نفسه, حيث عوالم شفيفة تحتشد بها النفس وتفيض على حواف الكلام الأنيق, لنساء معذبات ويعشن مراراتهن الخفية بوحدة وصمت غالبا. فهنا امرأة تتزوج رجلا يموت ويتركها تعيش في تشكيلات ماضوية, تحجز عنها وقائع الحاضر وإرهاصات المستقبل المنتظر, إلى أن تجد نفسها (تمتلئ به من جديد). وهنا (في عيوننا يختبئ الضباب) وهي أطول قصص المجموعة, حيث امرأة أخرى وخيار أنثوي آخر لا يفضي إلا لمصير محتوم لامرأة في مجتمع ذكوري, وحيث سؤال الزمن هو السؤال الأخير, رغم وهج الشعر المتبدّي عبره, حيث أفلحت الكاتبة في تصدير قصتها بأبيات شعرية للشاعر خليفة الوقيان. وهنا (نبوءة العرافة) النافذة نحو تجاويف المستقبل الآتي بحثًا عن لحظة حقيقية واحدة لامرأة أخرى تتماهى مع المدينة في غموض الأسئلة. وهنا (أشياء غريبة تحدث), حيث السؤال عن حقيقة الوجود وماهية الكون البشري عبر قص شعري يراوح ما بين الحلم والواقع في تمازج فني يصوّر ثراء العاطفة لدى امرأة تعيش حياتها المتكاملة مع رجلها المفضل, حتى وإن كان غير موجود, بل لعله الموجود الوحيد في عالم يحتشد بالغياب رغم وجوده الحسّي. والكاتبة التي اقتنصت فكرتها الغريبة من أجواء تغلف واقعنا مهيض الجناح نجحت في التعبير عنها بلغة شعرية تتفق وموضوعها الشاعري الرهيف.

لحظات فارقة

في الجزء الثالث من المجموعة تعود منى الشافعي للعبتها القديمة, حيث اللحظة المباغتة نهاية طبيعية للقصة رغم غرائبيتها. ففي قصة (آخر المساءات) لحظة أخيرة لمساء أخير يسوقه القدر لامرأة بلا حول ولا قوة, كي تنتقم ممن سرق منها مساحة الحلم في داخلها وقتل بهجة الصبا في أنوثتها, لكن القدر لا يأتي بهدايا إلا في الأوقات الضائعة.

وفي قصة (جنازة مخضّبة بعطري) حكاية عادية لخيانة زوجية تحضر فيها شخصياتها التقلدية الثلاثة, حيث الزوج والزوجة والعشيقة, ولكن القاصّة تحوّل تلك القصة لمساحة تنتهي بتلك اللحظة الفارقة في شكل مباغت, حيث تسيل دقائقها مع العطر الذبيح على منصة الخيانة, وتجد الزوجة التي اكتشفت للتو خيانة زوجها في لحظة الخيانة مع صديقتها نفسها, وقد التفت حول أسرارها, تنظر حولها لتجد الجنازة مخضبة بعطرها.

أما في قصة (ليزر) فتلعب القاصّة لعبة ظريفة تزاوج فيها بين أغنية شعبية تراثية قديمة وأغنية حديثة لمايكل جاكسون, وبين الأغنيتين تمر امرأة عاشقة بتحولاّت جسدية بواسطة عمليات تجميلية, تعيدها لصبا حبيبها الذي يصغرها سنّا, لكن لحظة الفراق العاطفي والفكري بينهما تحين عندما تحين لحظة اللقاء الزمني الجسدي, فقد ابتعدت عنه في اللحظة التي هيأت جسدها ليكون أكثر اقترابا من جسده في انتمائه العمري.

وحسنا فعلت منى الشافعي عندما اختتمت مجموعتها بقصة (زمن الوجع) وهي قصة تفيض شفافية وعذوبة, وتنضح بالمعاني الإنسانية التي تتمحور حول علاقة خاصة تربط بين طفلة وجدها الطاعن في السن, والذي تحاول الأسرة بكل أفرادها التخلص منه بإرساله إلى إحدى دور الرعاية الخاصة بالمسنين بعيدًا عن بهجة الأسرة, لكن اللحظة الفارقة تطل برأسها لتنقذ هذا العجوز من مصيره المحتوم, حيث يصير الموت خياره الذي يسكن إليه بعد أن قطر بقية حياته في حفيدته الحنون, والتي ظلت للحظات واجمة أمامه قبل أن تفيض دموعها غزيرة, فتختنق بعبراتها ويحتبس صوتها, فتسرع إلى عصاه.. تلتقطها.. تحتضنها.. ثم تصرخ.. تصرخ.. تصرخ.

الكتابة....اللغز

في ختام حلمها الورقي, تركن الشافعي إلى حقيقة واقعية في محاولة الإجابة عن سؤال: (لماذا الكتابة?), فتقول: (....وهكذا تبقى الكتابة لغزا لا يستطيع أي كاتب أن يحله, وسرا من أسراره, أجمل شيء ألا نعرف لماذا نكتب? أو لماذا الكتابة? وليتنا نعيش ببساطة قصصنا بتنامي أحداثها حدثا تلو الآخر, دون أن نسأل, لأن الأجوبة لأي سؤال ستظهر واضحة من خلال ما نكتب....).

والكثير من الأجوبة ظهرت واضحة بالفعل من خلال هذه المجموعة القصصية التي رسخت منى الشافعي اسمًا مهمًا في عالم القصة القصيرة في الكويت.

 

منى الشافعي 




 





القاصة منى الشافعي