تهديد مجانية الإنترنت

تهديد مجانية الإنترنت
        

          أوشكت خدمة الإنترنت أن تكون مجانية في كثير من بقاع العالم, لكن هناك تهديدات بالاحتكار تطل برأسها لتقول لهذه المجانية وداعاً... ولو بعد حين! 

          أتذكر منذ أكثر من خمس سنوات كتبت دراسة متواضعة عن الإنترنت, نشرت في مارس 1996, وكان عنوانها (العنكبوت الاشتراكي) أبشر فيها بأهمية الإنترنت ومستقبلها, وكيف أن العالم كله وقتها كان يعيش هوس الإنترنت, وأنها تعتبر أكبر من أي امبراطورية ظهرت في التاريخ, فهي العنكبوت الذي ينسج خيوطه حول العالم, وأوضحت في المقال أن الإنترنت ليست هيئة أو مكاناً جغرافياً محدداً, ولا يقوم شخص واحد أو مجموعة محددة بتشغيل تلك الشبكة, فالكثير من العمليات الإدارية تقوم بها مجموعة من المتطوعين, لا تحكمها جهة مركزية أو حكومة, ومع ذلك هناك بعض القيود والأعراف التي تحظى بالالتزام الإداري, فمن يدير الشبكة ويتحكم بالمعايير الفنية الناظمة لعملها هي جمعية الإنترنت ISOC وتنحصر مهمتها في التنسيق والتعاون بين أطرافها ورسم ملامح تطويرها, وهناك أيضا كل من جمعية (LAB) وهي تهتم بسن الضوابط الفنية القياسية للشبكة, وجمعية (IETF) وهي فرق من المهندسين المتطوعين الهواة الذين يعملون على تطوير أداء الشبكة وتوسيع خدماتها, وتدير محادثات عامة عبر الشبكة مع مستخدميها لتسجيل آرائهم في أدائها, وعلى ذلك لا تعود ملكية شبكة الإنترنت في الوقت الحاضر لأحد, ففي الوقت الذي يقولون فيه إن التاريخ انتهى عند الرأسمالية, قد نفاجأ إذا علمنا أن الإنترنت مؤسسة اشتراكية لا يملكها شخص أو شركة بذاتها, صحيح أن أجهزة الكمبيوتر التي تشكلها قد تعود ملكيتها إلى أفراد أو مؤسسات خاصة, وكذلك قد تكون الخطوط الهاتفية التي تربط بعضها بالبعض الآخر, لكن الشبكة بحد ذاتها ملكية عامة, وملك مشاع مثل مياه الأمطار والهواء, وتتصف بالعمومية, وإذا كان ثمة رسوم من مستخدمي الشبكة فذلك لقاء الخدمة في توفير المرافق اللازمة للاتصال بالشبكة, فهي موجودة في كل مكان هناك في الفضاء العالمي. هكذا كنت أبشر باشتراكية وديمقراطية الإنترنت عام 1996, لكن ماذا حدث للإنترنت, وما الذي تغير? وسوف يتغير في فلسفتها ومنهجيتها المعمارية التي تعتمد على العمومية والمجانية?! سنحاول الإجابة عن تلك الأسئلة, ونحلل تلك التغييرات اعتمادا على الدراسة المهمة للدكتور لورانس ليسيج أستاذ القانون في جامعة ستاتفورد, والتي نشرت تحت عنوان (الإنترنت تحت الحصار) في النسخة الإلكترونية للمجلة الأمريكية المشهورة للشئون الخارجية Foreign Policy عدد نوفمبر - ديسمبر 2001. وهو أيضا صاحب الكتاب المهم (مستقبل الأفكار: مصير العموميات في العالم المترابط), ونشر في نيويورك عام 2001.

مَن الذي يملكها?

          يبدأ الكاتب بالسؤال: مَن يمتلك الإنترنت? حتى فترة قريبة, كانت الإنترنت لا يمتلكها أحد. وبالرغم من أن الإنترنت كانت (صنعت في الولايات المتحدة الأمريكية), كتصميم فريد تحوّل إلى مصدر للإبداع يمكن لأي واحد في العالم أن يستعمله, فإن ثورة الإنترنت انتهت فجأة باندهاش شديد كما بدأت بالضبط! فتحت مزاعم وحجج حماية الملكية الخاصة وتحت غطائها, سنت سلسلة من القوانين والتعليمات الجديدة يفككان الهندسة المعمارية ذاتها التي جعلت الإنترنت إطاراً عمومياً للإبداع العالمي. والعجيب, لا ظهور, ولا اختفاء ثورة الإنترنت, بل في قبول دروس تطور الإنترنت, فهي ولدت في الولايات المتحدة, لكن نجاحها نتج من الأفكار التي تبدو بعيدة عن النماذج الأمريكية الحديثة للملكية والسوق. فالأمريكيون مأسورون بفكرة أن العالم يدار أفضل عندما يقسم بين أصحاب الملكية الخاصة. وعندما ينظّم السوق بشكل كامل تلك الموارد المقسّمة! لكن الإنترنت انطلقت ونجحت لأن مواردها الرئيسية لم تكن مقسمة بين أصحاب الملكية الخاصة, وبدلا من ذلك, فإن الموارد الرئيسية للإنترنت تركت عامة للجميع على المشاع, وبسبب ذلك حدث الإبداع العالمي الاستثنائي الذي رأيناه في الإنترنت حتى الآن! لكن عندما نحاصر عمومية الإنترنت, فإن ذلك معناه فناء الإنترنت وموتها!

          ويؤكد المؤلف على أن عمومية الإنترنت بنيت من طبيعة الهندسة المعمارية للشبكات الفرعية ذاتها التي تكون الشبكة الأصلية, التي صممت لحماية حق عدم مركزية الإبداع والابتكار. وعمومية الإبداع والابتكار في الإنترنت أنتج تنويعا في الإبداع, حيث تمتلئ الإنترنت بابتكارات وإبداعات لكل الجنسيات, ويستفيد منها الجميع. والعديد من تلك الإبداعات نعتبرها الآن منحا بديهية (وأمامنا شبكة الويب www التي نتجول فيها ونأخذ منها ما نشاء من مواد ثقافية وعلمية وترفيهية). ويحتاج صنّاع السياسة لفهم أهمية هذا التصميم المعماري للشبكة القائم على عمومية الإبداع والابتكار. فالعالم فقط هذه الأيام بدأ يدرك أهمية إمكانات الإنترنت, خصوصا في العالم النامي, حيث الكثير من الفرص والبدائل الحقيقية للتجارة والإبداع والابتكار متاحة في فضاء الإنترنت الواسع, لكن طرق التفكير القديمة بدأت تعيد وتؤكد نفسها في الولايات المتحدة الأمريكية لتعديل معمارية تصميم الإنترنت القائم على العمومية والمجانية! فالمتغيرات في البنية الأساسية والجذرية للإنترنت سوف تهدد تباعا إمكانات وطاقات الشبكة, وتعوق الفرص المخلصة للإبداع والابتكار في كل مكان! وهكذا يمكن أن يأخذ هذا التحويل في المستقبل معنى ذا تأثير ومغزى, فهو ثورة مضادة سوف تنجح في تقويض إمكانات الشبكة.

          وصف الكاتب الدافع لهذه الثورة المضادة لعمومية الإنترنت بأنه قديم جدا قدم الثورات نفسها. كما وصف نيكولو ماتشيافيلي الإنترنت منذ فترة طويلة وقال: (إن الإنترنت نوع من المستحدثات المبتكرة التي تصنع أعداءها من كل أولئك الذين نجحوا تحت النظام القديم ما قبل الإنترنت, فالإنترنت تهديد لهم, لذلك هم الذين يهددون الإنترنت اليوم, وفي الوقت نفسه تتلقى الإنترنت مجرد دعم فاتر من أولئك الذين ينجحون تحت فضائها اليوم).

          وعمومية الإنترنت - في رأي دكتور لورانس صاحب الدراسة - هي ثروة ومورد لكل شخص ضمن البعد الاجتماعي الذي يضمن وصولاً متساوياً للإنترنت. فعمومية الإنترنت توفر لنا دلالة عدم التحكم في خصائصها, فسواء وضعت الإنترنت تحت الملكية الخاصة أو تكون مملوكة للدولة, فهي في الحالتين تعتبر مصدرا مسيطرا عليه, ويحدد المالك فيم تستعمل! لكن عمومية الإنترنت تجعلها ليست خاضعة لأي نوع من السيطرة. وربما مع العمومية, تطبق معها قيود محايدة أو عادلة كالرسوم التي يدفعها مستخدمو الشبكة لقاء الخدمة في توفير المرافق اللازمة للاتصال (مثل ثمن تذكرة دخول إلى متنزه عام) فهي قيود لا يضعها المالك لتحقيق أهدافه, فعمومية الإنترنت بهذا المعنى, تجعل موارد وطاقات وإمكانات الإنترنت (مجانية وللجميع).

          وحيثما توجد العمومية أو الملكية العامة تصبح دائما هدفا من التركيبة النفسية للمجتمع الأمريكي, فالروح الأمريكية دائما ضد العمومية والملكيات العامة, وتعتبرها آثاراً غير ضرورية من الأوقات الماضية والأفضل إزالتها, إذا كان بالإمكان ذلك. والتحيز في الولايات المتحدة الأمريكية واضح تماما في كل الأوقات, وعلى مستوى كل المجالات ضد كل الموارد التي تتصف بالعمومية, وعندما تترك الموارد مشتركة وعامة لكل الناس, قد يتطرف الأفراد ويغالون في استهلاكها ويستنفدون طاقاتها وإمكاناتها. لكن بعض الموارد تعتبر ضد العمومية والمشاركة بحكم طبيعتها البنائية, إذا تركت على المشاع سوف تستنفد بسرعة! وبعض الموارد الأخرى بحكم بنيتها لا يمكن أن تستنفد وبالتالي لا تؤثر فيها سلبيات العمومية, فمهما كثر استعمالنا لنظريات آينشتاين للنسبية, أو مهما نسخنا وطبعنا من قصائد روبرت فروست مثلا, أو قصائد نزار قباني, أو قرأنا قصص شكسبير ونجيب محفوظ, أو سمعنا سيمفونيات بيتهوفن أو أغاني أم كلثوم, كل تلك الموارد والثروات العامة ستبقى ولا تنضب! والتحدي لهذه الموارد هو الإجراءات والتدابير التي تسهل أن تكون في متناول الجميع, وليس العكس في تجنب نضوبها واستنزافها! والمشاكل التي تقابل إجراءات وتدابير توافرها تختلف تماما عن مشاكل نضوبها واستنزافها, والخلط بين نوعية تلك المشاكل يحدث تشويشاً وارتباكاً في الفهم ويؤدي إلى سياسات خاطئة.

          هذا التشويش والارتباك حادّ جدا عندما يعتبر الإنترنت هي المورد المستهدف! فجوهر الإنترنت تم تصميمه على يد العلماء جيروم سالزير Jerome Saltzer, وديفيد كلارك David Clark, وديفيد ريد David Reed في 1984, وكان هذا التصميم مبنيا على ترك جزء صغير منه يستكمل بناءه بنفسه داخل الشبكة! وتترك الشبكة حرة وعامة لتطويرها عند النهايات, وهي التطبيقات التي نريدها نحن المستعملين لها.

          والحافز لهذا التصميم الجديد كان توفير المرونة. والنتيجة كانت إبداعا متمثلا في كل تطبيقات الشبكة التي نغرف منها ما نشاء! لأن المبتكرين ما احتاجوا إلى أي رخصة أو إذن من مالك الشبكة قبل أن يبدعوا تلك التطبيقات أو المحتويات المختلفة المخدومة عبر الشبكة, فالمبتكرون كانوا أكثر حرية لتطوير الأنماط الجديدة من الاتصال. وتقنيا, أنجزت الشبكة هذا التصميم ببساطة بالتركيز على تسليم حزم البيانات, غافلة لأي من طبيعة ونوعية محتويات رزم البيانات أو مالكيها. ولا كان يهم الشبكة أبدا أن كلّ رزم البيانات تشقّ طريقها إلى الجانب الآخر, إن الشبكة التي بذلت فيها أفضل الجهود, ومجهزة بالتطبيقات في كل النهايات, كانت بمنزلة مكتب بريد فعال, يستقبل ويرسل البيانات ببساطة على طول الخط! وبقيت الإنترنت مفتوحة لإبداعات جديدة من الجميع.

          ربما أفضل مثال على ذلك شبكة الويب www!

البنية المعمارية

          شبكة الويب كانت من إبداع عالم الكمبيوتر تيم بيرنيرس لي من المنظمة الأوربية للبحث النووي CERN في مختبر جنيف أواخر 1990. بيرنيرس أراد تمكين مستعملي الإنترنت من الوصول السهل إلى كل الوثائق بأنواعها في أي مكان على الشبكة, وهو لذلك طوّر مجموعة من البروتوكولات لتمكين الوصلات بين نصوص الكمبيوتر hypertext في مواقعها عبر الشبكة, وبذلك وفر للإنترنت المناخ المناسب لاحتضان شبكة الويب داخلها. ويقول بيرنيرس لي إن شبكة النسيج أو الويب لا وجود لها دون ال NET يعني دون شبكة الإنترنت, الإنترنت تتصل بملايين من أجهزة الكمبيوتر حول العالم متصلة بعضها بالبعض الآخر بوساطة أسلاك التليفون, والكابلات, والأقمار الصناعية, أما نسيج الويب فهو جزء من الإنترنت فيه مجموعة عالمية من النصوص, وملفات الوسائط المتعددة المرتبط بعضها بالبعض الآخر عن طريق نظام من الوثائق المتعددة النصوص http. وبروتوكول النقل المتعدد النصوص هو بمنزلة اقتسام البيانات الدولية فورا وبأرخص ثمن, وطور أيضا لغة ال html التي تتيح للمستعملين أن يتصلوا بسهولة بالخدمات من أي صفحة أو شبكة.

          ويقف د. لورانس عند البنية المعمارية للإنترنت, ويصفها بدقة معتبرا هذا التصميم المتلاصق والمتعدد هو (صميم) الإنترنت ويسمى من النهاية إلى النهاية. وإذا نحن تصوّرنا أن بناء تصميم شبكة الإنترنت يتكون من ثلاث طبقات, في الوسط طبقة الكود أو الشفرات, وهي مجموعة البروتوكولات التنفيذية للتصميم, وهي تمثل شفرات ولغات البرمجة, وهي موارد الإبداع, وتحت طبقة الكود, الطبقة الفيزيقية أو البنية التحتية, وهي أجهزة الكمبيوتر والأسلاك والكابلات التي تربطها. وفوق طبقة الكود, طبقة المحتويات وهي النصوص, وملفات الوسائط المتعددة المخدومة عبر الشبكة. وهذه الطبقات الثلاث لم تنظم كلها كقاعات عامة للجميع, بمعنى أن مبدأ العمومية والمجانية لا يتوافر في كل تلك الطبقات التي تبني تصميم الإنترنت! فأجهزة الكمبيوتر والكابلات والأسلاك في الطبقة الفيزيقية ملكية خاصة, وليست مجانية أو تتسم بالعمومية. ومعظم المحتوى المخدوم عبر الشبكة في طبقة المحتويات غالبا محميّ بحقوق الطبع وحقوق المؤلف, هو, أيضا, ليس حرا أو مجانيا, ولا تتوافر فيه العمومية! إن العمومية تتوافر فقط في طبقة الكود, جوهر الشبكة, وتمثل موارد الإبداع, حيث البروتوكولات التنفيذية, هنا فقط تتوافر العمومية! وجاء هذا التصميم عمدا بحيث لا يستطيع أحد أن يسيطر على موارد ومصادر الإبداع, الموجودة في الطبقة الوسطى, وهنا كانت عبقرية الإنترنت! فقد يسيطر الأفراد على الطبقة الفيزيقية, ويملكون ويتحكمون في أجهزة الكمبيوتر والكابلات والأسلاك المرتبطة إلى الإنترنت. لكن فور دخولهم الإنترنت, يصبح تصميم الإنترنت الأصلي الكود, الشفرة, الموجودة في الطبقة الوسطى التي تمثل منطق الإنترنت متوافراً للجميع, ولا أحد يستطيع أن يسيطر عليه, فهو مصدر الإبداع للشبكة, والتي تبقى مجانية للجميع فور دخولهم فضاء الإنترنت. ولا توجد شبكة بهذا الكبر تترك شفراتها مجانا مثل شبكة الإنترنت!

محرّك الإبداع

          يذكرنا مؤلف الدراسة أن التصميم الأصيل للإنترنت اختلطت فيه الموارد الحرة المجانية العامة مع تلك الموارد الممتلكة المسيطر عليها. وذلك في كل طبقة من طبقات تصميم الإنترنت. ففي الوسط طبقة الكود الرئيسية, الشبكة كانت مجانية, وطمأن التصميم المتلاصق للشبكة, أنه لا يمكن لمالك في أي مستوى أن يسيطر عليها. في الطبقة الفيزيقية التحتية, كانت الموارد مسيطراً عليها جوهريا, لكن حتى في هذا المستوى كانت هناك أبعاد مجانية وحرة, فهناك حقّ الاتصال والدخول إلى الشبكة, ولا تملك شركات الهاتف الحق للتمييز ضد هذا الاستعمال المعيّن من شبكاتهم, وأخيرا في طبقة المحتويات, العديد من الموارد المخدومة عبر الإنترنت مسيطر عليها, لكن فرصة حسم بناء البرامج التي تبني الخدمات الضرورية على الإنترنت بقيت حرّة, سواء من خلال كود مفتوح أو رخصة برامج مجانية, هذه الموارد لا يمكن أن يسيطر عليها.

          أنتج هذا الميزان من السيطرة والحرية في التصميم المعماري للإنترنت انفجارا لم يسبق له مثيل في الإبداع, فالقوّة والقدرة, والحق في الإبداع تتطلب في الأصل عدم المركزية, والإنترنت كان يمكن أن تكون اختراعا أمريكيا, لكن المبدعين من كل العالم أمكن لهم أن يبنوا على منصة الشبكة, ويضيفوا ما يشاءون من إبداعات, وبشكل ملحوظ جاءت بعض إبداعات الإنترنت الأكثر أهمية من هؤلاء (الغرباء), من خارج أمريكا!

          وكما لوحظ, أن التقنية الأكثر أهمية لدخول وتصفّح الإنترنت, وهي نسيج الويب www لم تخترعها شركات متخصصة في الوصول إلى الشبكة, مثل أمريكا أون لاين (AOL) أو كومبيوسيرف. فالويب طوّرت من قبل باحث في مختبر سويسري, وجاهد حتى وصلت لأهميتها الحالية, وكذلك الذي جاء بفكرة البريد الإلكتروني على الويب كان مهاجرا إلى الولايات المتحدة من الهند, اسمه سابير بهاتيا, وهو الذي ولّد أحد نظم البريد الإلكتروني الأسرع في التاريخ - وهو الهوتميل.

          على الخط نفسه لم يكن ابتكار آليات الدردشة على الإنترنت من اختراع مجهّزي الشبكة التقليديين أو شركات الهاتف! إن المنظومة الأساسية التي قامت عليها خدمة الدردشة وهي (آي سي كيو) كانت اختراعا إسرائيليا, تم تصميمه من الخنادق البعيدة في تصميم الشبكة. وتم بيعه لشركة AOL ب400مليون دولار, وانطلقت خدمة الدردشة في الإنترنت, بفضل أن الشبكة تركت مفتوحة لها. مرة ثانية نقول إن إبداعات الإنترنت لم تقتصر فقط على الولايات المتحدة, فالمنظمات الديمقراطية المفتوحة مثل منتديات الحوار الديمقراطي في الويب, تمركزت في لندن, ويتم فيها النقاش وتبادل الآراء حول الديمقراطية والحكم في كل أنحاء العالم. مثل هذه المنتديات كلفتها منخفضة ولا تستدعي التنسيق بين وجود الممثلين الدوليين المطلوبين. وبالمناسبة هنا لم نرصد أي إضافة أو إبداعات عربية لمنظومة تقنيات خدمات الإنترنت! والأسباب معروفة للجميع ملخصها تدهور وتقزم عربي على كل المستويات في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم والبحث والفكر.

          وبشكل مشابه, الثورة التي حدثت في بيع الكتب عبر الإنترنت bookselling والتي بدأتها شركة Amazon.com من خلال استعمال تقنيات الاختيارات المفضلة للزبائن, اخترعت بعيدا عن الناشرين التقليدييين, فمن خلال جمع تشكيلة واسعة من البيانات حول المشتريات من قبل زبائن أمازون, اعتمدت التكنولوجيا المنمّاه والمطورة في MIT في جامعة مينيسوتا في فلترة وترشيح أخبار اليوزنت, وهي مجموعات الأخبار, والتي يمكن منها توقّع ما يريده الزبائن. وهذه التوصيات والتوقعات تقود وتوجه المبيعات, لكن دون الكلفة العالية للإعلان أو الترويج. ولذلك فبائعو كتب مثل الأمازون يمكن أن يكونوا خارج التنافس مع مسوّقي الكتب التقليديين, وهذا يفسر التوسّع السريع للأمازون في آسيا وأوربا.

الثورة المضادة

          يقول د.لورانس إن هذا التأريخ لنشوء وتطور الإنترنت يجب أن يكون درسا. فكل إبداع مهم على الإنترنت ظهر خارج دوائر المجهزين التقليديين لها. فالجديد ينمو ويتطور بعيدا عن القديم. ويعلّمنا هذا الاتجاه قيمة ترك منصة الإنترنت مفتوحة لكل الإبداعات. ومن سوء الحظ أن نجد منصة الإنترنت الآن تحت الحصار. فاليوم, على أي حال, هناك محاكم وشركات وهيئات تحاول إحاطة أجزاء من الإنترنت وتسويرها وحصارها لحسابها. وهم بذلك, يحطّمون فلسفة وإمكانات الإنترنت في رعاية الديمقراطية والنمو الاقتصادي حول العالم. حيث تخلق كلّ عرقلة تكنولوجية فائزين وخاسرين, الخاسرون عندهم اهتمام لتجنّب واستدراك تلك العرقلة إذا أمكنهم ذلك, وهو ما نراه الآن بالإنترنت! حيث تهدد عمومية ومجانية الإنترنت قوة ومصالح المنتفعين في عصر ما قبل الإنترنت, وأثناء السنوات الخمس الماضية, عبّأت تلك المصالح أسلحتها لإطلاق ثورة مضادة لعمومية الإنترنت التي سيكون لها تأثير عالمي على مستقبل الإنترنت من الآن.

          وهذه الحركة تمارس ضغطها عبر كل من الطبقة الفيزيقية التحتية وطبقة المحتويات في تصميم بنيان الإنترنت. وهذه التغييرات, تباعا, تسلّط ضغطا على حرية وعمومية طبقة الكود, وسوف تؤثر على فرص النمو والإبداع التي كانت تقدمها الإنترنت. ويطلب المؤلف صنّاع السياسة بأن يحرصوا ويتحمّسوا لحماية ذلك النمو والإبداع, ويجب أن يتشككوا في التغييرات التي ستهدد فرص الإبداع في الإنترنت. فالإبداع العريض قد يهدّد أرباح بعض المصالح الحالية, لكن المكاسب الاجتماعية من هذا النمو الإبداعي ستتجاوز الخسائر الخاصة بعيدا, خصوصا في الأمم التي بدأت في مجرد الاتصال بالإنترنت.

          لقد بدأت هذه السيطرة فعلا في الولايات المتحدة, وحشد مزوّدو خدمة الإنترنت الذين يديرون خدمات الكابل قوتهم لمنع بعض أنواع التطبيقات, وخاصة تلك التي لها نظير آخر, ومنعوا أيضا محتويات معيّنة (مثل إعلانات المنافسين), أو عندما يكون هذا المحتوى غير منسق مع نموذج عملهم. وأصبحوا مثل شركات الكابل التلفزيوني التي تمارس السيطرة على الوصول إلى المحتوى.

          وبالتالي فإن بيئة الإبداع على الشبكة الأصلية ستتغيّر طبقا للمدى الذي سيصبح فيه الكابل هو النمط الأساسي للوصول إلى الإنترنت. وستزيد فيه فرص السلوك الاستراتيجي لمصلحة بعض التكنولوجيات وضد تكنولوجيات أخرى. وستصبح ميزة الحيادية الموجودة في طبقة الكود تحت رحمة المساومة, وتنخفض فرص الإبداع حول العالم. وفي نهاية الدراسة يطالب د.لورانس صنّاع السياسة حول العالم بأن يتفهموا ويحموا مصالح وفوائد الإنترنت لغير المالكين, ويجب أن يكونوا شكّاكين في الآليات القانونية التي تمكن أولئك الذين يهددون عمومية الإبداع في الإنترنت. لقد وعدت الإنترنت العالم - خصوصا الدول الأضعف في العالم - بتغييرات سريعة وأكثر إثارة لتخطي المواقع الحالية أو الاتجاه إلى النمو. ذلك الوعد يعتمد على أن الشبكة يجب أن تبقى وتستمر مفتوحة للإبداع. ذلك الانفتاح يعتمد على السياسة التي تتفهم ماضي وبنية الإنترنت

 

أحمد محمد صالح   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات