المستحيل يبدو ممكناً.. زرع الدماغ

 المستحيل يبدو ممكناً.. زرع الدماغ
        

          لطالما بشّرنا الطب الحديث باتساع مجال نقل أو زرع الأعضاء, حتى بات جسم الإنسان وكأنه سيارة ثمة قطع غيار لمعظم ما يتلف منها, إلاّ الدماغ.. الذي تأخر الاقتراب منه كثيراً, وإن كان هناك الآن ما يلوِّح ببعض الاقتراب منه! 

          عندما وزع الله تعالى الأرزاق على الناس, لم يرض أحد بحصّته, وعندما وزع الله الأدمغة على الناس, كل الناس رضوا بحصتهم,وحمدوه على عقولهم. لهذا السبب, لن يزرع الأطباء دماغاً جديداً (جُلب توًّا من شخص توفي بحادث سيارة) في رأس أحد من الناس.

          السبب الحقيقي في الوقت الحاضر هو أن زرع الدماغ, بخلاف زرع الكلية والقلب, يحتاج إلى ملايين الوصلات الدقيقة.

          ولو أراد زيد أن يستبدل بدماغه دماغا آخر, إثر حادث ذهب بعقله, فمن يكون زيد هذا, وقد حوى جسمه عقلا لم يكن عقله?

          سؤال فلسفي? لا, إنه سؤال واقعي وجدّي. إلى أي جزء ينتمي الإنسان, أإلى جسده أم إلى عقله? إذا تكلمت معه فهل تتكلم مع زيد أو مع عمرو صاحب العقل? أين أصبح زيد? لا شك أنه زال من الوجود, فأين ذكرياته ومعرفته لأسرته وأصدقائه, ومعرفة أسرته وأصدقائه له?

          ولو تهشم نصف دماغه, فلا شك أن ذكريات زيد تختلط بذكريات عمرو. والمشكلة تتفاقم عندما يزرع دماغ رجل في جسم امرأة, أو العكس بالعكس!

          الكلام الجدي هو أن الباحثين سوف يتمكنون من شفاء أمراض مثل مرض باركنسون (صعوبة في الحركة والكلام) ومرض الزهايمر (صعوبة في تذكر الحوادث) وأمراض مشابهة ناتجة عن تلف في خلايا الدماغ. كذلك, سوف يتمكنون من زرع أجزاء من الدماغ تعطلت بسبب حادث اصطدام أو انسداد شريان إثر نوبة قلبية, أو بسبب تورّم خبيث.

          بدأ التفاؤل في أواخر القرن العشرين حين اكتشف العلماء أن خلايا الدماغ التي تموت يصنع الدماغ بديلا لها ولكن ببطء. خلايا الدماغ تموت باستمرار, عشرات الألوف منها كل يوم, وكان الاعتقاد السائد قبل 1997 هو أن الخلية التي تموت لا يُعوَّض منها, وأن عدد الخلايا يزداد بعد الولادة إلى سن السنتين, بعدها يأخذ العدد بالتناقص. وكان الاعتقاد أيضا أن في الدماغ خلايا كثيرة (مائة مليار خلية) وهي أكثر مما يحتاج الإنسان إليه, ولكن في أواخر حياته تتناقص فيبدأ بالنسيان.

خلايا جديدة تظهر

          في سنة 1997 اكتشف عالمان في الولايات المتحدة بالصدفة أن هناك خلايا جديدة في دماغ أحد المرضى قد ولدت, والمكان الذي ولدت فيه هو مكان محدود تتقرر فيه أهمية المعلومات الواردة إلى الدماغ وتتوزع إلى حيث تخزن حسب أهميتها. لا يوجد دليل قاطع حتى الآن يدل على أن خلايا الدماغ تتجدد في كل أنحاء الدماغ, ولكن ذلك لا يمنع أن التجدد يحصل حقيقة.

          تموت الخلايا في جميع الأنسجة من الجسم, وفي جميع الأنسجة يوجد خلايا خاصة (واحدة بين كل مائتي ألف) تدعى الخلايا الجذعية تتكاثر بانتظام وتأخذ مكان الخلايا التي تموت. الجديد المهم هو أن الخلايا الجذعية موجودة أيضا في الدماغ. في مكان معين من الدماغ جزيرة من الخلايا الجذعية تتكاثر بانتظام, وتتسرب ببطء إلى جميع أنحاء الدماغ, وتتوقف حيثما تجد مكانا متسعًا, ثم تبدأ بتغيير خصائصها كيميائيًا, فتصبح شبيهة بالخلايا التي حولها, وتمد أوصالها إلى جيرانها, تماما كما كانت الخلية التي ماتت, وتصبح واحدة من الخلايا في ذاك النسيج.

          في الدماغ أنواع متعددة من الأنسجة, أما الخلية الجذعية فلا تشبه أي نوع من خلايا الأنسجة, فهي بسيطة غير معقدة, ولكن لديها القدرة لكي تتحول إلى أي نوع من الأنسجة حسب المحيط. خلايا الجنين في أيامه الأولى (حتى اليوم الثاني عشر) هي جميعها خلايا جذعية متشابهة, تتحول فيما بعد إلى خلايا مختلفة متخصصة تؤلف الأنسجة في جميع أنحاء الجسم. كيف يتم ذلك? لا أحد يعرف حتى الآن. وهذه الخلايا الجذعية الجنينية يستعملها الباحثون في مجالات عديدة, فيحصلون عليها بالتلقيح الاصطناعي, ويستطيعون أن يجعلوها تتكاثر إلى ما لا نهاية. وهناك الآن في الولايات المتحدة قوانين تحد من استعمال الجنين البشري إلاّ في حالات معينة مرضية أو غيرها, ولكن الباحثين متى استطاعوا الحصول على عدة خلايا يجعلونها تتكاثر ويستعملونها كمستودع للخلايا الجذعية لا ينضب.

          في الستينيات اكتشف العلماء أن خلايا دماغية تتكاثر باستمرار في مكانين من دماغ الفئران, لكن الاكتشاف اعتبر خاصا بدماغ الفئران فقط, وأمسى طيَّ النسيان. في الثمانينيات, أعاد أحد العلماء الاعتبار إلى دماغ العصافير (الذي يضرب به المثل في صغره) عندما برهن أن الخلايا في دماغ الكناري تتجدّد باستمرار بمعدل عشرين ألف خلية كل يوم. علماء آخرون أفادوا بتقارير مماثلة عن الأسماك والزواحف, ولكن لم يكن هناك دليل على أن التطور ذاك قد شمل الإنسان أيضاً, حتى إن معظم المتخصصين بالأعصاب لا يستحسنون إمكان ولادة خلايا دماغية جديدة عند الإنسان لئلا تخرب الاتصالات السلكية الدقيقة التي تكتنف دماغ الإنسان.

          لكن هذه الفكرة لم ترق كثيرًا العالِم سنايدر من كلية الطب في جامعة هارفارد: (أنا متفائل. لماذا الطبيعة حرمت الإنسان من تجديد الخلايا المعطلة في دماغه? أنا أعرف كم هو الدماغ مطاط, وكم يجابه الصعاب عند الأطفال! إذا أصيب في مقدمة الرأس, فإن الطفل يكمل نموه طبيعيًا من دون أي أثر. إنما الإصابة نفسها لو حصلت للبالغ لوضعته في كرسي نقال).

          الكريات الحمراء والكريات البيضاء على أنواعها تأتي من نوع واحد من الخلايا الجذعية في نخاع العظم, فتتحول هذه الخلايا الجذعية إلى نوع الخلايا الدموية التي يحتاج إليها الجسم. أيضًا, الجلد والكبد لهما خلاياهما الجذعية. يقول سنايدر إنه لا بد من أن تكون هناك خلية جذعية هي الأم التي منها تنبثق جميع أنواع الخلايا الدماغية.

الجمال في (الجذعية)

          في سنة 1992 نشر سنايدر مقالاً أعلن فيه أنه أخذ خلايا جذعية من أدمغة فئران وجعلها تنمو وتتكاثر في المختبر. د.ماكليس, صديق سنايدر, كان قد هندس بالهندسة الوراثية نوعًا من الفئران التي في دماغها تموت الخلايا في منطقة صغيرة في لحاء المخ (الكورتكس), ومن المعلوم أن الخلايا لا تتجدد مطلقاً في الكورتكس. استعمل سنايدر هذه الفئران, فحقنها في جسمها, وليس في دماغها, بالخلايا الجذعية التي تكاثرت في مختبره. النتيجة هي أن هذه الخلايا ذهبت توا إلى الدماغ وإلى الكورتكس بالتحديد حيث الخلايا الميتة, كما تذهب القذائف إلى أهدافها عن طريق ملاحقة الحرارة المنبعثة من الهدف (دبابة أو طائرة أو مدفع).

          (هذا هو الجمال في الخلايا الجذعية) يقول سنايدر (ليس عليك أن تحدد مكان الخلل, هي تذهب بنفسها إلى هناك, بالرغم من وجودها في مكان بعيد جداً عن الإصابة), وقد عالج أيضا بهذه الطريقة تصلباً في أدمغة الفئران حيث تتصلب مجموعة من الخلايا مثلما يشبه السرطان. وفي أواخر التسعينيات أدخل سنايدر أذى واسعًا إلى الكورتكس في الفئران, ثم نجح في شفائها.

          إلى أين ستقودني كل هذه التجارب? سأل سنايدر نفسه مرات عدة (بعد عشرين سنة من الآن, هل يؤدي عملي المتواصل إلى لا شيء أكثر من تربية فئران مرحة في صحة جيدة خالية من أمراض الدماغ? أسأل ذلك السؤال لأنه لا يمكن التأكد من أن كل تجربة ناجحة في الفئران تنجح أيضًا في الإنسان).

          في المدة الأخيرة أخذت الأدلة على تعميم هذه التجارب تتراكم: وجد العلماء أن خلايا الدماغ تتجدد في سعادين صغيرة من عدة أنواع قريبة إلى الإنسان من ناحية التطور. الانتصار الحقيقي أتى في سنة 1998 عندما وجد لفيف من العلماء في السويد أن الخلايا تتجدد في دماغ الإنسان في مكان يدعى الهيبوكامبوس, وهو مكان يهتم بالذاكرة والتعلّم.

          إن زرع خلايا جذعية في الدماغ يطرح أسئلة فلسفية ولكنه ليس بخطورة زرع دماغ كامل. سنايدر يقول: (أحيانا في أثناء المحاضرات يتساءل أحد المستمعين عن أن الخلايا المزروعة في الدماغ يمكن أن تجلب معها ذاكرتها الماضية خلال نشأتها وغير ذلك. إن هذه الأفكار هي من صنع الخيال). والحقيقة ليست كما يجري في قصص الخيال العلمي وفي قصص شيرلي ماكلاين مثلا.

          تصحيح الخلل في الدماغ سوف يحصل قبل سنة 2020, ولكن ماذا بعد ذلك? يحلم بعض العلماء الآن بإدخال كمبيوتر صغير إلى دماغ الإنسان ليساعده بخزن المعلومات. إن تقنية الإنسان تتزايد بسرعة هائلة: كل سنة من أوائل القرن الواحد والعشرين تساوي عشر سنين من أوائل القرن العشرين بالنسبة إلى التقدم التقني. والسرعة هذه تتزايد. من كان يحلم, منذ خمس سنين فقط, بشيء يشبه الإنترنت التي جعلت من العالم قرية صغيرة?

كمبيوتر بحجم حبة العدس

          الكمبيوتر الصغير سوف يكون بحجم حبة العدس, يزرع تحت جلد الرقبة ويتصل بالدماغ مباشرة أو عن طريق العمود الفقري, وتساوي قدرته على حفظ المعلومات قدرة ألف دماغ وتصل ربما إلى مليون دماغ, وهو يحفظ أرقام الهاتف وأسماء الناس ووجوههم والمواعيد والعناوين والأماكن الجغرافية في العالم والتواريخ والأشعار والنكات والحوادث وغير ذلك. وفي حال كهذا, ماذا عن التعليم والتعلم والدراسة? هل توضع المعلومات الدراسية داخل الكمبيوتر مسبقاً وتدمج في الدماغ? حينئذ لن يكون هناك تعليم ولا من يتعلمون?

          كيف يتذكّر دماغ الإنسان الصور والحوداث? في دماغ الإنسان مائة مليار خلية, وكل خلية متصلة بنحو ألف خلية بواسطة أسلاك عصبية. صورة منظر أو ذكرى حادثة تحتل عدة مئات من آلاف الخلايا وتأخذ حيزا مقياسه نصف ملليمتر. يتذكر الدماغ الحادثة عندما تنطلق شرارة كهربائية من أولى هذه الخلايا إلى آخرها, ثم يتكرر انطلاق الشرارة في الخلايا نفسها من أولها إلى آخرها مرّات عديدة طيلة المدة التي خلالها تمثل الحادثة أمام تفكير الدماغ.

          للحفاظ على ذكرى الحادثة من التلف مع مرور الزمن, يستطيع الدماغ أن ينسخ الحادثة إلى مكان قريب أو إلى ناحية بعيدة آمنة, وأن يصنع عدة نسخ منها وما تقدم ليس محض خيال بل هو من أحدث المعلومات العلمية.

          كيف يفكّر الدماغ? في أثناء التفكير تنطلق الشرارات في عدة حوادث ومناظر في آن واحد. ثم (هذه نظرية تحت الاختبار) تفحص هذه الحوادث المتأججة بآلة المنطق لاكتشاف أي تناقض منطقي بينها, ثم يتم استخلاص حقائق وتفحص أيضا لكي لا تتناقض معها, وتُنقل الحقائق هذه إلى مكان آمن (في الذاكرة). آلة المنطق هي الشرط وجواب الشرط: (إذا... إذن...).

          (إذا) استعان دماغك بكمبيوتر عدسيّ في المستقبل, (إذن) لا تتعجب, فالمستقبل لناظره قريب

 

فؤاد حجاج   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات