تحية لوحيد فريد: دع الصورة تتجمل

 تحية لوحيد فريد: دع الصورة تتجمل
        

يقدم المصور المعروف سعيد شيمي شهادة عن واحد من رواد السينما في مصر والذي ألهم جيلا كاملا من المصورين السينمائيين.

          نحن المصورين السينمائيين لنا وجهات نظر كثيرة ومختلفة, وفي الوقت نفسه نسخر آلياتنا من كاميرات وحركة وإضاءة في إظهار السرد القصصي للرواية وتحويلها إلى فيلم, وغاية الأغلبية منا في كل البلاد والأوطان, أن يصل مفهوم الحدث من خلال لغة الصورة السينمائية إلى وجدان المشاهدين, فتعجبه وتؤثر فيه, فعملنا هو تفاعل مستمر مع النص والمخرج صاحب الرؤية الأساسية ويختلف مصور عن آخر في أسلوبه ومستوى إبداعه واختياره للحلول المبتكرة والألاعيب الجمالية, هذا هو المصور السينمائي الذي ظهرت مهنته منذ مائة وخمسة من الأعوام فقط وتطورت إلى هذا المفهوم.

          وقد دخل التصوير السينمائي إلى الوطن العربي لأول مرة عام 1897 في مصر, حيث أرسلت شركة أفلام لوميير الفرنسية مصورها مسيو بروميو ليصور في العاشر من شهر مارس أولى اللقطات السينمائية في مدينة الإسكندرية ثم القاهرة.

          أي مما يزيد على مائة عام والكاميرا السينمائية تدور تحت سماء مصر, دارت في البداية على أيدي بعض الخواجات, ثم تعلم هذه البدعة الجديدة فنانون مصريون انطلقوا بها إلى آفاق رحبة متسعة تشكل حبهم للفن والحياة والمبادئ السامية, ولتصبح الأفلام المصرية رسول محبة بين الشعب العربي في مصر وإخوانه في المشرق والمغرب العربي.

          طريق طويل قطعه الفنانون المصريون ومازالوا للتقرب والتجانس بين أقطارهم العربية الواحدة.

          وفي العام 1998 فقدت مصر والعالم العربي أحد أساتذة الضوء في السينما المصرية, من الذين ساهموا في تكوين جماليات الصورة على الشاشة, هو مدير التصوير المتألق (وحيد فريد) عن عمر يناهز 79 عاما قضى منها ستين عاما خلف الكاميرا السينمائية.

أول الطريق

          عندما التحق الشاب وحيد فريد بالعمل كموظف في استوديو مصر عام 1937, كانت كل معلوماته عن التصوير لا تزيد على التصوير الشمسي بالكاميرا فوتوغرافية الصندوق, ولما توسط له قريبه الذي يعمل في قسم الملابس عند مدير الاستوديو, لم يخطر لهذا القريب أنه وضع على أول الطريق أحد أهم المصورين العظماء الذين سيكون لهم شأن كبير في مستقبل التصوير السينمائي بالوطن العربي.

          ومن عجائب الأمور أنه بالرغم من أن استوديو مصر مؤسسة كبيرة لتعليم المصريين فنون السينما, وهذه أحد الأسباب الرئيسية التي هدف إليها الاقتصادي الكبير طلعت حرب, لذلك جلب الخبراء الأجانب في كل الفروع الفنية الجديدة على المصريين مع توظيف المصريين الذين درسوا السينما في ألمانيا وفرنسا في ذلك الوقت.

          فإن المدير الفني للاستوديو (جاستون مادري) وهو فرنسي كان يمنع المعينين الجدد في قسم التصوير من دخول البلاتوه - صالة تصوير الأفلام - حيث يجري العمل والتصوير, وكان الشاب ضئيل الحجم الدمث الأخلاق يتجول في حوش الاستوديو أو يمر على ورش تصنيع الأثاث والإكسسوارات ولكن يحذر الاقتراب من البلاتوه.. وبين تصوير اللقطات كان يفتح باب البلاتوه ويخرج منه العمال مهرولين مدخلين أشياء ومخرجين أشياء, ووحيد فريد يراقب ذلك في فضول وشوق أن يعلم ما يحدث بالداخل, ولكنه ينفذ تعليمات الخواجة, ولا أحد يعلمه شيئا أو يكلفه بعمل ما, وقرر يوما أن يدخل مع حركة العمال بين تغيير ديكورات المشاهد, فتسلل الشاب إلى ركن منعزل بعيد معتم داخل البلاتوه, ولكن لسوء حظه اكتشفه ملاحظ الاستوديو وطرده بقسوة واستبداد, فجلس الشاب في حجرة الكاميرات الملحقة بالبلاتوه في الخارج يبكي من شدة الألم والتأثر, ولحسن حظنا شاهده مساعد مصور الفيلم الذي يعد بالداخل وهو الأستاذ الكبير حسن داهش, وكان يعمل وقتها مساعدا للمصور الفرنسي سامي بريل, فرق قلبه له واصطحبه معه إلى الداخل في حالة تحد وطني للتعسف القائم عازما على أن يعلمه كيف يقوم بمهمة مساعد التصوير. وبذكاء وكفاءة ارتقى الشاب وحيد فريد بسرعة سلم التصوير وأصبح من المساعدين المرموقين بالاستوديو.

          ولكن هل حلت المشاكل وسيطرة الخبراء على أوضاع الاستوديو?

          لقد حكى لي وحيد فريد أنه بغرض مساندة المخرجين المصريين, تصرف مرة مع المخرج كمال سليم, مخرج أول فيلم يصنف بالواقعية في السينما المصرية وهو (العزيمة) إنتاج 1939, من خلف مدير التصوير المجري فيري فاركاش, ضد رئيس قسم الإخراج فراتز كرامب, فقد كان هذا الفيلم أول تجربة للمخرج, وكان كرامب دائم الشكوى لرئيس مجلس إدارة الاستوديو ضد كمال سليم بأنه يقوم بالإعادة الكثيرة وتكرار ما صوره من لقطات, وان ذلك يبعثر أموال الشركة, وبمعنى أنه كان يريد إفشال عمل المخرج, فاتفق وحيد فريد مساعد المصور مع كمال سليم سرا بأن يعطيه المخرج إشارة معينة بعد تصوير اللقطة, يفهم منها وحيد فريد أنه يريد إعادتها مرة أخرى, فيطلب وحيد فريد الإعادة لعيب عنده في ضبط المسافة الصحيحة بين العدسة والممثلة - أي الصورة تصبح غير واضحة المعالم - وهو أمر مهم جدا في الفيلم ومن غيره تصبح اللقطة فاشلة, واستمر هكذا يصور بعيدا عن مضايقات كرامب وحتى بعيدا عن مصور الفيلم المجري.

          كان الهدف الأول لجميع المصريين العاملين في الاستوديو, هو اكتساب الخبرة والمعرفة والفن بأسرع ما يمكن, وكان هذا طريق الطموح الرئيسي على درب الفن الذي يسعى الجميع إليه في جميع الأقسام.

ابن الشرق.. الميلاد الأول

          وفي عام 1947 يصور وحيد فريد أول أفلامه مستقلا باسم (ابن الشرق) إخراج إبراهيم حلمي ويليه في العام نفسه بثلاثة أفلام أخرى, ويكتسب المصور الشاب شهرة سريعة بامتياز صورته على الشاشة وكفاءته في قلة زمن إنجاز مدة تصوير الفيلم, كما يوفر للمنتج السينمائي مادياً, وأصبح الإقبال كبيرا للعمل مع المصور الشاب الموهوب.

          ومسيرة وحيد فريد الفنية تبرهن على أن حب فن السينما والإخلاص في العمل, هو الطريق الصحيح للوصول إلى قمة الفن والجودة, ولقد عمل طوال حياته (1919 - 22/4/1998) على تكريس مبدأ مهم في نظره وفي بعد الاتجاهات الفنية, فقد كانت أفلامه إطاراً يحافظ على جمال أبطال أفلامه من النساء والرجال, وبالذات صورتهم الباهرة مهما يكن, لأنهم هم عماد أي عمل جماهيري وحب الجمهور والمشاهدين له وزن وثمن, فلا لزوم لأي تشويه درامي لصورتهم المرئية على الشاشة, ولقد طبق ذلك بحرفة عالية, فأصبح هو مصور جمال (ليلى مراد) الأخاذ, و(فاتن حمامة) الهادئ و(لبنى عبدالعزيز) الفاتنة السمراء, وهو ملك النور في استعراضات الأفلام الغنائية للمطربين الممثلين مثل فريد الأطرش ومحمد فوزي وعبدالحليم حافظ وغيرهم.. وكثير من أفلام أنور وجدي والطفلة فيروز, لقد استمر وحيد فريد يصور ويعطي خبرته الفنية جيلا من بعد جيل حتى عام 1994 عندما تقاعد, بل إنه أضاف في دلو المسلسلات التلفزيونية فأبدع في إضاءة (ضميرأبلة حكمت) إخراج أنعام محمد علي و(لا) إخراج يحيى العلمي وغيرهما من الأعمال.

          تعددت لقاءاتي معه, فهو من الجيل الذي نكن له كل المحبة والاحترام, لكفاحهم في تحصيل العلم والفن وإعطائهم الإبداع بكل صوره , فكان يرى وظيفته في الفيلم المحافظة على الجمال وإبرازه كان يجمع بين الجمال والجو العام للفيلم من ناحية الشكل, كان يجمل وجه الممثلة مثلا في أحلى صوره, وفي الوقت نفسه يعطي خلفية المنظر الجو العام الدرامي المناسب للحدث في النص (السيناريو), وأعطى لي أمثلة كثيرة ربما فيلم مثل (ريا وسكينة) عام 1953و(شباب امرأة) عام 1956 وهما من إخراج صلاح أبو سيف يظهر بهما أسلوبه الواضح في هذا الاتجاه.

          يتعامل وحيد فريد مع العمل الفني بإحساسه الخاص, فيقرأ النص أكثر من ثلاث مرات وتختلف طريقة معالجته للضوء والجو العام حسب نوعية الموضوع الدرامي ومعالجة المخرج له, ولقد حكى لي أن له تجربتين, فقد صوّر نصاً مرتين, الأولى برؤية المخرج الرومانسية, ولذا كان أسلوبه معالجة للتصوير بالضوء الناعم وقلة الظلال, وكان المخرج بركات, وهو فيلم (ارحم دموعي) في العقد الخامس, وفي العقد السابع أخرج حسن الإمام النص نفسه ولكن برؤية استعراضية مولودرامية وهو فيلم (حب وكبرياء), وبالرغم من أن الفيلم الأول أبيض وأسود, والثاني ألوان, فإن الأول نجح بشكل كبير, لأن الجمهور - في اعتقاده - دائما مشدود أكثر للرومانسية.

          والمتفرج والمعجب والدارس لإضاءة الوجوه عند وحيد فريد يلاحظ أنه يضيء هذه الوجوه (بنورانية) فريدة بالرغم من أنها في أغلبها مصوّرة بالأبيض والأسود, فالوجه عنده ملائكي لا عيب فيه, فكان ينشر إضاءته دون ظلال لتصبغ الوجه بهذه الهالة الجمالية المبهجة, وكان قمة تحديه وعظمته في التعامل مع - أعز الناس - كما كان يحب أن يتكلم عن المطرب عبدالحليم حافظ, فمرضه المستعصي, ودخول عينيه في تجويف العين إلى الداخل, جعل ملامح وجهه دائمة التقلّب, ولذا كان وجه عبدالحليم من أصعب الوجوه التي أتعبت وحيد فريد, ورغم ذلك نجح إلى حد بعيد في المحافظة على جمال هذا الوجه, الذي يعشقه الملايين في العالم العربي.

عاشق الاستديو

          يفضل وحيد فريد العمل والتصوير داخل الاستديو بالبلاتوه, لأنه يجد الظروف المناسبة لإظهار إبداعاته البصرية, وتوظيف أسلوبه الخاص, فيبدأ في توزيع إضاءته على خلفية الصورة في إعطاء انطباع الجو العام, ثم يهتم أكثر بأماكن وجود الممثلين في إضاءة خاصة, وهو ما تميز به دائما, وهو يحب ألاّ تكون الإضاءة أحد أسباب تشتت ذهن المشاهد للحدث في الفيلم, لذلك يعمل على تقليل الغربة في أساليب الإضاءة, إلا إذا كان الحدث الدرامي في النص يتطلب هذه الغربة الضوئية. إن أسلوبه يشعر المتفرج بصدق الرؤية, لذلك يحب العمل داخل البلاتوه لأنه متحكم في كل عناصر الصورة, ووحيد فريد غير راض عن أفلامه في السنوات العشر الأخيرة, ويقول عنها إنها أفلام تسجيل وليست أفلام تصوير ويرجع ذلك لأنها مصوّرة خارج البلاتوه في الأماكن الحقيقية وبالتالي فهو غير متحكم تماماً في أسلوبه المحبب إليه, بل إنه صرّح لي بأنه يصاب بالصداع المستمر من العمل لساعات طويلة في هذه الأماكن الخارجية.

          إن تفضيل العمل بالبلاتوه لا يحرمنا من تقييم أعماله الجميلة الإبداعية في التصوير الخارجي, ففي كثير من الأفلام مثل (دعاء الكروان) و(أيامنا الحلوة) و(رد قلبي) و(واإسلاماه) و(حميدو) و(بين السماء والأرض) و(أبي فوق الشجرة) وغيرها, فقد كانت اللقطات الخارجية فيها تحمل سمات فنان يعرف كيف يستخلص من الطبيعة أحلى ما فيها. وهل ننسى قمة إبداعه في لقطات الغروب في فيلم (بين الأطلال) وتلك الشفافية الرومانسية للصورة الحسّاسة بقيادة المخرج عز الدين ذوالفقار, أو تلك الديناميكية في أغنية (دقوا الشماسي) في فيلم (أبي فوق الشجرة) للمخرج حسين كمال, وهذه التشكيلات الهندسية التي فرد لها الشاطئ الرملي لنرى لوحات انطباعية الأسلوب متشبعة الألوان تدل على وعي وفهم جميل لاستخدام الطبيعة والتكوين.

          في أثناء الإعداد لكتابي عن تاريخ التصوير السينمائي جمعتنا جلسات كثيرة يسترجع هو فيها جمال الماضي وذكرياته, وأنا معجب بكفاح جيله وفنهم الذي تعلمنا منه الكثير, ولقد تطرق الحديث في إحدى المرات إلى استخدام الألوان في أفلامه, فهو معجب بالألوان المتشبعة الصريحة, وأحيانا يعطي الصورة ألوانا فجائية ربما لا مصداقية لها, وكان رأيه أنه يفعل ذلك بإحساسه, فهو يرى أن ذلك اللون مناسب في هذا الموقف, وأنه متفق معي في الرأي بأننا في السينما المصرية, نسجل الألوان على الفيلم ولا تتدخل في اختيارها لكثرة التصوير الخارجي في الأماكن الحقيقية, ويفضل حتى الآن - وقت إجراء الحديث - التصوير بالأبيض والأسود عن الألوان, ويعطيني مثلا لدقة اختياره الألوان في الديكورات والملابس في أفلام الأبيض والأسود في الماضي, حيث كان يختار لون الرداء المناسب للون بشرة الممثلة ولون الديكور والأثاث وحتى الستائر والسجاد, وبالرغم من أنه يعمل على درجات الرماديات, لكن كل شيء مدروس, وفي مرة طلب دهان حجرة نوم بطلة الفيلم باللون (الكحلي) وأن يوضع الأثاث بلون أبيض وكان في فيلم (الحبيب المجهول).

غزارة في الإنتاج

          وحيد فريد من أكثر مصوّرينا إنتاجية, فقد صوّر 173 فيلما روائيا للسينما بخلاف بعض الأفلام للتلفزيون, وصور فيلما تسجيليا واحدا عن (توت عنخ آمون) وأضاء مسلسلات عدة وأغاني وطنية, وربما نتذكر نشيد (وطني حبيبي الوطن الأكبر) في الستينيات, لقد ترك لنا تراثا مرئيا باهرا جميلا لأنه مخلص وصادق مع نفسه ومع الوسط الفني الذي هو أحد محرّكيه, ومع مجتمعه العربي, ومع صورته على الشاشة, التي تأتي بشيء من جماليات أخلاقه بالمفهوم الجمالي المثالي للأخلاق, ولقد كرّمته الدولة وحصل منذ عام 1956 على سبع عشرة جائزة وشهادات تقدير في التصوير السينمائي.

 

سعيد شيمي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





فاتن حمامة في فيلم (دعاء الكروان).. لاحظ إضاءة الوجه بجمال شديد





فيلم (بين الاطلال) انتاج عام 1959 اخراج عزالدين ذوالفقار





لقطة أثناء الاستعداد لتصوير لقطة من فيلم (سي عمر) 1941 ووحيد فريد يعمل مساعد تصوير ويجلس بجوار الكاميرا, وخلف الكاميرا المصور الرائد محمد عبدالعظيم, وأمام الكاميرا المخرج نيازي مصطفى يشرح المشهد لنجيب الريحاني وعبدالفتاح القصري يضبط الماكيير له شاربه





أثناء تصوير فيلم (أيام وليالي) عام 1955 ومن اليمين المطرب عبدالحليم حافظ ثم المخرج بركات ثم محمد عبدالوهاب كمنتج للفيلم, ثم مدير التصوير وحيد فريد والممثلة ايمان والممثل كمال حسين