مجلس الأمة الكويتي المبنى والمعنى

مجلس الأمة الكويتي المبنى والمعنى
        

          ثلاثون عاما مرت على وضع تصميم مبنى مجمع مجلس الأمة الكويتي الذي يعد رمزا مهما للمؤسسات الديمقراطية في الكويت. كما أنه يعد واحداً من المعالم المعمارية المهمة التي تستمد جذورها من البيئة المحلية وتخرج بها إلى النطاق العالمي. 

          في أوائل عام 1972 تمّ تكليف المعماري الدنماركي (يورن أوتزن) بإجراء المخططات التفصيلية لمجمع مباني مجلس الأمة الكويتي في مدينة الكويت, بعد أن حاز تصميمه المرتبة الأولى في المسابقة المعمارية الدولية الخاصة بتصاميم مبنى جديد للمجلس المذكور. وفي نوفمبر عام 1973, أجريت تعديلات أساسية على التصميم الأولي. واستمر إعداد وتهيئة المخططات النهائية للتصميم حتى عام1979, حيث شرع فيه العمل ميدانيا لبناء المشروع الذي أنجز إنشاؤه بالكامل وافتتح رسمياً عام 1983.

          إن اسم المعماري يورن أوتزن (المولود عام 1918) مألوف جدا في الأوساط المعمارية, ويتمتع بشهرة عالمية نالها بعد أن اقترن اسمه اقترانا عضويا مع مبنى (دار أوبرا سيدني) في أستراليا, ذلك المبنى الذي بات بمنزلة الرمز - الأيقونة لمدينة (سيدني) بل لأستراليا قاطبة. فمن المعروف أن يورن أوتزن حاز المرتبة الأولى عام 1957 في المسابقة المعمارية الدولية, التي نظمت في أستراليا لاختيار أحسن تصميم لمشروع (دار أوبرا) في مدينة سيدني الأسترالية. وعدّ ذلك الفوز(والمبنى بعدئذ) من أكثر الأحداث المعمارية ذيوغا وشهرة على امتداد القرن العشرين بأسره. لقد أثار المجد الطارئ الذي أحاط بغتة بالمعماري الشاب, والمغمور وقتذاك, أثار من حوله اهتمام الوسط المعماري وعنايته, ولاسيما تقصيّاته التصميمية, وبالأخص تلك التي أنضجها في العقد الستيني ودعاها ب (العمارة المضافة), وهو مفهوم أوجده المعماري خاصا به, بعيداً عن تلك المفاهيم المجايلة والشائعة, ووفقا ل (أوتزن) فإن فكرة (العمارة المضافة) بإمكانها أن (تمنح الأشكال المعمارية تعبيرا معمارياً جديدا بالخواص والتأثير نفسه الناجم عن إضافة عدد ما من الأشجار إلى الغابة أو زيادة لمجموعة من الحيوانات أو حتى إضافة طبق إلى أطباق العشاء الدنماركي, فالأمر متوقف ومعتمد على مهارة شخص ما إدخال كم من عناصر متغيرة وكثيرة إلى اللعبة).

          حالما أنهى يورن أوتزن دراسته المعمارية في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بكوبنهاجن عام 1942 منح ميدالية ذهبية عن مشروعه الخاص في (الحفاظ على عمارة كوبنهاجن), ثم يغادر بلده الدنمارك الرازحة وقتذاك تحت الاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية إلى (السويد) ومنها ينتقل إلى (فنلندا) ليعمل في مكتب المعماري الفنلندي المعروف (الفار آلتو), ويقع تحت تأثير هذا المعماري لفترة طويلة. ثم يقوم, في نهاية الأربعينيات, برحلة تقوده إلى المغرب وأمريكا والمكسيك. في المغرب يلتقي لأول مرة وجها لوجه مع الثقافة العربية - الإسلامية, وفي أمريكا يقابل المعماري العالمي الشهير فرانك لويد رايت, وبعدها ينتقل إلى المكسيك دارسا بإمعان تراثها البنائي والمعماري ميدانياً.

          في عام 1952, يكمل (أوتزن) تنفيذ بيته السكني في هيلبيوك الدنماركي, الذي يذكرنا حله التكويني بتصاميم (ميس فان دير روّ) العشرينية: الهندسية الواضحة, وولع إطالة الجدران بعيداً عن الفضاءات المحصورة, وتقشف اللغة المعمارية واختصار عناصرها... الخ.

          في عام 1956 يشترك (أوتزن) في المسابقة المعمارية الدولية لتصميم (دار أوبرا سيدني) ويفوز تصميمه بالمرتبة الأولى وفقا لقرار لجنة التحكيم المعلن في أوائل 1957. في هذا المشروع الذي سيضحى معلما من معالم عمارة القرن العشرين, يقدم أوتزن لنا مشروعاً مثيراً ومدهشاً في تناقضاته, تناقض بين بساطة ووضوح المخطط الأفقي من جهة, وهيئة المبنى الخارجية المعقدة غير العادية من جهة أخرى. إذ لجأ المصمم إلى استخدام منظومة معقدة لتركيب قشري من الأقبية العالية التي ترتفع نحو (60) متراً وتسقف مجموعة قاعات وفضاءات (دار الأوبرا) ذات السعات المختلفة والمتنوعة. وقد أفلح (أوتزن) في هذا التصميم في أن يقنع هيئة التحكيم بقبول أطروحته المفاهيمية حول أهمية حضور المبنى العام في المشهد المدني, متجاوزاً الأفكار التقليدية العادية والمألوفة عن حتمية تبعية الشكل التصميمي للمتطلبات الوظيفية.

          ومع أن (أوتزن) عمل بتفان وإخلاص لكونه المعماري المشرف على مشروع مبنى (دار أوبرا سيدني) فإنه أُجبر على التنحي عن مسئولية الإشراف العام, نظراً لبروز ظروف سياسية مستجدة في أستراليا ونشوء عوامل مهنية معقدة, الأمر الذي حداه على أن يغادر أستراليا أواخر أبريل عام 1966 عائدا إلى بلده الدنمارك. وعلى الرغم من أن مبنى (دار أوبرا سيدني) قد تمّ افتتاحه عام 1973 بغياب أوتزن فإن اسمه ظل مقترناً بهذه الرائعة المعمارية العالمية وحاضرا في ذاكرة الوسط المعماري كمصمم رئيسي ووحيد لها.

دفاعاً عن الأصالة

          لقد نظر أوتزن إلى مشروع مجمع مباني مجلس الأمة الكويتي في الكويت ليس لكونه مكسباً معمارياً عابراً, وإنما قضية مهنية على قدر كبير من الأهمية, جديرة بأن ينازع المرء الصعاب في سبيلها ومتخطياً العواقب الكثيرة المنتظرة التي قد تصادفه. وتكشف الفترة الزمنية الطويلة نسبيا (أكثر من عشر سنوات) التي تفصل مرحلة التصميم عن وقت انتهاء تشييد المبنى, تكشف عن الجدل الواسع ومتعدد المستويات الذي خاضه المعماري دفاعا عن مبادئ تصميمه المبتكرة والأصيلة والفريدة.

          وإذ سنشير لاحقا, إلى أهمية مشروع مجمع مباني مجلس الأمة الكويتي معمارياً, يحسن بنا التحدث عن موضوع المباني المصممة من قبل المعماريين الأجانب في الأرض العربية, وكيفية تعاطي (الآخر) مع البيئة الثقافية المحيطة.

          ثمة اتجاهان واضحان يمكن أن نتلمسهما في نوعية الممارسة التصميمية للمعماريين الأجانب العاملين على الأرض العربية: أحدهما يسعى باستسهال لاستنساخ مفردات العمارة التقليدية الشائعة, واستخدام تلك المفردات بصيغتها الصريحة والمباشرة في تكوينات معمارية جاهزة لا تمت مخططاتها بأي صلة إلى تراث المنطقة وتقاليدها, والاتجاه الثاني معني في التعاطي مع مقاربة تصميمية همها الحرص في معرفة رموز البيئات المتنوعة التي تشكل بمجموعها عنوان الثقافة المحلية ومثالها, ودراسة صيرورتها بغية توظيف مدلولات تلك الرموز وتأويلاتها لاحقاً في المخطط التكويني - الفنّي للمباني المصممة في تلك المناطق. وتتراوح المفاهيم المعمارية وأساليب مصمميها العاملين على الأرض العربية بين المسلك التصميمي الأول وطروحات الاتجاه الثاني, وقد نجم عن تلك الممارسات التصميمية نتاج معماري يتسم بتنوع الاتجاهات التكوينية واختلافها.

الولع بالبحر

          يقع مجمع مباني مجلس الأمة الكويتي على شاطئ الخليج, وهذا الموقع المختار يحمل دلالات كثيرة بالنسبة إلى الكويت, لأن عمل وحياة كثير من الكويتيين ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالبحر وبيئته, كما أن البحر يعني الكثير أيضا, إلى (يورن أوتزن) نفسه, إذ عنت البيئة البحرية لديه عالماً قريباً وممتعا في آن, وليس من دون دلالة من أن خيرة تصاميم المعمار المنفذة ارتبطت بالبحر وجاورته بحيث يحضر البحر في الحلول التكوينية لتلك التصاميم حضوراً بليغاً, وبحيث لا يمكن عزل المبنى المصمم عن الخلفية البحرية ذاتها, هكذا كان الحال في (دار أوبرا سيدني), وفي دار (ليز كان) وفي (معرض الأثاث) بكوبنهاجن, وغير ذلك من التصاميم.

          وفي مجمع مباني مجلس الأمة الكويتي يتقابل هذان العاملان: (أهمية البحر بالنسبة إلى الكويتيين, و(الولع البحري) عند أوتزن) في مواءمة نادرة, بحيث يضفي وجود البحر نكهة خاصة على نوعية المعالجات المعمارية وبضمنها الجانب الرمزي, كما يجعل من وجود البحر الملاصق حدثاً شرطياً من اشتراطات البيئة المحيطة التي ينبغي على المعماري مراعاتها في قراراته التكوينية.

          ينزع المعماري إلى توظيف مفردات محددة تشكّل بتآلفها معجم الحل المعماري للمبنى.

          وبالإمكان قراءة أفكار المصمم عبر رؤية المخططات الابتدائية لمجمع مباني مجلس الأمة الكويتي, إذ يحرص (أوتزن) في تلك المخططات الأولية على تجزئة مبناه إلى عدد من العناصر - المفردات, مانحاً كل مفردة تشكيلاً خاصاً بها: فثمة مفردة تشكيلية إلى السقيفة الخارجية, وثانية إلى الممر الوسطي الذي يدعوه ب(الشارع الداخلي), وثالثة خاصة بقاعة المجلس, ورابعة إلى القسم الإداري - المكتبي ذي الأفنية المختلفة, وبتجميع هذه المفردات معاً, وطبقا لمفهومه الإيداعي: (العمارة المضافة) - يتشكل الحل التكويني العام للمجمع ضمن شكل هندسي منظم قريب من المربع بمساحة تقدّر ب ]56250[م2 موزعة على دورين مع طابق تحتاني (تسوية).

          تحتل سقيفة المدخل المطلّ على البحر مكانة بارزة في مجمل المخطط التكويني للمجمع. ويتوق المعماري لأن يجعل من هذه المفردة التصميمية عنوان الحل المعماري ورايته. فنحن إزاء معالجة تصميمية مميّزة ومهيبة في الوقت نفسه, وهذه المعالجة نابعة ليست من استخدام مقياس ومقاسات ضخمة, وإنما أيضاً بسبب اللغة المعمارية الفريدة والتركيب الإنشائي المعبّر المختار.

من البحر إلى الصحراء

          تغطي سقيفة المدخل فضاء فسيحا تقدّر أبعاده ب34x5ر82 متراً. وترتكز على صفّين من الأعمدة موقعين على امتداد طرفيها الطوليين. ويتسّم صف الأعمدة المحاذي للخليج بارتفاع أعلى من صف الأعمدة المجاور للمبنى الرئيسي, مما أعطى شكلاً متدلياً لسقيفة المدخل, يذكّرنا بهيئة (الخيمة) الصحراوية, تلك الهيئة التي ينزع المعماري إلى استنظارها رمزياً من أجل تشديد انتمائية المفردة التصميمية إلى مكانها. وإذا علمنا بأن الجسور الرابطة الخرسانية المشكلة لسقيفة المدخل قد صيغت على شكل أقبية نصف برميلية مقلوبة, زاد الإحساس بحضور تداعي هيئة الخيمة ومعانيها أيضاً.

          يطمح المعماري لأن يؤدي وجود سقيفة المدخل الواسعة إلى حلّ مقنع لإشكالية الانتقال من الخارج نحو الداخل, وأن تكون همزة وصل كفؤا بين البحر والصحراء, كما ينشد أن تكون تلك السقيفة الرحيبة بمنزلة ميدان ظليل يتفيأ تحته ناس كثيرون: حاكمون ومحكومون, مشرعّون ومنفذون... زيادة في تأكيد وظيفة المبنى ورمزيته.

          على أن إدراك المعاني المتعددة التي توخاها المعماري جراء حضور تلك المفردة التصميمية لم تتحقق بالكامل, إذ وجد أن تصميم (أوتزن) مفرط في فضاءاته, وكلفه أيضا, ويقتضي تبعا لذلك إعادة نظر جذرية أخرى في التصميم المقترح بعد تعديلات عام 1973. وينقل المعماري (فيليب درّو) في كتابه (الرائعة) عن المهندس الكويتي (حامد شعيب) (أحد أعضاء المجلس الاستشاري لمجمع مباني المجلس) - أنه قد طلب من المصمم أن يختزل 30% من الفضاءات المقترحة.

          وبدت وكأن الحوادث المفجعة والشائنة التي مرّت على (يورن أوتزن) في (دار أوبرا سيدني) تعيد نفسها مرة أخرى مع مبنى مجلس الأمة الكويتي, ذلك لأن المعماري وجد نفسه فجأة على مفترق طرق: إما تقبّل إجراء تعديلات جذرية, وإما التنازل عن المشروع برمته. وحتى لا يُضاف مشروع مجمع مباني مجلس الأمة الكويتي إلى ملفات المشاريع غير المنفذة, ونظراً لظروف مهنية مستجدة أحاطت بالمعماري وقتذاك, قبل (أوتزن) أن يجري مرة أخرى, تنقيحاته الأساسية, مختصراً عدد وحدات المكاتب الإدارية, ونقل المدخل من مكانه السابق في الجهة الشمالية الغربية إلى الجهة المعاكسة الجنوبية الشرقية, وتم الاستغناء عن قاعة مركز المؤتمرات الكبيرة والمثيلة لقاعة المجلس, كما تمّ نقل مسجد المجمع من موقعه تحت السقيفة إلى داخل المبنى.

          قد تكون بعض التعديلات التي أجريت على التصميم مقنعة, وربما مشروعة, على أن عواقب بعضها كانت وخيمة على المشروع, ولاسيما قرار نقل المدخل إلى الجهة المعاكسة مما أفقد الكثير من تبريرات وجود سقيفة المدخل على غرار ذات الهيئة المقترحة من قبل المعماري, وهو أمر أثار جدلا واسعا حول شكلها في الأوساط التنفيذية والاستشارية المتابعة للمشروع, وشمل هذا الجدل جدوى بقائها أصلا.

          هل حقا, خسر التصميم كثيراً من براعته وإتقانه وبالتالي كثيرا من جمالياته جراء التعديلات الأخيرة, كما يزعم بعض النقاد?! وخصوصا قرار الإخلال في تماثلية التكوين بسبب إلغاء قاعة المؤتمرات الشبيهة بقاعة المجلس, أو بسبب تقنين عدد الوحدات الإدارية أو جراء القيام ببعض التعديلات التصميمية?!

          أنا شخصيا لا أرى الأمر على ذلك النحو, فالتصميم ما برح يحتفظ بثيمته التكوينية الأساسية والنَفَس (الأوتزنوي) الأول, ورغم فقدان السقيفة لبعض وظائفها الرئيسية, فإنها لاتزال تعمل بكفاءة كحلّ مرض للانتقال من خارج المبنى إلى داخله, وكحلقة تخومية مقبولة بين البحر والصحراء, فضلاً عن أنها تجسّد بذكاء المقولة العربية التي يطيب (لأوزن) أن يردّدها دوماً وهي (... عندما يموت شيخ القبيلة فإن ظله يختفي).

          إنها تعبير مجازي, وفق رؤى المعماري, عن استمرار وجود القيم النبيلة لمؤسسة المبنى عن طريق دوام حضور (ظلّه) السقيفة - الخيمة, إنها (ظلّ) أولئك الذين أرسوا يوما ما هذه المؤسسة الديمقراطية, التي يمكن للمرء أن يتفيأ تحتها دوما رغم رحيل مؤسسيها وروّادها, إنها, فوق ذلك, تمثيل رمزي بليغ للحضور وليس... الغياب.

الشريان الرئيسي للمبنى

          ثمة عنصر تكويني آخر, له أهمية خاصة, لا تقل عن أهمية السقيفة, يمكن أن نوجزه ضمن المعالجات المعمارية لمجمع مباني المجلس, وهذا العنصر هو الممر الداخلي العريض الذي يخترق المبنى كله من أوله إلى آخره, بدايته المدخل الواقع في الجهة الشرقية الجنوبية, ونهايته عند نقطة الدخول تحت السقيفة الكبرى. إنه بمنزلة الشريان الرئيسي للمبنى بأجمعه, فكل المسارات الموصلة بفضاءات المجمع تصبّ فيه - كما أن الوصول إلى تلك الفراغات يتمّ عبر ذلك الشارع - (السوق) - كما يحلو للمعماري أن يسمّيه.

          يرغب المصمم إلى تأكيد دور هذا العنصر التصميمي ضمن النسيج التكويني العام لمبنى المجلس, فيحرص على معاملته بشكل خاص بدءاً من ارتفاعه الشاهق الذي يصل أعلى من ارتفاع المبنى المتكوّن من طبقتين, مرورا باستقلالية المعالجة الإنشائية له. فسقف (السوق) مشغول من جسور نصف اسطوانية تتكئ على أعمدة نصف اسطوانية أيضا, (مزروعة) على امتداد الشارع من الجانبين. وقد جعلت تلك الأعمدة مستدقة النهايات عبر قطعها بشكل مائل من أعلاها. ونرى طريقة القطع ذاتها في المناطق الوسطية لجسور السقف. وبهذه الطريقة فإن جميع العناصر الإنشائية للشارع العريض تبدو هنا أكثر رشاقة وخفّة. وإذا علمنا أن التباين في ارتفاع سقف (السوق) عن كتلة المبنى الرئيسية قد استثمره المصمم في الحصول على إنارة طبيعية, فيمكن لنا أن نتصوّر غزارة ضياء حزم النور المسكوب من الأعلى وتشغيله في زيادة الإحساس برهافة أجزاء الحيّز المبتدع وحتى إلى عدم ماديته.

          في تعامله مع مفردة الشارع - (السوق) تصميمياً, يتوق (بورن أوتزن) إلى تضمينه مفهوماً أبعد من أن يكون مجرد ممر - دهليز, قاصراً وظيفته, كما هو أساس وظيفة الممرات, على الوصول للفضاءات المعنية بعجلة ووضوح. إن دوره هنا, بمنزلة مكان مناسب لالتقاء جميع العاملين في المجمع وأحاديثهم, إنه بعبارة أخرى (بهو) المجلس ورواقه الفسيح, من هنا ألفة الفضاء المصمم وحميميته, في هذا المكان الأنيس لا يحسّ المرء قطعا بذلك الشعور الملازم لمثيله, الذي يسميه (عمّنا) - عالم الاجتماع (علي الوردي) - ب (غربة السوق).

          لا يكتفي المعماري بأن تكون معالجاته التخطيطية - التكوينية لمجمع مباني مجلس الأمة الكويتي مستمدة حصرا من مبادئ أطروحته (العمارة المضافة) بمفردها, وإنما يوظف قيم العمارة العربية - الإسلامية, في صوغها التأويلي الذاتي, بغية التشديد على حضور المكان, أو بالأحرى (جنّي المكان), بحسب تعبير المعماري - الناقد النرويجي كريستيان نوربيرج - شولز - وتشغيله كأحد المعايير المعتمدة في القرارات التصميمية, ويسعى (أوتزن) لأن تكون مقاربته التصميمية هنا مبنية ليس على محاكاة التشكيل (الهيئاتي) لنماذج مباني العمارة العربية - الإسلامية بمفهومها (الباستيشي) السريع, وإنما يطمح لقراءة متأنية وعميقة لذلك المنجز المعماري الحصيف, ويرغب رغبة حقيقية في استنطاق كنه المعاني الكامنة في جوهر الحلول التكوينية لتلك العمارة. من هنا يمكن لنا أن نحسّ بفرادة (التناص) المشغول به مخطط مجمع مباني المجلس, المخطط ذاته المتشكل من اتساق الطرح التصميمي الخاص مع الحرص على احترام (المكان) وثقافته. إن القيمة الأساسية للمداخلة المعمارية التي نحن بصددها تكمن في الضرب الأسلوبي بتجميع وحداتها التصميمية, ذلك الضرب من الأساليب الذي لازم تكوينات العمارة العربية - الإسلامية وجُرب وامتحن عبر أنماط بنائية كثيرة, غدت بعض نماذجها كنوزاً للعمارة العالمية, وأعني به (التكوين المرن), الذي يكفل التوسع مكاناً وزمانا, من دون إفساد يذكر إلى جوهر وطبيعة التكوين.

          إن مخطط مجمع المجلس مبني وفق سياق معماري عام مؤلف من وحدات تصميمية ذات تشكيلات متماثلة نوعا ما, موقعه على جانبي عنصر تصميمي آخر, يمثله هنا: الشارع - (السوق), الذي يعتبر عماد التخطيط وعموده الفقري. وهذه الوحدات التصميمية تنطوي في غالبيتها على فناء وسطي مكشوف, تحيط به فضاءات خصصت للأعمال الإدارية. وبالإمكان إضافة وحدات تصميمية أخرى وفق الحاجة إلى التكوين, ويظل الأخير محتفظاً بجوهره وسماته, إنه في هذه الحال يشبه إلى حد كبير تكوينات المباني الإسلامية العظيمة وربما أيضاً تخطيط المدن الإسلامية التي يتوسع فضاؤها المكاني طبقاً لهذا الأسلوب. إنها كذلك (.... العمارة التي تُعنى بنفسها, ذلك لأنها تنمو عضوياً تماما مثل الأشجار...) كما يصف التكوين (بورن أوتزن) ذاته.

 

خالد السلطاني   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مجلس الأمة الكويتي المبنى والمعنى





يورن أوتزن, المصمم المعماري وتحته صورة أوبرا سيدني أحد المعالم الشهيرة التي قام بتصميمها





يورن أوتزن, المصمم المعماري وتحته صورة أوبرا سيدني أحد المعالم الشهيرة التي قام بتصميمها





الممرات الداخلية لمجمع مجلس الأمة الكويتي وقد استوحى من البيئة أعمدة الخيمة وتموجات السقف





أعمدة منتصبة كأوتاد الخيام, مشطوفة من أعلى كالأشرعة.





الواجهة الخارجية لمبنى مجلس الأمة, أشرعة منتصبة في مواجهة الريح والبحر.





طيات الخيمة كما تتجلى في سقف المبنى. نموذج آخر لتناغم فن المعمار مع البيئة المحيطة.





إحدى واجهات النوافذ. تمازج الفن المعاصر مع تراث العمارة الخليجية





قيم نبيلة, السقيفة رمز لظل الذين أرسوا يوما هذه المؤسسة الديمقراطية





ممرات متداخلة, أمكنة مناسبة لالتقاء كل العاملين داخل المجلس