د. يحيى الجمل ومحمد الخولي

 د. يحيى الجمل ومحمد الخولي
        

نحن بحاجة إلى منطق الحوار
لا منطق التكفير

 

  • النهضة العربية بدأت مع نهضة اليابان فلماذا تعثرنا? 
  • الدولة الحديثة تقوم على فكرة المؤسسة 
  • ماذا بقي للتاريخ من تراث طه حسين والعقاد? 
  • مطلوب إعادة تعريف العرب لمعنى (الخارج) 

          كان ذلك منذ 35 عاما. مذيع ناشئ كلفته إذاعة (صوت العرب) التي كان يعمل بها تقديم برنامج ثقافي بعنوان (دائرة المعارف السياسية). بدأ المذيع رحلة البحث عن أساتذة أكاديميين لموافاته بالمادة العلمية التي يتولى إعدادها إذاعيا ومن ثم تقديمها بصوته في البرنامج الجديد. استرعى نظره وقتها اسم مدرس جامعي شاب كان يكتب بانتظام في إحدى المجلات الأسبوعية. اتصل به هاتفيا فدعاه أستاذ الجامعة الى زيارته في بيته. أدخلوا الإعلامي الزائر إلى مكتبة صاحب البيت. وانقضت دقائق وقف فيها المذيع يقلب في أرفف المكتبة. صادفه كتاب عن (إعجاز القرآن) للباقلاني.. وحين بدأ يقلب في الكتاب أراد أن يفي المؤلف الكلاسيكي الجليل بعض فضله فلم يجد على شفتيه سوى أن يقرأ له الفاتحة ويدعو له بحسن الجزاء تيمنا بالحديث الشريف الذي يقول: (إذا مات ابن آدم.. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له). دخل الأكاديمي صاحب البيت فوجد زائره يتمتم بكلمات.. - أهلا وسهلا.. ترى ماذا

          تصنع?

          - اقرأ الفاتحة.

          - لمن?

          - للباقلاني.

          - سبحان الله.. الباقلاني?

          - أعرف أنه رحل منذ ألف عام ولكن ها نحن ننعم بتراث علمي تركه لنا على مر الزمان.

          منذ تلك اللحظة.. وعلى مهاد هذا الاعتزاز بالأمة وعلمها وتراثها.. نشأت وازدهرت صداقة بين الاثنين.. رجل الإعلام ورجل الأكاديميا, وعبر الاعوام الخمسة والثلاثين مرت مياه وأمواج كثيرة تحت كل الجسور العربية وعصفت في حياة الأمة أنواء ورعود وجللت سماواتها سحب وغيوم.. وكان من الطبيعي أن تطرأ على حياة كل منهما تحولات وتغيرات: محمد الخولي تحول من الاذاعة إلى الصحافة ومنها إلى العمل خبيرا للإعلام والترجمة في منظمة الأمم المتحدة. ورغم إقامته التي طالت في نيويورك وغيرها من العواصم نحوا من عشرين سنة.. فقد حرص على التواصل مع مجرى الثقافة العربية من خلال مجموعة الكتب التي أصدرها تأليفا أو ترجمة ومنها (جدول أعمال القرن الحادي والعشرين) (دار الهلال, القاهرة, 1995) و(دليل القارئ الذكي إلى عيون التراث العربي) (دار البيان, دبي, 1991) ومنها ترجمة كتاب (القاهرة في الحرب العالمية الثانية) (دار صوت العرب, القاهرة, 1996) وأحدثها (كتب في حياتهم) (دار البيان, دبي, 2000), هذا الى جانب مقالاته الاسبوعية التي ينشرها بانتظام في الصحافة القاهرية والخليجية.

          أما الفارس الآخر, الأستاذ الدكتور يحيي الجمل فهو اسم يكاد يعرفه كل مشتغل بالفكر القومي العربي.. ويعد الآن من أعلام الفقه القانوني في الثقافة العربية المعاصرة.. وقد جعل - كما يقول عن نفسه - من (القانون حرفته ومن الأدب هوايته).. وإن كنا نضيف إلى ذلك أنه جعل من العروبة والقومية انتماءه وانشغاله..

          عمل الدكتور الجمل قاضيا في ليبيا وأستاذا في جامعة الكويت ومستشارا ثقافيا في سفارة مصر في باريس.. وإن كان هواه الشغوف - هل نقول حبه الأول- ما زال لكلية الحقوق جامعة القاهرة التي ما زالت تشغل مكانا في قلبه ومكانة في وجدانه - المبنى والمعنى على السواء - ولم يشغله هذا الهوى.. المنصب الوزاري (كان وزيرا لشئون مجلس الوزراء ووزيرا للتنمية الإدارية) - ولا يشغله عنه موقعه حاليا بوصفه عضوا في هيئات التحكيم الدولية وكان من الطبيعي أن يبادله القانون هذا الإخلاص العميق فكان أن حصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1999 تتويجا لجهوده العلمية وبحوثه الأكاديمية في مجال القانون الدستوري وهي أرفع الأوسمة العلمية التي تهديها الدولة في مصر. وإلى جانب الدراسات الأكاديمية التي أصدرها الدكتور يحيي الجمل في مجال القانون - العلم والفلسفة وفي مقدمتها:

          - (القضية هي الانسان) و(عبدالناصر والسد العالي والقومية العربية) و(النظام الدستوري في الكويت) و(النظام الدستوري المصري) و(القضاء الإداري) و(نظرية الضرورة في القانون الدستوري) و(الأنظمة السياسية المعاصرة).

          وقد فرضت عليه هواية الأدب والانشغال بالشأن العام على مستوى مصر والوطن العربي, أن يصدر كتبا في غير مجال القانون لعل من أهمها كتاب تتلخص دلالته في منطوق عنوانه وهو: (القضية هي الإنسان) (دار الحرية, القاهرة, سنة 1999) الى أن أصدر أخيرا أحدث كتبه وهو الجزء الأول من ترجمته الذاتية بعنوان (قصة حياة عادية) (دار الهلال, القاهرة, 2001).

          وإذ دار الزمان دورته, وبالتحديد في شهر مايو 2001, وتحت أغصان أشجار الصفصاف وفي بقعة هادئة تطل على نيل المعادي بالقاهرة.. أو كما يسميها الأصدقاء المقربون (واحة يحيى الجمل) جلس الصديقان.. الدكتور يحيى الجمل والكاتب محمد الخولي بضع ساعات ليطوفا خلالها بما جال في الخواطر من قضايا وهموم وذكريات وأشجان..

          ومن حصائل هذا الطواف.. انبثقت سطور هذا الحوار

  • عدت من زيارة إلى بعض الأقطار في بعض جنوب شرق آسيا أذكر من بينها كوريا وماليزيا.

          - نعم زرت اليابان وكوريا لكن اليابان كانت مروراً.. ولم تكن زيارة مقصودة كان مروراً نحو كوريا لكن أقمت ليلتين في طوكيو.

  • واضح أن التركيز كان على كوريا الجنوبية وأنت دائما لك عبارة ترددها أن مشكلتنا أننا لسنا جادين لا في الجد ولا في اللهو. والسؤال هو: عندما ذهبت الى هذه المنطقة جنوب شرق آسيا ماذا رأيت? وكيف أن الناس هناك جادون وكيف استطاعوا أن يمارسوا خطة تنمية وأن ينجحوا في تنفيذها?

          - هذه الزيارة جعلتني أعيد النظر في أمور كثيرة وأعكف على التفكير في أمور كثيرة, خذ مثلا اليابان وهي قمة التقدم في شرق آسيا ومن قمم التقدم في العالم.. اليابان بدأت نهضتها الحديثة في سنة 1860.. نحن في مصر بدأنا نهضتنا الحديثة قبل ذلك على الأقل بأربعين سنة.. عادة الناس يقولون 1805 لكن 1805 كان بداية حكم محمد علي وتستطيع أن تقول إنه استقر عند 1820 وبدأ في إنشاء الديوان وإرسال بعثات وإصدار جريدة (الوقائع) حوالي سنة 1820 وكسور.

          مصر بدأت في الفترة 1820- 1830 واليابان بدأت 1860- 1870 وإذا أردت أن تتحدث عن البدايات المتقاربة فإنه لا مقارنة الآن في شيء, أنا أذكر شيئاً مقلقاً رغم أن أحدا لم يتنبه.. الى الآن الجامعات ترسل بعثات الى أوربا وأمريكا, وشيء طبيعي في بعض مجالات العلم أن نوفد بعثات لكن الشئ غير الطبيعي أن نبدأ من سنة 1820 في إرسال بعثات ونظل إلى عام 2000 نوفد بعثات, اليابان أرسلت بعثتها الأولى سنة 1860 والآن يوفد إليها من كل أنحاء العالم ونحن أيضا نبعث الى اليابان ولولا عائق اللغة لكانت البعثات أكثر بكثير, لكن نحن أيضا نرسل مبعوثين الى اليابان - انظر الى الصورة - بدأ البلدان في الوقت نفسه في ارسال البعثات الى أوربا وها هو بلد منهما ما زال يرسل بعثات نحن نرسل بعثات في اللغة العربية في الشعر العربي ونرسل بعثات لدراسة القانون وللجراحات الجديدة وللجينات نبعث كل فترة عددا كبيرا من البعثات بل ونتفاخر في الجامعات أننا نرسل مئات البعثات.. فيما اليابان يبتعث إليها, هذه الصورة توضح الفارق الرهيب بين البدايتين وما قد وصلنا نحن اليه الآن.

تزامن البدايات

  • دعني أقاطعك في موضوع اليابان.. كثير من الأدبيات السياسية وهي الأدبيات المقارنة في التحليل السياسي قالت الكلام نفسه وتصر عليه: من عجب أن مصر واليابان بدأتا في وقت واحد تقريبا ولكن النهايات اختلفت, وعندي أن المقارنة هنا قد تكون ظالمة وجائرة بالنسبة لمصر..إن مصر بدأت مع اليابان لكن سياق التجربة مختلف.. اليابان ليست (دولة دور) كما أن مصر كانت وستظل (دولة دور) بمعنى أن الأطماع الامبريالية في القرن التاسع عشر عطلت حقيقة هذا الدور المصري عن أن يكتمل وينضج كما اكتمل في اليابان.. اليابان استفادت من عزلتها الجغرافية في العالم ولا أريد أن أقول انغلقت على نفسها ولكن على الأقل انعزلت وطورت تجربتها.. مصر - تجربة محمد علي بالذات - صادفتها تحديات مثل التكتل الدولي ضدها, تحطيم الأسطول, معاهدة لندن 1840, تحجيم حركة محمد علي وأداء الدور المصري, كل هذا حد من إمكان أن تتطور التجربة المصرية وتنضج كما نضجت التجربة اليابانية لم يحدث أن واجهت اليابان فيما أعلم هذا التحدي الدولي ولم يحدث تآمر عليها أو لم يحدث تكتل دولي أجهض التجربة اليابانية كما حدث للتجربة المصرية ومن ثم قد نظلم التجربة المصرية إلى حد ما عندما نقارنها بشكل مطلق مع التجربة اليابانية.

          - أنا التقي معك في الخط العام لكن لا تتصور أن اليابان لم تمر بهذه التحديات!! اليابان صادفت تحديات كثيرة أنا لن أتكلم مباشرة عن القنبلتين الذريتين اللتين دمرتا اليابان في الحرب العالمية الثانية كما أن اليابان خاضت حروباً مع دول كبرى - مع روسيا مثلا والصين - وهناك مقولة شهيرة قالها وزير خارجية اليابان في أوائل القرن عندما حدث اعتراف دولي باليابان قال: لقد اعترفتم بنا لأننا هزمناكم في مجالكم بالسلاح الغربي.. نحن صنعنا مثله وأفضل منه وهزمناكم به فاعترفتم بنا.. مصر دولة دور كما تقول لكن اليابان أيضا اليوم لها دور في منطقتها,دور ضخم فهي التي تقود التنمية, وهي النموذج, وهي أيضا القدوة, وهي أيضا الممول لكثير من بلاد شرق آسيا وأنا لست أميل كثيرا الى أن نعلق كل سلبياتنا وكل تخلفنا على شماعات الآخرين ولا على أسباب خارجية, نعم حدث أن مصر استهدفت, حدث أن مصر أيام محمد علي ضربت, وأيام عبدالناصر, أنا دائما أقول أن مصر لا يراد لها أن تقوى ولا يراد لها أن تموت, يراد لها أن تبقى هكذا لا هي قوية ولا هي ميتة لأن موتها يضر كثيراً من المصالح وقوتها أيضا تضر كثيراً من المصالح هذا كله صحيح. ولكن هذا كله كان يمكن أن يتوارى لو أن هناك عزما, ولو أن هناك عملا, هؤلاء إناس يحسنون العمل ولا يتركون مطلقا أي فرصة للخلل ولكن أيضا يتقنون المتعة, نحن لا نحسن الأمرين.. لا نحسن العمل ولا نحسن المتعة, الإجازة عندنا نقضيها في النوم والعمل ومرة أخرى أنا أميل ألا نلقي بأسباب تخلفنا على الآخر.

          بمناسبة الحديث عن أن اليابان الآن تستقبل بعثات وهو شيء طبيعي وحقيقي ولولا حاجز اللغة لكنا أرسلنا اليها بعثات, في رأيي أنه آن الأوان أن يزول هذا الحاجز اللغوي ونتوسع في تعليم أولادنا اللغة اليابانية وهذا ما أنا لاحظته شخصيا في الولايات المتحدة, هناك توسع في تعلم اللغة اليابانية حتى يتم تثقيف الشباب بما يدور في اليابان خاصة في مجال العلوم الأساسية والعلم والتكنولوجيا ومجالات البحث والتطوير إلى آخره. وبالمناسبة فقد قرأت دراسة مهمة تقول إنه في نحو سنة 2015 وهو موعد ليس بعيدا بمقياس الزمن سيكون تقريبا بمقدور العالم أن يتحادث من خلال برامج كمبيوتر حاسوبية وفق نظام اسمه ساتس Sats وهو اختصار لكلمة الترجمة اللحظية الاوتوماتيكية بين اللغات المختلفة, وهو نظام يعني أنه ليس ماكينة إنما شبكة بحيث يستطيع الفرد العادي العربي مثلاً أن يتخاطب مع الفرد الياباني أحدهما يتكلم بالعربية والآخر بالعكس وتحدث ترجمة تلقائية, ليست فورية كما هو حاصل حاليا أو شفوية, والتلقائية هذه تقدم لنا النص في اللحظة نفسها بجمالياته وسياقه ومفاهيمه ودلالاته, وهذا النظام تقوم عليه شركة آي. بي. إم حاليا وحددت فترة 2015 هذه لانزاله إلى السوق بحيث يصبح برج بابل الجديد الذي سيتفاهم فيه البشر.

فرز التراث

  • نحن نصدر عن تراث كما تعلم بديهي, يكرس العمل كقيمة ونصدر عن عقائد دينية كما في القرآن مثلا الذي يعلي من قيمة العمل حتى بالنسبة للأنبياء ومع ذلك أنا أعتقد أن هناك نوعا من الانفصام الفكري والسلوكي وهذا يقودنا إلى نحن وما نملك من التراث ولعلك تذكر قولة المرحوم العلامة أمين الخولي: (نحن بالنسبة للتراث كالوارث السفيه) نحن ورثنا كنزاً عظيماً ولكننا نبدده, نحن الآن نرفع شعارات التراث - سواء في العالم الإسلامي أو على مستوى العالم العربي - ونكرسها ونمجدها ونملأ بها أجهزة الاعلام ولكني أتصور أننا فارقنا حتى القيم التراثية الأصيلة واكتفينا بالقشور وهذا يقودنا إلى سؤال هو: كيف تنظر إلى التراث?

          - نظرتي للتراث بأمانة شديدة أنه تراث غني ولكن لابد من فرزه, نحن عندنا تراث عظيم وبه قيم عظيمة وقيم تدعو للعقل وإعلاء العقل وقيم تدعو للعمل وإعلاء العمل, قيم تدعو للمحبة وقيم تدعو للتسامح وقيم تدعو للقوة, كل هذا موجود في تراثنا وهذا الجانب من التراث يجب أن نعمل على إحيائه وعلى استعادته, لكن أيضا هناك جزءاً من تراثنا بالذات في نهاية العصر العباسي الثاني وما بعد ذلك أنا أعتقد أنه في أغلبه تراث لابد من غربلته ورفض الكثير منه, ليس كل قديم بالضرورة طيباً ولا جيداً ولا كل حديث بالضرورة سيئا ولا شرا, نظرتي إلى تراثنا أنه تراثنا نحن وجزء منا ولكن هذا التراث يجب أن ننظر اليه نظرة ناقدة تتبين الغث من السمين, نظرتي للتراث ليست نظرة استسلام ولا تمجيد, ولا قبول بالكامل, أيضا ليست نظرة رفض بالكامل, إنما أعتقد أن تراثنا دخل عليه الكثير من الهم والغم والإحباط وأنه لابد من تنقية التراث, والحقيقة أن الدراسة التي قام بها المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود عن التراث المعقول والمنقول دراسة ممتعة وبالمناسبة فإن المرحوم زكي نجيب محمود قد كتب هذه الدراسة في الكويت وقد بدأ اهتمامه بالتراث وهو في الكويت, لأن اهتمامه قبل ذلك كان في الغالب بالفلسفة الوضعية والفلسفة الحديثة ولكنه بدأ يهتم بالتراث وقدم روائع في اهتمامه بالتراث. إنني الى حد كبير متأثر بالدكتور زكي نجيب محمود في نظرته للتراث ما يقبله وما يرفضه, أنا أؤكد أن تراثنا به الكثير من الأشياء الرائعة ولكن هناك أشياء يجب أن نسقطها.

  • أنا لي تفسير في اهتمام الدكتور زكي نجيب وهو في الكويت, لقد كان الدكتور زكي نجيب محمود في الكويت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات على ما أذكر, وأتصور أن عقد السبعينيات كان عقداً مهماً لأنه شهد نوعاً من المراجعة, مراجعة تجربة الوطن العربي في الخمسينيات والستيينات في التحرر والتنمية, كان عقد الخمسينيات والستينيات كما تعلم هو عقد اليقظة العربية وعقد الاستقلال العربي وعقد التنبه وعقد تعريف الذات العربية, وخصوصا في معركة السويس في عام 1956, أما عقد الستينيات فكان عقد محاولة انجاز خطط التنمية القطرية وطرح مشاريع للعمل الوحدوي الى آخره بكل ما فيها, ولكن جاءت في نهاية الستينيات هزيمة 67 التي دعت كثيرا من العقول العربية سواء لمراجعة التجربة أو الهجرة إلى الذات أو الهجرة الى التراث أو الهجرة إلى الخارج, وأنا أتصور أن كثيرا من المثقفين العرب والمصريين بالدرجة الأولى, وأقول المصريين لأنهم أول من عانى من هزيمة 67 وأنهم هم الذين اكتووا بنارها, فخرجوا خارج مصر ومنهم من اتجه الى الوطن العربي ومنهم من اتجه الى الخارج, وأذكر أن في الكويت في السبعينيات كانت هناك مجاميع من صفوة المثقفين المصريين الذين احتضنتهم الكويت في الصناديق المالية أو في معهد التخطيط التابع للأمم المتحدة أو في بعض المرافق والادارات والمراكز البحثية وجامعة الكويت, وأعرف ذلك فقد عملت فيها, في هذه المرحلة حدثت هذه المراجعات وكانت تعقد جلسات بين المثقفين المصريين, ومن جانبي كان لي تجربة متواضعة وهي كيف يهتم الانسان بالتراث وهو خارج حدود الوطن, لقد كنت في إفريقيا وأمضيت بعض العام تقريبا في خدمة الأمم المتحدة ما بين أثيوبيا والنيجر من شرق إفريقيا وغربها, زرت بلاداً صغيرة مثل كوت ديفوار, وبنين, وبوركينا فاسو الى آخره, عندما كنت أتحدث مع الناس كان منهم مسلمون ولهم ارتباط بالعالم العربي والاسلامي, كنت أحس أن الثقافة الفرانكفونية - الفرنسية - تكاد تسحق التراث الافريقي الوطني ناهيك عن التراث الإسلامي المتأثر باللغة العربية لهؤلاء الناس, فكان أن راودني هاجس أن أساهم قدر إمكاني في النظر إلى التراث ,وعندما عدت أصدرت كتابا اسميته (دليل القارئ الذكي الى عيون التراث العربي) مقدمته تكاد تشابه ما تفضلت به أنت من أن التراث ليس صنما نعبده وإنما فيه السيئ وفيه الغث والسمين خصوصا أن التراث كسب إنساني لمجتمع يلبي احتياجات ثقافية واجتماعية وحضارية في مرحلة ما لقوم عاشوا بشكل ما هم الذين أبدعوا هذا التراث, فعندما تناهى الينا فمنه ما قد يصلح لنا لكي نتمثله ومنه ما لابد أن نرفضه لأنه فارق عصرنا ولا يلبي أي مطلب, ومأساتنا مع بعض التراثيين أنهم يتمسكون تمسكا شبه أعمى بكل ما انحدر الينا وكأنما يخلطون بين التراث والدين, والأمر ليس كذلك بطبيعة الحال. ثانيا أن التراث عبارة عن اجتهادات بشرية في مجالات مختلفة في الإبداع الفني والثقافي وحتى في الفقه, كل هذه الإبداعات كانت تلبي احتياجات في عصر ما, ومع ذلك ففي التراث أشياء ما زالت مراجعتها مهمة, وأيضا أعود في هذا السياق الى تجربتي: لقد كنت أحاول أن أقول للناس التراث ليس الأدب وليس ألف ليلة وليس كتاب الأغاني وأيضا ليس الدين, وإنما هو كل شيء من هذا, ولذلك فكتابي يشمل اثني عشر فصلا عن الدراما وعن المالية العامة وعن فكر التصوف وعن أبي حيان التوحيدي الذي أسميته (الصعلوك العبقري) إلى آخره وفيما يتعلق بالمالية العامة صادفني كتاب مشهور اسمه (الأموال) لمحمد بن سلام, وهو تلميذ القاضي أبي يوسف ومن ثم فهو حفيد أبي حنيفة الفكري لأن أبا يوسف كان تلميذ أبي حنيفة, أحضرت الكتاب الأصلي أحاول أن أعيد قراءته قراءة عصرية لكي أقدمه من جديد للقارئ. في أول صفحة في ذلك الكتاب وجدت عبارة تقول ما معناه: (عرض هذا الكتاب على السيدة الفاضلة شهدة بنت عمرو في منزلها القائم بمحلة الكوانين في بغداد وقد قرأته وأجازته فلها مني كل الخير وكل الشكر). وقد فوجئت بهذا الموضوع وهذا معناه أن هذا التراث يحوي قيمة خطيرة جدا تضع المرأة في هذا الموقع العلمي المحترم, فهي تجيز كتابا في المالية وليس في النِفاس ولا في الطهو ولا في الأزياء وتجيز ذلك في العصر العباسي الأول, هذه هي القيمة, قارن بين قيمة الاستنارة التي تنظر إلى المرأة كعالم محترم, وقيمة إهدار مكانة المرأة في بعض السياقات المعاصرة.

          - أنا أريد أن أقول إن التراث لابد له من نظرة نقدية, مثلا في صدر الإسلام أنا أتحدث عن التراث المتعلق بقضايا الدين أهتم بها وأكون ميالا لقبولها, لكن يمكن أن آخذ الكلام عن الشعر الجاهلي وأتوقف عنده, في العصر الأموي يمكن أن آخذ قضايا متعلقة ببعض الأصول وأتقبلها ولكن يمكن أن آخذ قضايا أخرى متعلقة بالإمام علي وأولاده وأتوقف عندها وأتحفظ كثيرا بالنسبة لها, أنا أعتقد أن العصر العباسى الأول كان عصر استنارة فعلا في مرحلة الدولة الاسلامية أنا أميل الى قبول أغلب التراث في العصر العباسى الأول, ثم أبدأ في العصر العباسى الثاني وأتوقف كثيرا وأنتقي كثيرا, وأغربل كثيرا, وأستبعد كثيرا, ثم بعد أن ينتهي العصر العباسي الثاني قد أميل الى رفض 90% مما يقال في التراث, لأنه ليس كل قديم هو تراثا, هناك قديم لابد أن تلقي به في اليم, وهناك قديم تحتفظ به, الخلط بين القديم والتراث خلط لابد أن نتنبه له, ليس كل قديم تراثا, بمعنى أنه نفيس, هناك أشياء نفيسة حديثة, هناك أشياء تغنيك حديثة وهناك أشياء تنفرك وتجرك للخلف قديمة, لابد ألا نجعل (القدم) هو المعيار, إنما نجعل (المضمون) هو المعيار, والمضمون لابد أن أعرضه على (العقل), (ضلت الناس لا إمام سوى العقل هاديا في صبحه والمساء).

العصر العباسي

  • دعني أيضا أقف مدافعا في هذا السياق عن العصر العباسي الثاني,أنت تنظر إليه بعين الظلم.

          - أنا لا أظلمه, أنا أقول أننا بدأنا فى نهايته مرحلة الانحدار.

  • العصر العباسي الثاني يؤرخ له المؤرخون بأنه يبدأ بالمأمون وكانت فترته هي قمة النضج العربي وقمة الترجمة وقمة التأثر بالحضارات القديمة إلى آخره, طبعا لن ننسى الأندلس, نحن سننظر ليس من خلال السياق التاريخي تقسيما إلى عصور أموية أو عباسية أول أو ثان, بل سننظر إلى المؤسسة الإبداعية والفكرية في حد ذاتها, ليس صدفة أنه في عصور ما يسمى بالانحدار في أواخر العهد العباسى الثاني ظهر الغزالي وابن رشد والمتنبي والمعري الى آخره.

          - أظن أن كلامي واضح, أنا قلت بعد العصر العباسي الثاني أتوقف وأوشك ألا أجد شيئا يستحق الاحتفاظ به.

  • من كلامنا عن التراث هناك نقطتان, النقطة الأولى خاصة بقيمة مهمة جدا, أنا أعلم أنها تمثل هاجسا لك وهي قيمة الحوار كما تنعكس في التراث أيضا في إيجابيات التراث,نحن نصدر عن تراث يقول: {ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} نحن نصدر عن تراث في ايجابياته في الفقه بالذات اذا قال لك الخصم كذا فترد عليه بكذا, أحيانا يروق لبعض المثقفين أن يسخر قائلا إن هذه هي القلقلة, ولكن رأيي أنها قيمة يجب الحفاظ عليها, أنك تحتفي بالخصم أو الآخر وترد عليه ردا موضوعيا وأن تتصور مقولاته وأن ترد عليها, ومن هنا نحن استفدنا من علم الكلام, وهو علم أيضا كان فيه شطط, نعم ولكن كان فيه سجال فكري طول الوقت.

          - أريد هنا أن أضيف شيئا فيما يتعلق بالحوار, هل تعلم أنه في العصر العباسي الأول وبدايات العصر العباسي الثاني كانت هناك مجالس في بغداد معروفة ومكتوب عنها, مجالس يوجد فيها المسلم واليهودي والمسيحي ويوجد فيها من لا دين له, ويجلسون ويتحاورون ويختلفون ثم ينصرفون أصدقاء, هذا كان يحدث في العصر العباسي الأول وبدايات العصر العباسي الثاني, هذا تفسير للحوار لم يحدث في أي مكان في العالم في تلك الفترة, وهي فترة محاكم التفتيش والزنادقة وحرق الناس, هذه فترة كانت مضيئة في الحياة الفكرية في الدولة الإسلامية, طبعا لم تكن ندوات مفتوحة ولكن كانت جلسات يختلف إليها كبار المفكرين وصفوة المثقفين, الى هذا المدى تراثنا فيه أشياء جيدة, ولكن تراثنا يوجد به علماء كبلوا بالحديد لأنهم خالفوا رأيا للحاكم أو وضعوا في ماء مغلي لأنهم خالفوا رأيا للحاكم.

  • كيف ترى ما صرنا إليه من قيمة الحوار مع الآخر واحترام الآخر الى منطق العصر حاليا, منطق تكفير الآخر وتسفيه مقولاته ومحاولة تدميره?

          - أراه في شيء واضح هو: القصور العقلي والجهل, عندما يظن الانسان أنه هو الذي يعرف الحقيقة وأن غيره لا يعرفها عندئذ تستطيع أن تجزم أن هذا الانسان إما مختل عقليا أو قاصر عقليا. رفض الحوار ورفض الآخر ورفض الفكرة الأخرى لا يدل إلا على قصور عقلي, التطرف يساوي القصور العقلي, أي إنسان واسع الثقافة يُعمل عقله لا يمكن أن يتعصب ولا يمكن أن يتطرف, لماذا? لأنه يعلم جيدا أنه مهما أوتي من علم فهناك علم آخر ومهما أوتي من رأي فهناك رأي آخر ومهما أوتي من فطنة فهناك فطنة أخرى, وأن الحقيقة لا يملكها أحد ولا يحتكرها واحد. مثلا أخطأ الماركسيون لما تصوروا في وقت من الأوقات أن ماركس ختم على العلم وأخذ مفتاحه, وخطأ أيضا أهل الدين - وهذه أيضا خطورة أهل الدين عندما يتعصبون لفكرة لأنهم يحيلونها الى السماء - نحن نختلف فلماذا نحيل خلافنا الى السماء, الحوار قيمة كبيرة وهذه القيمة تتأكد عندما توجد عقول راجحة مستنيرة, عقول عالمة, عقول مدركة أن بحر العلم بعيد وواسع وبغير شطآن.

حياة عادية

  • هل تأذن لي بأن نتحول إلى حديث الأدب.. لقد تكلمنا عن الشعر الجاهلي وأنا فرغت لتوي من قراءة كتابك الممتع (قصة حياة عادية) وفيه أنفاس من طه حسين ولكن أيضا فيه قبسات من فكر العقاد, لذلك وأنا أقرأ الكتاب ظل يتردد في ذهني سؤال كان قد طرحه على نفسه الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور بعنوان (ماذا بقي من هؤلاء) السؤال: ماذا يبقى الآن في حياتنا المعاصرة, والى الفترة القادمة من هؤلاء الذين نسميهم عمالقة الأدب العربي وعلى رأسهم بالدرجة الأولى طه حسين والعقاد وقد نضيف إليهم نجيب محفوظ أيضا, ما الذي يبقى في رأيك من هؤلاء في التاريخ?

          - في تقديري يبقى الكثير, اذا أخذنا العقاد أنا أتوقف كثيرا عند كتّيب من أصغر ما كتب العقاد يسمى (في بيتي) هذا الكتيب الصغير وهو العدد الثاني من سلسلة اقرأ, أنا أعتقد أن كل سطر فيه, جدير بالبقاء, منذ اللحظة الأولى التي يتكلم فيها العقاد عن النور, وعن معنى النور وعن فلسفة النور الى آخر صفحة في الكتيب, ولا أخفي عنك, أنا تصيبني الانفلونزا كثيرا, وهذا الكتاب لا يفارقني في كل مرة تنتابني فيها الانفلونزا وقد تنتابني في السنة أربع أو خمس مرات ومن ثم أقرأ هذا الكتاب أربع أو خمس مرات في السنة. يوجد أيضا كتاب (الله) للعقاد ككتاب في العقيدة الإلهية أنا أقول إنه كتاب يبقى, ثم هناك تناول العقاد الانساني للعبقريات الاسلامية, عندما يتكلم عن الحسين بن علي فيسميه (الشهيد بن الشهيد) وأنه أبو الشهداء الى آخر الزمان, التراث الذي تركه العقاد جزء كبير منه قابل أن يستمر وقابل أن يغذي ويفيد, أيضا دفاع العقاد عن قضية الحرية, وحتى لو اختلفنا معه في موقفه من ثورة 23 يوليو لكنه كان واضحا مع نفسه وصريحاً مع نفسه, كان إيمانه بقضية الحرية إيماناً راسخاً, عندما تنتقل إلى الدكتور طه حسين فإنه أستاذي وأنا أعرف بعض تلاميذه وقد تأثروا به بشدة, وبقي هو في تلاميذه أيضا بقي طه حسين في (الأيام), أنا أزعم أنني تأثرت بطه حسين في (الأيام) في كتاب (قصة حياة عادية).

  • بمناسبة العقاد وطه حسين سأحكي لك عن تجربة شخصية لقد بدأت بالعقاد معجبا بعصاميته ومعجبا بشخصيته وبأسلوبه العقلاني جدا, ولكن مع النضج إن كان هناك نضج مع تقدم العمر اعتراني تحول غريب أنا نفسي أرصده لمصلحة طه حسين, بدأت أخشى من تعليمات العقاد في بعض كتاباته خاصة في (العبقريات), العقاد يبدو لي في (العبقريات) أقرب الى المحامي منه الى المفكر, أقرب الى الشخص الذي يريد أن يترافع في قضية صاحب العبقرية التي يكتب فيها, وأعطيك مثلا عن سقيفة بني ساعدة, العقاد في حديث السقيفة قبل بغير أي نقد أو تمحيص رواية ابن هشام والطبري بكل تفاصيلها, ماذا قال أبو بكر وماذا قال عمر وماذا قال سعد بن عبادة إلى آخره, عندما طالعنا طه حسين في الموقف نفسه في كتاب (الشيخان) من سلسلة الفتنة الكبرى, طه حسين توقف عند هذا الذي قيل وشكك فيه وقال إنه في مثل هذه الفتنة وهذه الفترة العصيبة والأعصاب مشدودة من الذي كان يملك ترف أن يحرر كل المقولات وينقل كل الكلمات وأن تكون الكلمات على هذا النحو من السبك والنحو والانشاء البليغ, إن هي إلا أشياء دونت فيما بعد على ألسنة أصحابها. ويبدو أن طه حسين كجامعي وأكاديمي سيبقى منه هذا المنهج, فيما يبقى من العقاد الفكر العقلاني الذي تكلمت أنت عنه وخاصة في كتاب (الله) وفي كتاب (عبقرية المسيح) وفي كتب أخرى للعقاد, هذه على الأقل تجربة شخصية جعلتني أتحول وأقول إن طه حسين سيبقى منه الكثير, فيما العقاد بأحكامه المعممة في كثير من الأحيان سوف يفقد الكثير, أو سيفقد بعض ما كتب مع مرور الزمن.

          - لست أدري ماذا أقول, ولكن طه حسين صاحب المنهج الديكارتي في الشك العلمي أو الفلسفي وهذا الذي يجعله ينظر الى سقيفة بني ساعدة هذه النظرة التي نظر بها الى الشعر الجاهلي والتي شكك من خلالها في كثير من الأمور, وقد يكون الرجل محقا, أنا لا أريد أن أتحيز لأحدهما ضد الآخر ولكني أقول أن العقاد كان عملاقا وأن طه حسين كان عملاقا, قد يتميز طه حسين بكونه أستاذاً, وكونه أستاذاً جعل له تلاميذ وجعل له محبين وجعل له مدرسة تهتم به, لكن طه حسين كان لا يخلو من غرض, كما العقاد أيضا كما أن كل الكتاب لا يخلون من غرض إنما أريد أن أقول أن كلاً من الرجلين كان له منهجه وأن كلا منهما كان عظيما ونحن في حاجة الى مثل طه حسين ومثل العقاد ونرجو أن تنجب هذه الأمة من أمثال طه حسين الكثير ومن أمثال العقاد الكثير أيضا.

النيابة والكتابة

  • بمناسبة كتابك (قصة حياة عادية) أنت خدمت في النيابة في صعيد مصر العليا وكان لمن سبقوك تجربة مثل تجربة توفيق الحكيم الذي خدم في الدلتا في طنطا وأسفرت تجربته عن كتابه الجميل (يوميات نائب في الأرياف) والثاني كان معاون نيابة في منفلوط وهو الأستاذ (يحيي حقي) وبعد هذا كتب مجموعته (دماء وطين) وقصة (البوسطجي) وغيرها, توفيق الحكيم ركز على تجربة النيابة بطرافتها, ويحيي حقي بأسلوبه الجميل الطلي ركز على الجوانب الانسانية, جوانب الحياة بشكل عام في الصعيد كأنما أعاد اكتشاف الصعيد لقارئي الأدب واللغة العربية منذ ثلاثينيات هذا القرن, أنا لم ألمح في كتابك هذا التوسع وإنما أنت اقتصرت على نموذج أو اثنين أو ثلاثة غاية في الطرافة من النماذج التي عايشتها في تلك الفترة, ثم هربت من تجربة النيابة في الصعيد ربما لاختصار المدة الزمنية, وإن كنت أحس في الكتاب أن قدر البوح كان محدودا وربما أن القاضي في داخلك كان دائما يصد عن البوح إلى الأديب الذي كان يطل بامكاناته ومواهبه بين سطر وآخر فما تعليقك على ذلك?

          - أنا أميل الى أن أوافقك لكن أحب أن أضيف أن كتاب (قصة حياة عادية) يبدأ معي منذ وعيت وعمري أربع أو خمس سنوات وينتهي عند سن الثلاثين أو بعد الثلاثين بقليل, مرحلة النيابة في هذه ال30 سنة هذه لا تتجاوز من خمس إلى ست سنوات فلم يكن يمكن ان تأخذ من الكتاب مساحة أكثر مما أخذته أذكر أنني عندما بدأت أكتب (قصة حياة عادية) وأنشرها بشكل مسلسل, كان الاستاذ يحيي حقي يقول لي: كلما قرأت لك جزءا أتذكر طه حسين وأيام طه حسين, وواضح أنك متأثر بطه حسين واسلوب طه حسين وهذا صحيح, أما الأستاذ توفيق الحكيم فأذكر قصة طريفة معه, لقد كنت أحبه وكان يبدي لي نوعا من العطف ففي حديث معه قلت له إنك أصبت عندما حسمت الصراع لصالح الأدب وتفرغت للأدب وهو بطريقته قال لي (لا لا يا يحيي أنت هكذا أحسن) وقد كنت أجادله فقال لي: (أنا عندما سافرت إلى فرنسا تركت هذا الكلام وذهبت الى المسرح والأدب, أنت لم تفعل هذا, رأسك به لسعة منطق) وما زلت أذكر هذه الكلمة, أنا مع حبي للأدب ومع حبي للفن إنما يظل في رأسي كما قال توفيق الحكيم (لسعة) منطق, وأنا أعتقد أن العمل في الجامعة قد حل لي هذا الموضوع, المهم أن تعلقي بالأدب وتوجهي الأدبي بدأ مبكرا, وكنت أعتبر أن الأدب هو الواحة, من هجير الحياة كان الأدب والقراءة وطه حسين وتوفيق الحكيم وبلزاك وكل هذا كان هو الواحة للإنسان يعيش فيها ويسعى إليها. فجاءت الجامعة فحلت التناقض الرهيب فبعد أن أكملت مرحلة (التوجيهي) - الثانوية - كنت أرى في ذهني أن أدخل كلية الآداب قسم لغة عربية أو قسم فلسفة, وبعد ذلك حسمت الأمر بكلمة قلتها لنفسي وأنا ما زلت صغيرا (ليكن الأدب هوايتي وليكن القانون حرفتي).

  • ربما كان تأثرك بطه حسين وأيضا بالعقاد دفعت أنت ثمنه, أو أنا دفعت ثمنه كقارئ لك, بمعنى صحبتك الدائمة للكتاب, وأذكر في مقاطع كثيرة من كتاب (قصة حياة عادية) أنك كنت تعود مرهقا من عمل النيابة بالصعيد فتلقي بنفسك على السرير وتبدأ في القراءة, لم يبد بين هذه السطور ميلك إلى الموسيقي وإلى الغناء, وعندي أن هذه الملاحظة تنطبق على (أيام) طه حسين, فالأيام ليس فيها أي اشارة من الفتى طه حسين إلى الاهتمام بالموسيقي والغناء, رغم أنه كان يعتمد على حاسة السمع وحاسة الإيقاع, لكن كل كلامه كان عن الكتب, سواء الكتب الكلاسيكية في الأزهر أو بعد ذلك الكتب التي درسها أثناء الدراسة في فرنسا, العقاد أيضا كما نعلم كان كل همه في حياته هو الكتاب, وأنت من المعجبين أيضا بالكتاب الذي تضعه الى جانب سريرك باستمرار وهو كتاب (في بيتي) وهو عبارة عن قصيدة غزل في الكتاب, من أوله الى آخره, هذا الاعجاب بهذين الكاتبين جاء على حساب الاهتمام الآخر الذي أتصور أنه أيضا مهم في حياة المثقف وهو الاهتمام بالموسيقى وبالغناء?

          - هذه ملحوظة جيدة جدا, ولكن أنا أرجعها الى عامل آخر وهي النشأة في الريف, الأسرة المتوسطة جعلت الكتاب هو الجاذب الأكبر, إنما أنا أذكر من صغري أن صوت الناي كان يشجيني جدا, وما زال حتى يومنا هذا يشجيني صوت الناي وأحب سماعه, أيضا كنت أسمع المواويل التي تقال في البلد وقد كان لي عم يقول المواويل ما زلت أذكر بعضها, لكن طبعا لم أسمع موسيقى باخ وموسيقي هايدن وموسيقى بيتهوفن, ولم أسمع كل هذا إلا بعد أن قابلت الموسيقار سليمان جميل رحمه الله, والدكتور راشد في الجامعة وأسسنا جمعية (الموسيقى), إنما حتى يومنا هذا لا أستطيع أن أسمع الموسيقى الكلاسيكية الغربية المعقدة, ولكن أنا من الذين يطربون جدا عند سماع السيدة أم كلثوم, لكن هذا لم يحرمني من أن أسمع عبدالوهاب, وأيضا عبدالحليم, ونجاة, وليلى مراد وأطرب لها جدا, وفيروز, لكن صوت أم كلثوم هو الصوت الوحيد الذي يصرفني عما عداه. وهناك صلة بلاشك بالفن والموسيقى ولكن هذه الصلة في إطار النشأة البسيطة الريفية, أيضا في إطار الموسيقى العربية, الموسيقى الغربية بكل تعقيداتها وآلاتها المعقدة لم أستطع استيعابها, فمثلا أسمع مقطوعة لبيتهوفن لا أستطيع التعرف عليها عند سماعها مرة ثانية, فليس عندي الحس الفني والسمعي الذي يجعلني أتعرف على الموسيقى الغربية, إنما أسمع اللحن الشرقي وأطرب له, وأسمع أم كلثوم وأعيش معها وأتأثر بها.

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات