لماذا لم تبك الخنساء أبناءها?!

لماذا لم تبك الخنساء أبناءها?!
        

          كتب الأستاذ الشاعر فاروق شوشة, في عدد مجلة (العربي) رقم (520) مارس 2002م مقالا تحت عنوان: (الشاعرة التي بكت أخويها, ولم تبك أبناءها الأربعة). وهنا تعقيب عليه: أثار الموضوع لديّ المتعة والإعجاب, وهو إعجاب مازالت كوامنه تثار لدى الحديث عن شخصية الخنساء سواء في الحقبة الجاهلية, أم بعد الإسلام.

          فقد أثار الكاتب تساؤلين, أولهما حول (إيثارها صخراً بالعديد من القصائد, وتذكره في العديد من المواقف والمناسبات, وتوهج شعرها القليل في صخر بالعاطفة الملتاعة, والشعور الحقيقي بالفقد, على عكس شعرها القليل في معاوية الذي لا يكاد يقارن بشعرها في صخر, وهذا الأخير, - أي شعرها في صخر - ذاعت شهرته, وبسببه ذاعت شهرة الخنساء شاعرة الرثاء والبكائيات).

          وثاني التساؤلين دار حول (صمت الخنساء أمام فاجعة مزلزلة من شأنها أن تمزّق قلب أي أم, وتفجّر حزنها وشعورها بهول المصاب حين استشهد أبناؤها الأربعة في وقعة القادسية, في السنة السادسة عشرة للهجرة, وكانت تصحبهم وتوصيهم في أول الليل قائلة: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله تعالى سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين, وبالله على أعدائه مستنصرين. فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها, واضطرمت لظى على سباقها, وجللت ناراً على أوراقها فتيمموا وطيسها, وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها, تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلود والمقامة).

          ومع اتفاقي مع الأستاذ فاروق شوشة في تعجبه من هذين الموقفين المتباينين فإن تعجبي لا يفضي إلى حيرة واستغراب ودهشة لغرابة الظاهرة وعدم تعليلها, بل إدراك لأبعادها, وانبهار بها, مع مراعاة حيثية كل من الموقفين, والظروف المحيطة بهما.

          وفي الرد على التساؤل الأول, نرى أن هذا الإيثار كان رجع الصدى لعوامل نفسية, اجتماعية, ذاتية, فالخنساء وإن كانت أول أمرها تقول الشعر ولا تكثر حتى قتل أخواها: معاوية الشقيق, وصخر أخوها لأبيها, إلا أن صخرا كان أحبهما إليها, لما كان عليه من (الحلم والجود, والتقدم في عشيرته, والشجاعة, وجمال الوجه, ففتّق الحزن أكمام شاعريتها). ومما أججّ لوعة هذا الحزن أن صخراً لم يُدرك بثأره, في حين أدرك لها بثأرها لمعاوية, قيس بن الإمرار, الفارس الجشمي, الذي فدته بالنفس لجليل صنعه:

فدى للفارس الجُشمي نفسي

وأفديه بمن لي من حميم

وأفديه بكل بني سُليم

بطاعنهم وبالأنَسِ المقيم

خصصتُ بها أخا الأحرار قيساً

فتًى في بيت مكرمةٍ كريم



          وفضلاً عن ذلك فإن إيثارها لصخر كان افتقاداً للمغيث المعين, ولتلك العلاقة الحميمة التي شكلت أنموذجاً فريداً من المودة والإيثار لم يلبث أن تحول إلى توحد وجداني, انصهر في بوتقة القلب نشيدًا حزيناً, يحكي لوعة الفقد بقسوتها وضراوتها, وبعد أثرها النفسي والشعري, حيث شكّل العصب الأساس الذي مدّت عليه نسيج شعرها الرثائي, ذلك الشعر الذي لم تخب جذوته, ولم يفتر أنينه, حتى أتى على البقية الباقية من شبابها وجمالها, فدموعها الحرّى قد كفت بصرها, وأحدثت ندوباً في وجهها التماضري الجميل!! ذكر صاحب العقد الفريد رواية عن الأصمعي قوله: (نظر عمر بن الخطاب إلى الخنساء, وبها ندوب في وجهها فقال ما هذه الندوب يا خنساء?! قالت: من طول البكاء على أخوي! قال: أخواك في النار! قالت: ذلك أطول لحزني عليهما, إني كنت أشفق عليهما من النار, وأنا اليوم أبكي لهما من النار).

          وليس هذا فحسب, بل أبحرت في خضم هذا الحزن حتى ولجت أعماقاً أخرى طغت على فطرة الأنوثة لديها, فارتدت صدراً من شعر استشعرته إلى جسدها, ليكون رداءها مدى الحياة!! وكأني بها قد تحولت إلى نسيج بشري آخر لا عهد له بمشاعر الأنوثة عند حواء!

          وكأن خصوصية العلاقة بين صخر والخنساء قد اقتضت خصوصية من الحزن تتكافأ مع هذه العلاقة التي صوّرتها الخنساء لأم المؤمنين, مجسّدة لونا من الوفاء قل نظيره بين الإخوة.

          أما في الرد على التساؤل الثاني, فنشير إلى أن الكاتب قد تعجّب لصمت الخنساء عن رثاء بنيها مع كونها قد رثت أخويها بحرارة ولوعة, معززا رأيه برأي د. بنت الشاطئ في كتابها عن الخنساء, حيث رأت في صمتها: (موقفاً شاذاً منكراً, مصدره انحراف في طبيعة تماضر جعل عاطفة الأخوة فيها تطغى على عاطفة الأمومة التي هي جوهر الأنوثة والعنصر الأصيل في مقومات الفطرة لحواء).

          وإذا كان هذا الموقف قد أثار لدى الكاتب, ود.بنت الشاطئ هذا القدر من التعجب والاستنكار, فقد أحدث لديّ قدراً عظيماً من التقدير والإعجاب, بل وقفة احترام وإجلال! فالخنساء قد فقدت أبناءها الأربعة في موقعة واحدة!! وفقد ولد واحد يُعدّ فاجعة عظيمة على قلب الأم, تستدر عصيّ الدمع, وتثير لواعج الحزن والشجن! فما بالنا إذا كان هذا الفقد لأم قد علا بها السن, وأنهكتها الشيخوخة, وأقفرت دنياها من الأحبة, وأضحت في أمس الحاجة إلى من يرعاها, وهي تدب على العصا!

          ومع ذلك فالخنساء وهي على هذه الحال لم تندب حظها, ولم تشك عثرات أيامها, بل كانت تعيش هاجس سماع نبأ! وأيّ نبأ?! هل هو الفرحة المرتقبة بعودة الأبناء سالمين ظافرين?! أم فرحة نيلهم الشهادة والأجر العظيم?!

          وجاءت مع الجيش الفاتح أهازيج النصر, تحمل للخنساء نبأ استشهاد بنيها الأربعة في موقعة واحدة!! فما كان منها إلا أن قالت: (الحمد لله الذي شرَّفني بقتلهم, وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).

          حقاً إن موقف الخنساء يطرح أكثر من علامة استفهام تتداعى تبعا لطبيعة المتلقي وثقافته وانتمائه, ومن هنا فقد استثارتني مقولة د.بنت الشاطئ - رحمها الله - في تعليلها لموقف الخنساء الذي أورده الكاتب, بأنه شذوذ في عاطفة الأمومة! ولدى الرجوع إلى الكتاب وجدت أن المقولة قد نُزعت من سياقها, إذ كان أحد التفسيرات المطروحة فلم تستبعد بنت الشاطئ البعد الإيماني للموقف, ولنستمع إليها وهي تقول معقبة على استبشار الخنساء بنبأ الاستشهاد: (ثم لم تزدْ! ولم يذكر لها الرواة بيتاً واحداً ترثي به فلذات أكبادها!.. وإنه لموقف عجيب من أم ثكلى! وهو موقف أعجب من شاعرة تجيد الرثاء! أهو الإسلام قد منحها الصبر, وأغراها بالعزاء? ولنفرض أن الخنساء وجدت في مجد الاستشهاد عزاءها, فهلاّ هاج مصرع الأبناء شاعريتها, وأطلق لسانها بنشيد الشهادة, وحلاوة الايمان! فهل يقال إن بكاءها على أخويها قد استنفد الدمع من مآقيها, وإن رثاءها لهما قد استهلك عواطفها!! الموقف عجيب, ولا تفسير له عندي إلاّ إحدى اثنتين: فإما أن يكون حزنها المشهور على (صخر) قد جعل الرواة والسمار والقصاص لا يكترثون لغير هذه الأخوة الفذة..., وإما أن يكون موقف الخنساء من بنيها مصدره شذوذ في طبيعة تُماضِر, جعل عاطفة الأخوة فيها تطغى على عاطفة الأمومة التي هي جوهر الأنوثة, والعنصر الأصيل في مقومات الفطرة لحواء).

          ومهما يكن كنه الأمر فإني أرى أولاً أنه لا يحسن محاسبة الشاعرة على صمتها واقتحام مشاعر أمومتها, فهي أدرى بعواطفها تتدفق فيضاً شعريا يعبر عن أساها ومتى يكون الصمت أبلغ من التعبير!!

          ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن الخنساء لم يكن لها إلا أن تلوذ بالصمت وهي تعيش المناخ الثقافي والاجتماعي لأزهى عصور الإسلام, فالإسلام مازال يعيش في القلوب والعقول غضاً ندياً, ممثلا لخيرية القرون التي أخبر عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

          وهناك أمثلة كثيرة لا سبيل لذكرها في هذه العجالة تؤيد أثر الإسلام في تشكيل النفس الإنسانية وفق معطيات الإسلام, وعليه فوصية الخنساء لأبنائها ليلة ذهابهم للجهاد, كأغلى وصية لمودَّع قد لا يكون بعده لقاء! مشفوعة بفرحتها بنبأ الاستشهاد لهي تداعيات منطقية, ونتيجة حتمية لتوجهها الإيماني الذي صرفها عن البكاء والرثاء, ولكل ما يمت إلى الجاهلية بأسباب إلى الرضا بقضاء الله وقدره, وجزيل ثوابه, فصاحب المحنة حين يستحضر أن جزاءه فوق ما ناله من الكرب, وأخلد له من المحنة تتضاءل لديه مهما عظمت, حتى يطغى على عاطفة الأمومة الجياشة التي تقتضي حياة الأبناء, بل ويتسامى على كل مغريات الحياة!!

          وإلا فما الذي يمنعها من بكاء فلذات أكبادها ورثائهم بحرقة ولوعة قد تكون أشد عنفًا مما تفجعت فيه على أخويها, لاسيما أنها قد ألفت البكاء, ولأن نكأ القرح بالقرح أوجع, وهكذا فتماضر آثرت مرضاة الله لتوقها لنعيم الجنان.

          وعلى هذا فالخنساء - لعلو إيمانها - والله أعلم - لم ترض أن تكون الصابرة فحسب, بل ارتقت مرتبة أخرى فوق الصبر إلى الرضا بحسن المآل, لأن الصبر يدل على التجلد وعدم الجزع, أما الرضا فيدل على القبول والاختيار! ولهذا تسامت عن الرثاء لكون الشهيد لا يحتاج إلى رثاء!

          ولعله من المفيد الاستئناس برأي د.حسين جمعة, الذي تناول بطرح عميق صمت الخنساء عن الرثاء مناقشا رأي د.بنت الشاطئ في هذا المجال, معللا أن (صمت شاعرتنا مرده إلى جملة أسباب:

          أولا: المرحلة الزمنية التي تفصل بين مقتل أخيها صخر, واستشهاد أولادها... وهذا يعني أن المرحلة الزمنية تقارب أربعين سنة...

          ثانيا: توالي المصائب على تماضر جعلها تُرجِّع الأسى في الجاهلية على ذويها,وتخص صخراً لأنه بلغ الحلم والمجد, وكان كريمًا, ولما قُتِل لم يأخذ أحد بثأره... واستمر بكاؤها عليه لما فاته من الحياة في الجاهلية, وافتقاداً للمعين المغيث...

          ثالثا: صمت الخنساء كليا عن قول الشعر, وقد أعجزتها الشيخوخة من جهة, وآثرت الصبر من جهة أخرى بعد النواح الطويل - والصبر أجمل لها - فلما أيقنت بهذا اعتذرت عما فعلته في جاهليتها.

          رابعا: إيمان الخنساء بتعاليم الإسلام وهديه... ومن هنا كيف لها أن تبكي أبناءها وهي توقن أنهم أحياء عند ربهم يرزقون: فرحين بما آتاهم الله من فضله, ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون

          ومع منطقية هذه التفسيرات التي طرحها د.حسين جمعة ينهض التفسير الديني أقوى هذه التفسيرات قائلا: (ولعل في وصيتها لأبنائها يوم اتجهوا إلى ساحة القتال ما يقوي الميل إلى عدم رثائهم...).

          ووفق هذا التفسير الديني يستدرك الباحث على د.بنت الشاطئ في تعليلها لموقف الخنساء, المشار إليه آنفا: (فهل يثبت تفسير بنت الشاطئ الأول والثاني أمام صدق إيمان الخنساء, وامتثالها لأوامر الإسلام ونواهيه?!!).

          وعليه فإسلام الخنساء قد رسم أبعاد شخصيتها في هذه المرحلة العمرية من حياتها, فهي وإن عاشت أكثر عمرها في الجاهلية إلا أنها قد أدركت الإسلام وأسلمت وقدمت على رسول الله صلى عليه وسلم مع قومها بني سليم فأسلمت معهم, وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستنشدها ويعجبه شعرها, وكانت تنشده, وهو يقول: هيه يا خناس, ويومئ بيده صلى الله عليه وسلم.  

         ولا يأخذنا التعجيب بعيدًا من هذا النموذج الأمثل, فظاهرة الخنساء ليست نسجًا من الخيال, ولا أسطورة من الأساطير, أو حالة نادرة لا يقاس عليها, فلدينا في انتفاضة الأقصى المباركة التي نعايش أحداثها صباح مساء عدد من الأمهات الخنساوات اللواتي كن يسابقن الزمن ليفوز أولادهن بوسام الاستشهاد! وكن يحكمن حول أجسادهم طوق الاستشهاد مع وصايتهم بألاّ يعودوا أسرى, بل شهداء! على أمل اللقاء بهم في نعيم الجنان! فالشهيد يُشفَّع في سبعين من أقاربه. وعندما يأتي نبأ الاستشهاد يستقبلنه بالتهاليل والزغاريد, وتوزيع الحلوى على المهنئين!

          فأيّ أم هذه التي تستقبل فقد ولدها بالفرح والزغاريد, وبين التي تستقبله بالتفجع والنحيب?! مع أن الفقد هو القاسم المشترك بين الحالتين!! لكن الإيمان في الحالة الأولى هو المحرك الوجداني والفكري للمقارنة بين البدائل, ولكل اختيار سليم!

          ولعلنا بعد هذا الطرح الذي أفضت فيه النتائج إلى المقدمات لا يساورنا الشك بأن صمت الخنساء عن رثاء بنيها لم يكن شذوذًا في عاطفة أمومتها, ولا (داخلاً في عداد المسكوت عنه في شعرنا العربي), كما رجح كاتب المقال الأستاذ فاروق شوشة, إنما هو منطلق إيماني ارتقى بها إلى مدارج الكمال الإنساني, إلى مستوى القدوة والتأسي.

 

رجاء بنت محمد عودة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات