قراءة نقدية في رواية (فتاة هايدلبرج الأمريكية)

عرض: أبوالمعاطي أبوالنجا

كيف يمكن للناقد أن يقترب من العمل الروائي الأول لشخصية عامة عمل صاحبها مرتين وزيرًا للتربية، أهم مؤلفاته كانت في العلوم الإنسانية، مثل «الخصخصة» و«الإصلاح المؤسسي سبيل مصر إلى المستقبل».. إلخ؟ هل هو مطالب بتقديم تفسير لهذا الظهور المتأخر لهذا العمل، أم أن عليه أن يتعامل مباشرة مع هذا العمل مادام يرى أنه يمثل قيمة في الحقل الجديد الذي ظهر فيه؟

 

ظاهرة الرواية الأدبية الواحدة ذات القيمة التي تظهر لمفكر بارز في حقل غير الأدب ظاهرة معروفة، من أهم أمثلتها رواية «قرية ظالمة» للدكتور محمد كامل حسين طبيب العظام المعروف، ومؤلف كتاب «وحدة المعرفة» البالغ الأهمية، المهم أن تكون الرواية التي أنجزها د.أحمد جمال الدين جديرة بالاهتمام النقدي، وقد تجعلنا نتطلع إلى أن تكون نقطة تحول في حياة صاحبها، فنتوقع منه رواية أخرى تستكمل الإجابة عما تثيره الرواية الأولى من تساؤلات؟!

ولا أظنه من قبيل المصادفة أن تتحدث السطور الأولى في رواية «فتاة هايدلبرج الأمريكية» التي نسعى إلى تقديمها للقارئ في هذا المقال عن شخصية «الدكتور أسامة زايد»، الذي يستغرق في مقعده بالطائرة التي تقله إلى نيويورك للمرة الأولى في حياته، تلبية لدعوة تلقاها لحضور مؤتمر علمي دولي، وفي أعماقه سؤال قديم متجدد حول رغبته في اكتشاف أمريكا على أرضها هذه المرة، أمريكا الحقيقية، والمقارنة بين واقعها وبين ما يصلنا منها وعنها، وإلى أي مدى يتفق هذا الواقع مع ما عرفه عن أمريكا من خلال علاقته

بـ «ماجي وليامز» الأمريكية التي التقى بها في «هايدلبرج» الألمانية مع شخصيات أخرى من شتى بقاع العالم، الذي أصبح يتأثر سلبًا أو إيجابًا بكل ما يجري في أمريكا، وخلال الرحلة بالطائرة إلى نيويورك يستعيد د.أسامة زايد وهو الشخصية المحورية التي توشك أن تكون قناعًا للمؤلف أحداث ووقائع رواية «فتاة هايدلبرج الأمريكية» وكأنه يحكيها لنا.

ألا تحرضنا مثل هذه الافتتاحية على أن نقرأ هذه الرواية، باعتبارها بالنسبة لأسامة زايد هي اكتشافه الأول لأمريكا في مدينة ألمانية هي «هايدلبرج»، ومن خلال فتاة أمريكية هي «ماجي وليامز» مع شخصيات أخرى من بلاد مختلفة، عبر الحدث الأعظم الذي وقع في 11 / 9 / 2001، أي بعد بداية أحداث هذه الرواية بشهور؟

في الفصول الستة الأولى من هذه الرواية، نتعرف من خلال الراوي (الضمير الثالث العليم بكل شيء) على ثلاث شخصيات رئيسية في هذه الرواية، هم أضلاع المثلث الذي يقوم عليه بناء هذه الرواية، هذا إلى جوار تعرف عابر على مجموعة الباحثين في هذا المركز العلمي المتقدم في جامعة هايدلبرج، بعضهم من الطلبة الألمان الذين يتعاطف أحدهم (بيتر شتنهوف) مع النازيين الجدد، والآخرون مبعوثون من أقطار عربية وإسلامية مختلفة، يعكسون صورة عامة في هذا المركز لما كان يحدث في مجتمعاتهم في الوقت الذي كانت تقع فيه أحداث هذه الرواية.

د.أسامة زايد الضلع الأول في هذا المثلث، مصري قادم من جامعة جرونوبل في فرنسا، ليعرض بعض ما توصل إليه من نتائج في بحثه للدكتوراه في الفيزياء النووية على الأستاذ هيلموت كاسل رئيس قسم الفيزياء في هذا المركز، في إطار ما بين الجامعات الأوربية من تعاون.

ماجي وليامز الضلع الثاني في هذا المثلث الروائي، فتاة أمريكية تدرس الأدب الألماني في جامعة هايدلبرج تلتقي د.أسامة زايد في دعوة عشاء مع أصدقاء وتقودها الانطباعات الأولى في هذا اللقاء إلى قبول دعوة د.أسامة لها للتنزه في طريق يحمل اسم ممشى الفلاسفة.

دافيد فرتمان ضابط شاب يعمل في المخابرات المركزية الأمريكية، كان يومًا زميل دراسة لماجي وليامز، لكنها لم تكن تستريح له بالرغم من تعلقه بها، تلتقيه هذه المرة في مصادفة تجدد آماله في التعلق بها، ولكن هذه المصادفة حين تأتي في الوقت الذي تنجذب فيه إلى أسامة زايد تبدو وكأنها عملت مثلثاً فيه عاشقان يبدأ في البحث عن ضلعه الثالث في شكل غريم.

 

الجغرافيا طريق لفهم الماضي والحاضر

المرات التي التقي فيها أسامة زايد مع ماجي وليامز كانت هي التي تختار أماكنها، كانت المرة الأولى أمام قلعة «هايدلبرج»، وكانت هي التي تقول له:

«هل تعرف أن تاريخ هذه القلعة يحكي قصة صراع البشر المتواصل من أجل سلطة لا تدوم، والضحية دائما هو الإنسان البسيط؟».

 وكانت المرة الثانية أمام كاتدرائية مدينة «سبير» التي اعتمدتها اليونسكو ضمن روائع التراث الإنساني العالمي، وكانت ماجي وليامز أيضا هي التي تقول:

«مرة أخرى يا أسامة نشم عبق التاريخ ونتعرف على مأساة البناء والتدمير المتوالية في تاريخنا البشري، لقد دُمرت هذه الكاتدرائية واحترقت وأعيد بناؤها العديد من المرات، دمرها الألمان مرات وكذلك الفرنسيون مرتين، في إطار الصراع الحاد بين الكاثوليكية والبروتستانتية!».

 وكانت ماجي وليامز أيضا هي التي تواصل في حديثها إلى أسامة:

«أنا لست كاثوليكية، وعائلتي بروتستانتية، ولكن بعد تأمل طويل في مسألة الدين توصلنا إلى أن مفهوم الدين إذا ركزنا على جوهره

لا يختلف كثيرا من عقيدة لأخرى!».

وكان أسامة زايد هو الذي يعقب هذه المرة على أحاديث ماجي المتدفقة المحبة:

«جوهر العقيدة واحد، لكن الصراع ينشأ لأسباب أخرى ربما منها الإحساس بالظلم أو السعي للسلطة والمغنم أو الرغبة في التميز أو رفض الجمود والفساد! قد تكون تلك الدوافع نبيلة أو غير نبيلة، لكن الصراعات التي تنشأ عنها تلتهم في كل مرة آلاف الضحايا والأبرياء!».

 كانت مثل هذه الحوارات تختصر المسافات والأزمنة بين الفتاة القادمة من أمريكا وبين الشاب القادم من أرياف الدلتا في مصر، ليكون اللقاء التالي بينهما في بيتها، وكانت هي الداعية هذه المرة لهذا اللقاء، وكان في صوتها وهي توجه الدعوة نبرة تنم عن شيء من القلق والحزن!

 وفي بحثه عن دواعي قلقها سألها:

- هل هي الغربة والبعد عن الأهل؟

 قالت: المسألة أكبر من هذا وذاك، لن تصدقني إذا قلت لك إن كل مآسي البشر في العالم تقلقني، وأفكر فيها كما أفكر في أموري الشخصيه؟! عندما كنت في أمريكا منذ سنوات عدة أتابع مذابح الإبادة الجماعية في رواندا، كنت لا أتوقف عن البكاء لعجزي عن فعل شيء يخفف آلام الضحايا الأبرياء، بعدها تكرر نفس الإحساس بالعجز مع مآسي الحرب في البوسنة!

 كان ما يسمعه د.أسامة زايد ويراه فوق قدرته على الاستيعاب والتحمل والفهم، قال لها دون تدبر:

- عزيزتي ماجي لم أر في حياتي كلها مثل هذا الحس الإنساني العميق والمخلص وبخاصة من....

- أمريكية.

- لم أقصد، لكني لا أخفي عليك أن لدينا في منطقتنا انطباعًا مختلفًا عن الأمريكيين، ربما بسبب مواقف حكوماتهم من البترول ومن الفلسطينيين!

- الحكومات تسبب عبر التاريخ الكثير من الأذى ليس فقط للآخرين، ولكن أيضًا لشعوبها ذاتها!

 إذا كان قوس العلاقة بين ماجي وليامز القادمة من أمريكا وأسامة زايد القادم من مصر يوشك في ظل هذه الحوارات المستمرة بينهما أن يلتقي طرفاه بقبولها دعوته لزيارته في باريس وبحديثهما المشترك والضافي عما يمكن أن يكون برنامجا لهذه الزيارة، برنامجا ينطوي الحديث عنه عما يفكر فيه كل واحد منهما بالنسبة للآخر! بما يعني إمكان التواصل ليس فقط بين شخصين بل بين عالمين!

 فإنه قد حان الوقت في إطار تقديمنا لملامح من هذه الرواية للقارئ أن نتوقف قليلا أمام الضلع الثالث في بناء هذه الرواية وهو «دافيد فرتمان».

 دافيد فرتمان الذي التقي زميلة الدراسة القديمة ماجي وليامز بالصدفة في أحد شوارع مدينة هايدلبرج، والذي استعاد بهذا اللقاء أملًا قديمًا في أنه قد ينجح هذه المرة في كسب ودها، وبخاصة أنه أصبح ضابطا في المخابرات المركزية الأمريكية يقوم الآن ببعض المهام في ألمانيا، لم يشعر باليأس تماما حين اعتذرت عن عدم قبول دعوته للغداء يوم السبت، لأنها مرتبطة بموعد مع صديق في طريق القلعة ربما بحكم المهنة قبع في مكان ما من الطريق، ليعرف شيئا عن هذا الصديق الذي جعلها تعتذر عن عدم قبول دعوته!

وحين رآهما يتجولان في طريق القلعة لم يستطع أن يكبح الشعور بالغيرة الذي يجتاحه وهو يرى الفتاة التي طالما حلم بها تخرج مع هذا الشاب ذي الملامح الشرقية، أيمكن حقا أن يصل الحال بماجي وليامز المتميزة بأصلها وجمالها وثقافتها الرفيعة لأن تسقط في هذا الاختيار؟! هو لا يعتبر نفسه عنصريا،

ولا يكره إنسانا لمجرد كونه من جنس آخر أو لون مختلف، لكن بالنسبة لماجي فالأمر يختلف!

لكن بسرعة يعود دافيد فرتمان إلى منهجه العملي في التفكير والسلوك، فيقرر أن يبدأ بجمع المعلومات اللازمة عن ماجي وليامز وصديقها، فيبدأ في التردد على المركز العلمي الذي يعمل فيه أسامة زايد، وهناك بطبيعة الحال يلتقي ببيتر شتنهوف الباحث الألماني المتعاطف مع النازيين الجدد، ليتكون بينهما نوع من الحلف الذي لا يرى في هذه المجموعة من الباحثين القادمين من البلاد العربية والإسلامية والعاملين في المركز سوى كارهين لنمط الحضارة الأوربية، وساعين لهدمها حين يمتلكون وسائل القدرة على ذلك!

ولا يتردد أيضا في الذهاب إلى الكلية التي تدرس فيها ماجي وليامز ليعرف عنها المعلومات الجديدة التي يمكن أن تكون قد فاتته، والتي قد تساعده على إنقاذها مما يمكن أن تتورط فيه في علاقتها بهذا الشاب ذي الملامح الشرقية، فهو يعرف أيضا أن هؤلاء الشبان الأجانب قد ينجحون في خداع فتياتنا بالهيام المصطنع والاهتمام المبالغ فيه!

إلى هنا ويمكن القول بأن كل ضلع في هذا المثلث الروائي قد وصل إلى نقطة ينتظر بعدها شيئا يعنيه.

ماجي وليامز الباحثة عن الاستقلال عن نفوذ أبيها الضابط الكبير في الجيش الأمريكي، والحالمة بعدل صعب التحقق، وأمن مستحيل، وفهم متبادل بين البشر، وقد بدأت تجد أطيافًا من ذلك في شخص أسامة زايد، وأسامة زايد يرى في ماجى وليامز حلما أمريكا لم يكن يتصور أبدًا إمكان وجوده وعلى قيد خطوات منه! ودافيد فرتمان الذي يرى أن حلمه القديم الذي يلتقي به صدفة بعد أن أصبح قادرًا على نيله، يأتي هذه المرة من هو في موقع العدو المتربص، ليغرر به ويكاد ينجح في اختطافه.

 

الحدث الأخطر الذي لم يكن ينتظره أحد

هو حادث الهجوم بطائرتي ركاب على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 / 9 / 2001.

من أفضل ما أنجزته هذه الرواية، أنها لم تتورط في وصف هذا الحدث الذي كان العالم يتابعه لحظة بلحظة، وأشارت بإيجاز إلى أن تليفون أسامة زايد هو الذي أيقظ ماجي وليامز وقد كانت نائمة، ليخبرها بما كان يراه على التلفزيون، وأنها هي التي صرخت حين رأت ما كان يحدث على الشاشة، وطلبت منه أن يأتي فورًا!

وأن ماجي هي التي كانت تهدئ من روع أسامة حين شعرت بعمق معاناته، حين بدأ يظهر من تعليقات المذيعين أن من قاموا بهذا الحدث هم متطرفون من تنظيم القاعدة!

ثم لقطة أخرى على أفراد التجمع الطلابي العربي في هايدلبرج ظهر فيها واضحا ذلك الاختلاف العربي الأزلي في تقدير الفعل ورد الفعل نتيجة لتعدد الانتماءات إلى تيارات سياسية أو دينية عقلانية أو متشددة!

وإن كان الشعور العام الذي كانوا يتفقون حوله هو القلق بشأن ما يتعلق بمستقبلهم في البلاد التي يدرسون فيها، أو حتى في بلادهم الأصلية!

أصبحت أمريكا التي كانت دائما نائية وبعيدة ويتطلع الناس للذهاب إليها هي التي تتحرك الآن لتطارد من تراهم خصومها في عقر دارهم!

دافيد فرتمان الضلع الثالث من المثلث في هذه الرواية هو الذي بدا وكأنه وحده هو الذي كان ينتظر هذا الحدث الأخطر الذي لم يكن ينتظره أحد، لقد جاءه على طبق من ذهب بذلك الدليل الدامغ على جدية الخطر الذي يمثله هؤلاء الطلبة العرب والمسلمون الذين يدرسون العلوم المتقدمة في جامعاتنا، والذي كان يتحدث عنه فلا يصدقه سوى بيتر شتنهوف، وكانت المعلومات التي بدأت تتسرب عن التحقيق في الحدث الأخطر عن أن محمد عطا أحد مدبري الهجوم على نيويورك والمشاركين فيه طالب دكتوراه مصري في هامبورج هو أحد أهم الأسباب التي جعلت مسئول المخابرات الأمريكية في «هايدلبرج» يوافق على الطلب الذي تقدم به دافيد فرتمان ليقوم بجمع معلومات عما يعتقده حول وجود خلية إرهابية كامنة في قسم الفيزياء في جامعة هايدلبرج، وبدأ تحت غطاء ذلك الإذن بالاتصال ببيتر شتنهوف الذي كان لا يقل عنه حماسًا بعد أن انضم إليهما فريق بحثي مكلف من مكتب المخابرات الألماني المحلي في هايدلبرج، والمعروف بمكتب حماية الدستور!

المشكلة أن دافيد فرتمان لم ينتظر ما يمكن أن تسفر عنه جهود فريق البحث والتحري حول حقيقة ما كان يظنه من وجود خلية إرهابية في قسم الفيزياء بجامعة هايدلبرج!

بادر بالاتصال بماجي وليامز ليقول لها بلهجة مصارحة: في الواقع أنا أعمل مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، لقد تقابلنا مصادفة ثم شاهدتك ذات مرة - عرضًا

أيضا - بصحبة شاب أجنبي تصادف أنني كنت أتتبعه، لأن لدينا معلومات عن ارتباطه بمنظمة إرهابية.

- أي شاب تقصد؟

- الشاب المصري أسامة زايد هو يدرس الفيزياء أليس كذلك؟

- أسامة إرهابي، هذا أمر يصيبني بالدهشة الشديدة لا أتخيله.

- هكذا الإرهابيون، لديهم مقدرة على التخفي، واصطناع صورة غير حقيقية عن أفكارهم ومشاعرهم، إن ما حدث في 11 سبتمبر يؤكد هذا السيناريو، ألم يكن معظم المشاركين يتلقون العلم في أفضل الجامعات الأوربية؟

 ألم تظهر إفادات الزملاء والجيران أن سلوك هؤلاء كان دائما مثاليا وفوق الشبهات، ألم يعبر أصدقاؤهم وذووهم عن هول مفاجأة اكتشاف كون هؤلاء الأصدقاء والأبناء قد أخفوا بعناية لسنين وشهور حقيقتهم الإرهابية؟!

 ارتبكت ماجي وأصابها الوجوم، هل يتعين عليها أن تصدق معلومات دافيد وتحليله المنطقي أم تثق في مشاعرها وأحاسيسها تجاه الشاب الذي لم تر منه منذ لقائهما الأول سوى المشاعر الإنسانية الصادقة والطيبة؟

 أحست تحت نظرات دافيد بالرعب والخواء، هل إلى هذا الحد أصبح العالم الذي تعيش فيه غير آمن؟!

 كيف تستوعب هذا الذي يؤكده دافيد، وقد رأت بنفسها حزن أسامة العميق لما حدث في نيويورك؟

 كانت قد اتخذت قرارها بمواجهة أسامة وليكن ما يكون، فهي لم تخف أحدا من قبل ولهذا لن تخشاه حتى لو كان حقا إرهابيا!

 ربما توقع دافيد ما دار في تفكير ماجي ورد فعلها المحتمل، لهذا فاجأها بطلب محدد هو عدم إبلاغ أي شخص آخر بمضمون حوارهما، خاصة أسامة زايد وإلا فإنها ستعرض للخطر تحرياته وربما حياته وحياة زملائه والمصالح العليا لأمريكا!

زاد وجوم ماجي وطفرت دمعتان من عينيها وكادت تبكي من الألم والفزع النفسي الذي تغلب عليها، ورغبت في أن تصفع دافيد وكذلك أسامة، وكل من يتسبب في زعزعة سكينتها والعبث بصفاتها الذاتية!

همهمت ماجي أنها ستحتفظ بسرية هذا الحديث، ولن تقابل أسامة حتى ينتهي من تحرياته، ثم انتفضت مغادرة مقعدها رافضة اصطحاب دافيد لها، يتملكها دافع شديد للهرب من الجميع!

كيف واجهت ماجي أزمتها الروحية تلك؟ ماذا حدث لأسامة زايد وبعض زملائه من الباحثين العرب أمام لجان التحقيق التي انعقدت للبحث عن حقيقة ما ردده دافيد عما يمكن أن يكون لهم من علاقات مع تنظيمات إرهابية؟!

الصفحات التي تقدمها الرواية بعد تلك اللحظة تبلور ذلك النوع الرفيع من المعرفة، الذي لا يقدمه سوى الأدب الروائي الراقي، المعرفة التي تغير من طريقة إدراكنا للأشياء ولما يجري من حولنا! ماذا يحدث داخل الإنسان حين تهب رياح الفاشية العاصفة فتدمر ذلك الجهاز الحساس الذي يتكون في داخل الإنسان عبر تجارب الزمن، ليقول له في المواقف الملتبسة ماذا يختار؟ وماذا يفعل؟ وبمن أو بماذا يثق؟ وكيف يمكن للإنسان أن يعبر أزمته ليعود لبوصلته الداخلية صفاؤها وقدرتها على إدارة دفة الحياة؟!

تصور هذه الصفحات رحلة المشي على الصراط، التي قطعتها ماجي وليامز عندما استجابت لدعوة فريق البحث والتحرى الألماني لأخذ شهادتها حول ما تعرفه عن أسامة زايد، وحين أدركت أن شهادتها القوية الواثقة التي أدلت بها أمام اللجنة هي التي كشفت لهم خواء مزاعم دافيد فرتمان!

ظنت لبعض الوقت أن المشكلة في طريقها للحل، وأسامة في طريقه لبيته، ولكن ما حدث هو أن دافيد فرتمان نجح في إقناع رؤسائه في المخابرات الأمريكية، بأن مسئولية هذا التحقيق ينبغي أن تكون لهم، وأنهم الأقدر على الوصول إلى الحقائق الخافية في هذه القضية بطرقهم الخاصة، التي لا تريد المخابرات الألمانية أن تستخدمها، بحجة أنها غير قانونية!

وهنا لم تجد ماجي وليامز مفرا من أن تلجأ إلى أبيها الضابط الكبير في الجيش الأمريكي لإنقاذ أسامة، الذي كان كل ذنبه أنه كان صديقًا لها!

قالت له الحقيقة كاملة كما تراها، وأبدت أسفها لما قد تسببه له من حرج، وطلبت منه أن يتأكد هو من الحقيقة بطريقته، فهي على ثقة بأن دافيد فرتمان هو وراء كل ما يحدث لأسامة هذا! وهي لا تريد أن يضار إنسان بسببها!

بعد وقت أخبرها أبوها بلهجة لا تخلو من حنان ومن حسم أنه سوف يتم الإفراج عن أسامة زايد، وأنه سيكون عليه أن يغادر «هايدلبرج» خلال يومين، وأنه عليها هي أن تعود إلى أمريكا لتعيش في كنفه.

كانت طوال عمرها تبحث عن الاستقلال والحرية، وكانت تعتقد دائما أن عليها أن تدفع عن طيب خاطر الثمن الذي يتطلبه الاستقلال والحرية!

ولكن حين لم تكن شهادتها وحدها أمام لجنة التحقيق الألمانية كافية لإنقاذ أسامة فقد كان عليها أن تقبل في نهاية الأمر – ولو إلى حين – ذلك القدر من الحرية الذي يكافئ ما استطاعت أن تدفعه من ثمن، وكان ذلك التغير في إدراك أن لكل حرية حدودها الموقوتة في الزمان والمكان، هو جزء لا غنى عنه لاستعادة البوصلة التي تعيد للإنسان قدرته على إدارة الحياة الممكنة فوق هذا الكوكب!.
----------------------------------
* كاتب وقاص من مصر.

                               ----------------------------------------

وأَنا في وحشَة المَنفَى

مَع الداءِ الذي ينثرُ لَحْمي

ومع الصمت وإِيقَاعِ السُّعالْ,

أنفُض النومَ لَعلِّي أَتَّقي

الكابوسَ والجِنَّ التي تحتلُّ جِسْمي

وإِذا الليلُ على صدري جلاميدٌ,

جدارُ الليلِ في وجهي

وفي قلبي دخانٌ واشتعالْ,

آهِ ربِّي! صوتهم يصرخُ في قبري:

تعالْ!!

خليل حاوي