ذات يوم من أيام الثلاثينيات الأولى, وقف الطفل علي
الراعي في شرفة منزله في مدينة الإسماعيلية, فشاهد على الجدار المقابل للشرفة
ملصقاً ضخماً بهر الفتى بألوانه الصارخة, وبسطوع ملامح شخصيات الفيلم, ولا يذكر
الدكتور علي الراعي الناقد الكبير الذي رحل عن دنيانا في شهر فبراير من العام 1999
اسم الفيلم, لكنه يخبرنا أنه كان من بطولة يوسف وهبي الذي كان أحد ملوك المسرح في
ذلك الحين. ويمضي قائلا إنه لم يهدأ في ذلك اليوم حتى تمكن من الحصول على ثمن تذكرة
الدخول إلى الفيلم الذي ظل يحفظ مقاطع من حواراته حتى أواخر أيام حياته.
لقد سحر الفن وعالمه, وبخاصة المسرح, منذ تلك اللحظة تلميذ المدرسة
المجدّ, والذي كانت له مكانة خاصة في قلب أستاذه الشيخ حسن البنا مؤسس حركة الإخوان
المسلمين, فقد كان الشيخ البنا في ذلك الحين مدرّساً في إحدى مدارس بلدته
الإسماعيلية, وقد بدأ لتوّه في التبشير لدعوته الإسلامية.
كان ذلك هو السحر, أما الحياة فقد كانت تسير في اتجاه آخر, اتجاه يربط
بين الثقافة والنضال التحرّري والاجتماعي, ويعطي المثقف دوراً في حركة المجتمع
والناس, وكانت المنظمات اليسارية التي بدأت تنشط في مصر في ذلك الوقت هي العنوان,
وفي مجلة (الفجر الجديد) التي كانت تصدرها إحدى هذه المنظمات, بدأ علي الراعي
كتاباته الأدبية داعياً المثقفين إلى النزول من أبراجهم العاجيّة, وترجم أشعار
ماياكوفسكي ولانغستون هيوز وغيرهما من روّاد (الأدب الثوري). لكنه, وهو المطلع على
الآداب العالمية لم ينس الإنجاز الأدبي في مصر, فكتب بعض أهم الدراسات حول الشعر
المصري وتطوّره من ثورة 1919وحتى الأربعينيات.
ولم تكن تلك غير واحدة من دراسات عدة كتبها علي الراعي مرة باسم علي
الكاتب ومرة باسم حسن زاهر.
الراعي... مذيعاً
وفي نهاية الأربعينيات, يتخرج علي الراعي في قسم اللغة الإنجليزية في
جامعة القاهرة, ويعمل مذيعاً في قسمها الإنجليزي ويتدرج في المناصب حتى يصبح
مسئولاً عن القسم. لكنه يذهب في بعثة دراسية إلى بريطانيا ليكمل دراسته العليا,
فيحصل على الدكتوراه في مسرح برنارد شو من جامعة برمنجهام, ويعود إلى مصر بعد ثورة
23 يوليو في وقت كانت الثورة الفتية تحاول أن تنشئ وزارة للثقافة. وكان من نصيب علي
الراعي - الذي زامل كلا من نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير ويحيى حقي في (مصلحة
الفنون) التي أنيطت بها مهمة تأصيل الفنون الشعبية, فكانت تحدّياً للراعي الذي كان
يطالب المثقفين بالنزول من أبراجهم العاجية - أن يضع الخطوات العملية لذلك, فساهم
في إنشاء فرقة للرقص الشعبي وكذلك في إنشاء عدد من الفرق المسرحية في واحدة من أكثر
فترات المجتمع المصري حيوية. ففي الوقت الذي كان فيه الراعي يؤسس فرقاً راقصة
ومسرحية شعبية كان يتولى مسئولية الإشراف على الملحق الأدبي لصحيفة المساء التي
يرأس تحريرها خالد محيي الدين, والتي كانت بؤرة تجمّع للمثقفين اليساريين المصريين.
ومن مدرسة المساء, خرجت أهم وأبرز الأسماء الأدبية المصرية التي عرفت في الخمسينيات
والستينيات. وفي العام 1962 تولى رئاسة مؤسسة المسرح والسينما حتى العام 1969, وهي
أخصب سنوات المسرح المصري على الإطلاق. وفي العام 1971 تسلم رئاسة دار الهلال لمدة
شهرين قبل أن يترك المناصب الرسمية إلى الأبد ويغادر إلى الكويت ليبقى هناك نحو عشر
سنوات, ويعود بعد ذلك إلى القاهرة متفرّغاً للكتابة الأدبية في الصحف والمجلات حتى
رحيله في شهر فبراير 1999 عن ثمانية وسبعين عاماً.
كانت تلك هي الملامح الأساسية لمسيرة علي الراعي, وهي ملامح تبدو
شديدة الانقسام من زاوية ما, وشديدة التناقض من زاوية ثانية. فمن الزاوية الأولى
هناك اطلاع على الأدب العالمي, وتعامل مع اللغة الإنجليزية عبر الإذاعة, يتحوّل إلى
تخصص في واحد من أكبر كتّاب المسرح في العالم هو برنارد شو. وارتباط بحركة ثقافية
ذات نزعات تقدمية في أول حياته تتحوّل إلى مساهمة حقيقية في تأسيس مسرح ذي اهتمامات
اجتماعية وشعبية تعطي الفن المسرحي مضموناً تقدّمياً, وهذا عين ما كان يدعو له في
مقالاته في مجلة الفجر الجديد في الأربعينيات.
ومن زاوية ثانية هناك تناقض يعبر عنه ذلك التردد من جانب علي الراعي
بين ثقافة عالمية رفيعة المستوى بدأ في مراكمتها منذ أيام الشباب الأول حتى غدت
شامخة البنيان فيما بعد, وبين اهتمامات شعبية صرفة جعلته ينهمك في تأسيس فرقة للرقص
الشعبي الفولكلوري في العام 1957 من دون ترفّع. كما أن هناك تناقضاً بين التحصيل
الأكاديمي الرفيع, وحياة عملية خاض خلالها غمار العمل اليومي المباشر بين المسارح
والفرق الشعبية ومؤسسة السينما التي بدأ فيها تجربة لم تكتمل مع المخرج السينمائي
الراحل صلاح أبو سيف.
وهناك تناقض آخر يمكن تتبعه بين ذلك التحصيل الأكاديمي العالي
واشتغاله بالصحافة اليومية مشرفاً على الصفحة الثقافية في صحيفة المساء, كما أشرنا.
كما أن هناك تناقضاً ظاهرياً آخر سيظل يحكم إنجازات علي الراعي حتى آخر حياته, فقد
كان كتابه الأول عن مسرح برنارد شو, أما كتابه الثاني, وهو الذي ارتبطت حياته
واهتمامه بالمسرح, فكان عن الرواية, وقد حمل عنوان (دراسات في الرواية
المصرية).
بحثاً عن الجمال
غير أن ما قد يبدو تناقضاً في مسيرة علي الراعي, إنما هو مكوّن أساسي
لتجربته الثرية, فقد كان لديه من الصفاء الذهني والتفتّح الفكري على الحياة وعلى
الفن والأدب ما جعله قادراً على مصالحة هذه المتناقضات في ثنايا عقله المبدع وصهرها
في بوتقة فكره المتوهّج, فقد كان على درجة من الانفتاح جعلته وهو المتأثر بالفلسفة
الماركسية منفتحاً على التيارات الأخرى. وبالرغم من أنه تسلّم الصفحة الثقافية
لصحيفة المساء اليسارية في الخمسينيات, وهي فترة علا فيها الصوت الأيديولوجي على ما
عداه, وتقدم الاجتماعي والسياسي على الفني, بقي علي الراعي هادئاً صافياً سواء في
لغته النقدية التي حملت نفساً إبداعياً ميّزه عن سواه من نقّاد تلك الفترة المضطربة
من حياة مصر والعالم العربي السياسية, أو في مقارباته النقدية العميقة التي ابتعدت
عن (الأحكام) التي كانت سمة الكتابات الأدبية في ذلك الوقت. وقد استمر على منواله
هذا حتى النهاية, فقد كانت دراساته النقدية أقرب إلى محاولات للبحث عن مواطن الجمال
في الأعمال الإبداعية من شعر ورواية ومسرح. وقد تطوّرت هذه الروح إلى نوع من التبني
للأعمال الواعدة وتقديمها للقارئ الذي وثق بذوق الراعي الرفيع وفكره النيّر ونزاهته
الأدبية. وربما عاب بعض النقاد على الراعي (مجاملته) بعض الأعمال التي كان ينقدها,
لكن هؤلاء لم يدركوا أن الراعي لم يكن هاويا لإبراز (العضلات النقدية) كما يفعل
نقّاد آخرون, بل إنه كان يبحث عن مواطن الجمال في المنتج الإبداعي العربي, وهذا ما
جعله في السنوات الأخيرة من حياته يكرّس جهده للكتابة عن الأعمال التي يحبّها ويرى
فيها ما يبرز تقديمها للقارئ العربي.
ومثلما كانت حياة الراعي ثرية وخصبة ومتنوعة, كانت تجربته الأدبية على
الدرجة نفسها من الثراء والخصب والتنوّع, فالراعي معروف للقرّاء بأنه أبرز نقّاد
المسرح العربي ومؤرخيه, وذلك من خلال تلك الأعمال التأسيسية التي كتبها في مجال
المسرح العربي وتأريخه, ففي الستينيات كتب الراعي (ثلاثيته) في التعريف بالمسرح
والتأريخ له, والمكوّنة من كتبه (الكوميديا المرتجلة) و (فن الكوميديا من خيال الظل
إلى نجيب الريحاني) و (مسرح الدم والدموع), وفي هذه الكتب الثلاثة المهمة لم يكن
علي الراعي ناقداً للمسرح المصري الذي كان يعيش أزهى فتراته آنذاك, ولم يكن يؤرخ
لأشكال الفرجة التي عرفها العرب قديماً بل كان يبدأ مشروعه الكبير في التنظير لشكل
مسرحي عربي الملامح, منطلقاً من صلة وضع يده عليها بين فنون الفرجة القديمة التي
عرفتها المجتمعات العربية في فترات متفرّقة من تاريخها مثل خيال الظل والأراجوز, أو
القراقوز كما يسمى في بلاد الشام, وبين المسرح في شكله الجديد الذي أخذه العرب عن
أوربا, فالمسرح هو في الأصل من فنون الفرجة, تماماً مثل فن السامر وفن خيال الظل
والقراقوز, وهي أشكال يمكن استخدامها, في المسرح, تماماً كما أنه من الممكن استخدام
السينما والفانوس السحري وغيرهما, وتطويعها للفن المسرحي. وبذلك اختلف مع الروائي
والمسرحي يوسف إدريس الذي بحث عن شكل عربي للمسرح في فنون الفرجة الشعبية الأخرى
مركّزاً على فن السامر الذي يتحوّل فيه الجميع مشاهدين وممثلين إلى مشاركين في
العمل الفني. وهو ما حاول تطبيقه في مسرحيته الشهيرة الفرافير.
مسرح ورواية عربيان
وانطلاقاً من نظرته هذه إلى فن المسرح وأصوله, وقف علي الراعي مع
المحاولات المسرحية التي انطلقت من فكرة إيجاد شكل عربي للمسرح, وليس مسرحاً عربياً
على أي حال, أينما ظهرت مثل هذه المحاولات في لبنان أو في المغرب, في مصر أو في
تونس, في فلسطين أو في الكويت أو في أي بلد عربي, فقد كان علي الراعي مهموماً
بالمسرح العربي عموماً وليس بالمسرح المصري فقط. غير أنه بنزاهته وانفتاحه, لم يكن
ينطلق من نظرة جامدة ومتعصّبة إلى هذه الفكرة, بل كانت, مثل كل شيء آخر في الوجود
فكرة قابلة للنقاش وللمزيد من البحث لإغنائها وإثرائها, وكان يرى أن المحاولات
المسرحية التي تنطلق من فكرة إيجاد شكل عربي للمسرح والتنظير والنقد المرافق لها
محاولات تستحق التقدير والتشجيع, وحتى لو لم (تثبت) النظرية المذكورة, فإنها تضيف
تجارب جديدة إلى التجارب المسرحية الأخرى فتعطي المسرح العربي تنوّعاً وثراء يحتاج
إليه لينمو ويأخذ مكانته على خريطة المسرح العالمي.
وفي الوقت نفسه الذي كان فيه علي الراعي يراقب المسرح وتطوّراته بعين
نافذة ناقدة, كانت عينه الأخرى على الرواية, ذلك الفن الذي تابعه - كما رأينا - منذ
بداياته الأولى. ومثلما قام علي الراعي بدور الناقد والمؤرخ بالنسبة للمسرح, فإنه
قام أيضاً بدور الناقد والمؤرخ بالنسبة للرواية, وانطلاقاً من النظرة نفسها تقريباً
التي نظر بها إلى المسرح, عاد الراعي إلى التاريخ العربي القديم ليكتشف بعض أشكال
القص خارج قصص ألف ليلة وليلة, فقد وجدها في مقامات الحريري وبديع الزمان الهمذاني
والتي اعتبرها شكلاً قصصياً بدائياً, تماماً مثلما كانت الرواية التشرّدية التي
تتحدث عن الأفّاقين والمحتالين, في بعض وجوهها إحدى البدايات المبكّرة للرواية
الأوربية. ولكنه بالعقلية نفسها لم ينطلق من نظرة جامدة أو متعصّبة لهذا الأمر إذ
كان يشجع المحاولات الروائية التي ابتعدت عن الشكل الأوربي للرواية, واستخدمت
أسلوباً أقرب إلى أساليب القص والرواية العربية وبخاصة ما فعله الروائي الفلسطيني
الراحل إميل حبيبي في روايته الشهيرة (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس
المتشائل).
الحقبة الكويتية
خلال إقامة علي الراعي في الكويت, استطاع أن يجد من الوقت ما يمكنه من
إنجاز بعض أهم كتبه, فقد حضر إلى الكويت تاركاً المناصب الحكومية والأكاديمية
ليرتاح من عناء العمل اليومي, وهناك تمكّن من تخصيص وقت كاف للمسرح, وفضلاً عن حالة
الازدهار التي كان يعيشها المسرح الكويتي في تلك الفترة من السبعينيات, كانت الكويت
بؤرة للنشاط المسرحي العربي, وهو ما مكّن الراعي من مشاهدة كمّ كبير من التجارب
المسرحية العربية وغير العربية التي قدمت عروضها في الكويت في تلك الفترة.
وقد كانت حصيلة هذه الفترة الغنية التي عاشها الراعي في الكويت كتابه
الشامل عن المسرح, والذي صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية تحت عنوان (المسرح في
الوطن العربي). وفيه تتبع النشاط المسرحي في كل بلد عربي في نشأته ونموّه, وقدم
أبرز إنجازاته وأهم ملامحه. والكتاب اليوم مرجع لا غنى عنه لكل مَن يود معرفة شيء
عن المسرح العربي في أي من البلدان العربية.
أما القسم الآخر من نشاطه, فقد كرّسه للقراءة وبخاصة في مجال الرواية
العربية مستفيدا من وجود جاليات عربية عدة في الكويت. وقد منحه وجوده في الكويت
التي كانت (معملاً للهجات العربية المختلفة) كما كان يقول, القدرة على قراءة أعمال
روائية من بلدان عربية أخرى وفك رموز اللهجات المحلية المستخدمة فيها مهما بلغت من
صعوبة. وهناك اكتشف الراعي مدى غنى وثراء الإبداع العربي في مجال الرواية فتعرف على
الرواية العراقية والفلسطينية والمغربية والجزائرية والسورية وغيرها.
وانطلاقاً من قراءاته تلك في مجال الرواية العربية, وضع الراعي كتابه
المرجعي الآخر الذي منحه اسم (الرواية في الوطن العربي) الذي صدر في أعقاب عودته من
الكويت إلى مصر. وفي هذا الكتاب, قدّم الراعي الرواية العربية إلى القرّاء المصريين
الذين ربما لم يكونوا على اطلاع جيد على إنجازاتها في باقي أنحاء العالم العربي,
وذلك من خلال إبداعات أكثر من سبعين روائياً ينتمون إلى جميع أقطار العالم العربي
تقريبا.
لكنه لدى عودته إلى مصر, اكتشف أن جيلاً جديداً من الروائيين المصريين
قد ظهر في أثناء فترة غيابه, وأن هذا الجيل حقق إنجازات جديرة بالاحتفاء والتقديم,
وهو ما لم يتردد في القيام به, فوضع كتابه (دراسات جديدة في الرواية المصرية)
معرفاً بهذا الجيل الجديد من الكتّاب المصريين.
المسرح وهمومه
على الرغم من الاهتمام الكبير الذي أولاه الراعي للرواية, فإن المسرح
كان في واقع الأمر عشقه وهمّه وعذابه الخاص, وعن هذا العشق الذي بدأ منذ رأى, وهو
بعد فتى صغير, ذلك الإعلان الغريب من شرفة منزله, كتب علي الراعي آخر أعماله, وهو
كتاب (هموم المسرح وهمومي) والذي يروي فيه قصة تلك العلاقة الفريدة مع هذا الفن
الذي لم يرتبط اسم ناقد عربي آخر به مثل ارتباط اسم علي الراعي. وقد جاء هذا الكتاب
ليكون أقرب إلى شهادة أخيرة من رجل عشق المسرح وتابعه منذ المسرحيات الصارخة في
سذاجة مواضيعها وفي تعليميتها وإنشائية حواراتها, مروراً بازدهار المسرح وتألقه في
الستينيات على أيدي نعمان عاشور وألفريد فرج ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي, وحتى
سقوطه أخيراً في أيدي مقاولي الفن وتجّار النكتة في الثمانينيات والتسعينيات.
وبغياب علي الراعي عن الساحة الأدبية, انتهت قصة عشقه المعذب للفن
والمسرح, وقصة بحثه المضني عن الجمال في المسرح, كما في الرواية, وفي مصر كما في أي
بلد عربي آخر, فقد كان الجمال ضالة هذه القيمة الأدبية النادرة في نزاهتها
وإخلاصها