يتناول الكتاب ظهور الغجر الغامض في أوربا منذ ما يقرب من تسعة قرون
مضت, حيث رفض الغجر طوال هذه المدة الانخراط في حياة المجتمعات التي يعيشون فيها,
وظلوا قوماً ذوي ثقافة وعادات تحوم حولها الشبهات والملابسات, يتمسكون بهويتهم
المستقلة ويمعنون في رفض المألوف. كما أن الكتاب يسلط الضوء على جذور الغجر في
الهند ويتتبع هجراتهم منذ أوائل العصور الوسطى حتى وقتنا الحالي ماراً بالشرق
الأوسط وأوربا والعالم. برع الغجر طوال تاريخهم في الموسيقى والأعمال المعدنية
وقراءتهم للطالع والعلاج وتجارة الخيول. يصف المؤلف موقف الغجر المتحيز في مواجهة
الشعوب التي يتقابلون معها, مما عرضهم للاستعباد والمضايقات والخروج عن القانون
والمطاردات. وبالرغم من كل المعوقات فإنهم نجحوا في الاستمرار في الحياة والحفاظ
على تراثهم وثقافتهم المتميزة التي اجتازت كل الحدود القومية.
اختلفت الأراء حول مفهوم اسم الغجر (Gypsy or Gispy) حيث أطلق على
أعضاء من جنس الجوالين, من جذور هندية, ظهروا أول ما ظهروا في إنجلترا في بداية
القرن السادس عشر, واعتقد فيما بعد أنهم قدموا من مصر. وجاء وصفهم كما يلي: يتميزون
ببشرة صفراء داكنة وشعر أسود. يطلق على لغتهم اسم (Romany) وهي عبارة عن لغة عامية
مفككة للغة ال Hindi ممزوجة بالعديد من الكلمات من لغات أوربية مختلفة, وقد اتسعت
فيما بعد كلمة غجر لتشير إلى أي مجموعة من الرحل أو الخارجة على الأنماط السائدة
للمجتمع.
الغجر.. إنثروبولوجياً
لم يكتب شيء يذكر عن الغجر خلال النصف الأول من تاريخهم, لاسيما بعض
الكتابات التي ساهمت في تتبع خط سير الغجر, ورويداً رويداً تعددت الكتابات التي قام
بها أشخاص من خارج مجتمعات الغجر والتي حملت في معظمها جهلاً بتاريخ الغجر وتحاملاً
عليهم وعدم إدراك لهويتهم. ثم بدأ الباحثون في الاتجاه نحو دراسة لغة الغجر
باعتبارها قادرة على كشف الكثيرمن الجذور والتطورات, فكانت هناك صعوبات تواجه هذا
التوجه البحثي حيث لم تكن هناك لغة مكتوبة بل كان هناك مزيج من اللهجات, وإن وجدت
بعد ذلك بعض الكتابات التي خضعت للدراسات المقارنة ودراسة علم الصوتيات حيث تداخلت
اللغات المستخدمة.
إذن فاللغة ليست الضامن لوجود علاقة عرقية بين المجموعات المختلفة.
وهكذا بدأت الدراسات الانثروبولوجية في الظهور على ساحة البحث في جذور الغجر والتي
ظهر من خلالها تحديد المواصفات الجسمانية لهؤلاء القوم. لكن التنوع الكبير في
الصفات الجسمانية التي واجهت هذه الدراسات أدى إلى صعوبة إطلاق التحديدات حول جذور
هؤلاء القوم.
أخذت هذه الدراسات في التوسع ولكن بالاستعانة بأساليب تكنولوجية جديدة
مثل أخذ عينات الدم والبحث في الجينات الوراثية التي ظلت غير حاسمة. وتظل هناك
مظاهر عرقية متداخلة في اللغات واللهجات المستخدمة عند التعبير عن بعض المهن
والخصائص مثل اللهجة (الرومانية) في سوريا أو في أرمينيا أو في بلاد الفرس أو في
أوربا.
جذور بلا أرض
يبدأ المؤلف في تتبع الهجرات الأولى بادئاً ببلاد فارس, مشيراً إلى
اكتشاف بعض النصوص التي ساهمت في الدخول إلى عالم الغجر القديم. أشار المؤلف إلى
المؤرخ العربي حمزة الأصفهاني الذي يحكي عن السلطان الفارسي بهرام جور, الباحث
الشهير في رباعيات عمر الخيام, والذي قرر أن يعمل رعاياه نصف يوم فقط وتمضية النصف
الآخر في شرب الخمر وسماع الموسيقى. تصادف في أحد الأيام أن رأى مجموعة تشرب الخمر
وقد خلت الجلسة من الموسيقى, وحين سأل علم أن السبب يرجع إلى عدم توافر الموسيقيين,
مما حدا السلطان على أن يرسل إلى ملك الهند طالباً منه إرسال 12 ألف موسيقي, تم
توزيعهم في كل أرجاء المملكة الفارسية ومن ثم تزايدوا مع مضي الوقت.
ويتبع المؤلف هذه الرواية بأسطورة أخرى تنفصل عن الأولى بنصف قرن
أخذها من كتاب الملوك الشاه نامة للفردوسي والتي أنجزها في عام 1010. تشير هذه
الأسطورة أيضاً إلى طلب بهرام جور من ملك الهند أن يرسل له الموسيقيين وأصحاب مهن
الترفيه المعروفين باسم Zotti وهي جمع zott واسم Luli أو Luri الذي يطلق على الغجر
فنجدها في بلاد فارس وسوريا وفلسطين ومصر كما نجد مشتقات من هذه الأسماء مثل (نوري)
التي تطلق على الغجر في مصر.
يلجأ المؤلف فيما بعد إلى السجلات وعلماء الجغرافيا ليتعرف على العديد
من الوقائع التي تكشف عن عمليات النقل التي تعرض إليها سكان الهند إلى بلاد مثل
بلاد فارس وبلاد أخرى وخدمتهم في الجيش الفارسي في فترة التوسع العربي في القرن
السابع وتركهم للخدمة عند أفول نجم ملك الفرس متوجهين إلى الجانب العربي ودخولهم
الإسلام ومكوثهم في البصرة. كان ينظر إليهم في بلاد فارس باعتبارهم دخلاء مما كان
له تأثير في تعلمهم لغة هذه البلاد بغرض التعامل مع من حولهم من السكان.
يروي المؤلف عن توجه الغجر إلى أرمينيا بعد بلاد فارس بعد أن خضعت
لسيطرة العرب في القرن السابع عشر, كما أشار إلى احتمال مكوثهم هناك فترة
طويلة.
كانت شهية السلاجقة للحرب شديدة النهم بالإضافة إلى نمو قوتهم بشكل
لافت للنظر, تسبب غزوهم لأرمينيا في تفكك الشعب الأرميني مما يعزز توقع توجه الغجر
إلى الأراضي الغربية لبيزنطا القسطنطينية والتي شكلت نقطة الانطلاق نحو البلقان ومن
ثم إلى أوربا.
ويرجع بعض الكتاب البيزنطيين اسم الغجر إلى المصريين, حيث وصفوا فرقة
من المصريين الذين يلعبون الأكروبات والألعاب البهلوانية الذين ظهروا في
القسطنطينية في بداية القرن الرابع عشر ثم رحلوا إلى مقدونيا وإسبانيا فيما
بعد.
حين ظهر الغجر في أول الأمر انتشرت الأقاويل والشائعات بشأنهم,ارتبطت
أعمالهم بأعمال السحر وقراءة الطالع وتدريب الثعابين لكن تظل وجهة النظر هذه مقصورة
على المجتمع الذين يعيشون فيه, لكننا لن نتعرف أبداً على ما يبدو على وجهة نظر
الغجر أنفسهم في هذه المجتمعات.
إن انتشار الغجر في القسطنطينية وسولونيكا والمورا وآسيا الصغرى
وصربيا وجنوب اليونان إنما حدث بالفعل قبل غزو الأتراك العثمانيين لهذه المناطق
والتي عرفت فيما بعد بيوغوسلافيا, ورومانيا, وربما كان لهذا الغزو أثر في هجرات
الغجر من مكان إلى آخر.
الخدعة الكبرى
يقول الكاتب إن مع نهاية القرن الرابع عشر أصبحت المملكة المجرية
القوة العظمى الأوربية التي تواجه العثمانيين, توسعت هذه المملكة لتتجاوز الحدود
المعروفة الآن للمجر لتشمل ترانسيلفانيا وأجزاء كبيرة مما عرف في القرن العشرين
باسم يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. لم يعرف حتى الآن على وجه التحديد زمن ظهور الغجر
في هذه المناطق إلا أن اسم الغجر هذا ارتبط أحياناً بأسماء عائلات وأسماء قرى.
يستمر المؤلف في سرد التغييرات المفاجئة التي طرأت على تصرفات الغجر خلال سنة 1417
والتي سميت بالخدعة الكبرى. تشير الدلائل إلى قيام الغجر بالاستيلاء على أموال
كبيرة عن طريق الخداع, كانت أكبر خدعة هي التي حدثت في القرن الخامس عشر في أوربا
الغربية حيث ظهروا فجأة ليس باعتبارهم من الفارين أو الرحل بل باعتبارهم من الوجهاء
الحاملين لألقاب النبلاء الرنانة. وبالرغم من التحول السياسي الجاري آنذاك وحصولهم
على خطابات حماية من الملوك, سرعان ما عاد الموقف إلى ما كان عليه نظراً لنظرات
الشك المستمرة لهؤلاء القوم من قبل السكان, التي كانت في كثير من الأحيان تطابق
الواقع لقيام هؤلاء القوم بالعديد من السرقات وأعمال النهب. تشكلت قيادات من الغجر
حاملة لهذه الألقاب النبيلة لتقود مجموعات منهم فاستطاعت أن تحتل موقعاً اقتصادياً
واجتماعياً متميزاً بل إنها كانت أيضاً تقوم بإضفاء الحماية عليهم.
يروي المؤلف كيف يتحول الشكل الغجري إلى رمز للغرابة والغموض ويعدد
الكثير من الرسومات المعبرة عن هذا الاتجاه خاصة في إيطاليا
استمرت خلال المائتي سنة التالية من منتصف القرن السادس عشر إلى نهاية
القرن العشرين ذات النظرة المريبة تجاه هؤلاء القوم, بل وزادت الضغوط عليهم حتى أن
السلطات الرسمية لم تستطع التأقلم والتعامل معهم فازدادت المعاملة سوءا, وتعددت
أشكال الاضطهاد. يروي المؤلف كيف بدأت بعض الدول مثل إسبانيا في رفع مستوى الغجر
عبر سلسلة من الإجراءات المشددة تنظم إقامتهم وتنقلاتهم والأعمال التي يمكن أن
يشتغلوا بها والمرتبطة بالأعمال الزراعية.
لم يعن الاستقرار بالضرورة اندماج هؤلاء القوم داخل المجتمعات التي
يعيشون فيها, ولكن يمكن الإشارة إلى أنهم اكتسبوا بعض خصائص هذه المجتمعات. ورويداً
رويداً ازدادت هذه الخلطة حتى أننا نجد الكثيرين قد أرسلوا أولادهم إلى المدارس كما
في أسكتلندا,بل إننا نجد ان الكثيرين أيضاً وقد اتخذوا لأنفسهم أسماء وألقابا لأسر
مشهورة.
لم يختلف كثيراً الموقف العدائي للكنائس سواء الأرثوذكسية أو
الكاثوليكية أو البروتستانتية من الغجر حيث اعتبرتهم الكنائس قوماً بلا دين ولم
تبدأ في الاهتمام بهم إلا في القرن التاسع عشر بالأخص مع ظهور الإرساليات
التبشيرية.
الغجر والاستقرار
بدأت في العقود الماضية تهب رياح التغيير والتطور فيما يتعلق بالغجر,
حيث تأسست مجموعة من المؤسسات تهدف إلى إعادة صياغة النظرة إلى قضية الغجر, وقد
واكب هذه المتغيرات تحولات في العديد من القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
التي ساهمت في التأثير على هجرات الغجر وعلى وضعهم الاجتماعي في مجتمعاتهم, خاصة
أنه قد تبدلت الحياة الريفية والمدنية في كثير من البلدان مع بداية العصر الصناعي
وتبدل الحرف والوظائف وتفتت الإقطاعيات الكبرى, ولكن وبالرغم من كل ذلك حافظ الغجر
على نوع معين من الحياة المنفصلة مع استمرارهم في إمداد الحياة الاقتصادية بإنتاجهم
المتنوع الخاص.
و يشير المؤلف إلى أن الموهبة الموسيقية والغنائية كانت من العناصر
الأساسية في تقبل المجتمعات لهؤلاء القوم.
ولم يلبث القرن التاسع عشر أن شهد موجة جديدة من موجات الهجرة في كل
الاتجاهات, حيث توجه البعض منهم إلى البلقان والمجر, وعرفوا باسم تجمعات ال rom
وتوجه آخرون إلى روسيا وصربيا وبلغاريا واليونان لينقسموا هم أنفسهم إلى مجموعات
متعددة أخرى. مع تعدد مجموعات الغجر وتشعب أصولهم, ازداد تمسّك كل مجموعة بأنها
تمثل الأصل دون غيرها من المجموعات.
وقد تركت الحرب العالمية الثانية الغجر في حالة من التشتت والتفتت,
وفي عام 1925 اعترف الاتحاد السوفيتي بالغجر باعتبارهم من الأقليات القومية.
ثم أدمجت بولندا في عام 1950 هؤلاء الرحل داخل المجتمع, لكن مظاهر
الاستقرار تلك سرعان ما انهارت مرة أخرى في العديد من البلدان, ففي المجر ظهرت
مشكلات اجتماعية كبيرة متعلقة بزيادة نسبة المواليد لدى الغجر مما أدى إلى مزيد من
الاضطرابات والتوترات.
في النهاية, يرسم المؤلف صورة للغجر فيشبههم بلوحة من الفسيفساء وقد
أثروا وتأثروا بالثقافات المحيطة من حولهم وكيف أنهم لا يزالون يحتفظون بخصائص
تميّزهم عن المجتمعات المحيطة بهم, فبالرغم من اتخاذهم لصفات متعددة ممن حولهم
فإنهم نجحوا في صبغها بأسلوبهم الخاص