مساحة ود

 مساحة ود
        

اكتشاف الألم

          حين كانت ابنتي (جميلة) تقترب من عامها الثاني, وفي ذلك اليوم البعيد, راحت تدفع الطعام بأناملها الدقيقة عدة مرات, ليسقط بعدها فوق الأرض.

          أحدق إليها بمشاعر امرأة منهكة, بين هموم البيت والأمومة وهموم العمل والوطن الذي لم يعد يحتوينا.. لم أضربها فوق يدها, تلك الضربات الآلية, الموروثة بخفة واعتيادية.

          كانت هذه هي الضربات الأولى, التي وقعت عليها من الخارج. ذلك النوع من الأذى, والأكثر قسوة, الذي يختلف استقباله, عن تلك الآلام الجسدية, التي يتعرض لها جميع الأطفال, وجع الأسنان أو الأحشاء مثلاً.

          راحت تحدق إلى يدها, كمن رأى ثعبانا فجأة!!

          إن أشد صور للفزع, هي تلك الصورة للشحوب الغامض, المتوج بشرود, والذي يبدو أنه قديم منذ الأزل!!

          كانت تنظر هناك, حيث الأذى الأول, والاكتشاف الأول, بأن الدنيا ليست كما تبدو عليه من صور الانسجام, ثمة ألعاب أكثر خطورة, لا سلام هناك.

          لم يهزني شحوب مثل ذلك من قبل, رغم أنه كان يشبه كثيرا, شحوب هؤلاء الذين يغادرون الحياة. كانت هي أيضا تغادر تلك الحياة, التي ظنت أنها تعرفها وتألفها.

          نظرت طويلاً هناك, حيث الضربات الأكثر إشكالية, فوق الكف الصغير البائس, ثم غرقت في بئر من الأفكار, التي لا يعلم إلا الله ما هي.

          يا إلهي, لقد بددت جميلة سلامي المُلفّق أنا أيضاً هل كان عليّ أن أؤجل اكتشافها ولو قليلا? أعرف جيدا أنها في ذلك اليوم, لم تعد الطفلة التي كانت.

          في ليلة أخرى, كانت نائمة بجواري. لأمر ما كنت أبكي صامتة (وقد تعودت البكاء سراً). رحت أُسقط دموعي في هدوء, وأحسد نفسي على أنني مازلت صالحة للبكاء.

          تفتح جميلة عينيها.. وتنظر هناك.. بحياد في البداية, ثم شحوب آخر!!

          تمتد أصابعها, تتحسس تلك القطرات الغامضة, تتحسسها طويلا, ويجيء صوتها بعيدا: (ما هذا)?!

          كان بكاؤها قبل هذه اللحظة, لا يمثل أي معنى لديها, مجرّد تعبير جسدي عن الغضب, لم تدرك أبدا أن الذي يتساقط من عينيها, قد يتساقط أيضا من أعين الكبار.

          لم تحتمل جميلة دموع أمها, تلك التي اكتسبت معنى جديدا صادقا, ومربكاً في آن.

          لم تسعفها سنواتها القليلة للقبض عليه, ولم تعرف أن ذلك هو الحزن, إلا بعد سنوات.

          ستظل تسأل بريبة وانكسار, ووجه أمها يجرجرها إلى ألم جديد: ما هذا?

          تتفحص قطراتي غائبة, وسابحة فيها, تصفعها أمواجها حيث الشاطئ بعيد.. بعيد وخطر.

          هل أستطيع أن أوقف الأسئلة والأخرى? أقول بألم لا مفر منه, إن جميلة هناك حيث الألم الأول بدأت تكبر. لا شيء يحميها الآن من كبرها.. سوى الأمل في قليل من الأذى.. يا حبيبتي

 

هناء عطية