شعاع من التاريخ
شعاع من التاريخ
ست الملك... ونيرون الفاطمي...! راح رأسها يدور كدوامة وهي تشم رائحة دخان الحرائق وتسمع أنين المفجوعين وصرخات المظلومين, وتتابع ما ينقله إليها أتباعها من أخبار النيران التي أخذت تنتقل من بيت إلى بيت في جميع أنحاء القاهرة بأوامر أخيها الخليفة الحاكم بأمر الله ابن العزيز بالله الفاطمي. وكان يصك أذنيها بين الحين والحين دعوات أهالي القاهرة وابتهالاتهم مكبّرين لله عز وجل وهم ينطلقون زرافات إلى جامع عمرو بالفسطاط. هناك كان الدعاة الملاحدة الوافدون من بلاد فارس والهادفون إلى هدم الإسلام بزعامة حمزة بن علي الطهراني الباطني قد ادّعى الإمامة ولقب نفسه بهادي المستجيبين, وراح أتباعه يجاهرون بمذهبهم ويعلنون ألوهية الحاكم الذي أطلقوا عليه اسم (الحاكم بأمره). وتجمّع الناس في مسجد عمرو وقد ثارت نفوسهم فوثبوا على أولئك الملاحدة وفتكوا بهم, وعلم الحاكم وقد دعا لنفسه بالألوهية أن العامة يقتلون دعاته, فثارت نفسه غضباً وأمر بالقبض على كثير من الناس وإعدامهم. ولم يكتف بذلك, بل أراد أن يؤدب أهل القاهرة والفسطاط فأباحهما لجنوده من العبيد الأتراك لثلاثة أيام, فراحوا يغيرون على أحياء الفسطاط وينهبون الحوانيت والدور ويخطفون النساء ويشعلون النار في كل مكان. كانت الأميرة (ست الملك) تتابع كل ذلك وقد راعها الأمر خاصة حين علمت أن الحاكم بأمر الله يخرج كل يوم إلى جبل المقطم فيشاهد النيران في سعادة وهي تلتهم العاصمة. ولو كانت ست الملك قد تعمّقت قليلاً في جذور التاريخ لعرفت أن حاكماً آخر اسمه نيرون قد ادّعى الألوهية في عاصمته روما فأحرقها بمبانيها وأهلها, إذ أصابته لوثة حين وجد أن الكثيرين من أهلها قد اعتنقوا المسيحية وآمنوا بإله آخر سواه. ولو علمت ست الملك بالغيب لعرفت أن القاهرة نفسها والفسطاط معها ستتعرض مرة أخرى للحريق أيام ضعف الخلافة الفاطمية ومحاولة سيطرة الوزراء الكبار على الخلفاء الضعاف , مما أدى إلى اضطرابات, فأحرق الفسطاط ليوقف ثورة الشعب وزير خائن اسمه شاور ألقى عليها عشرين ألف قارورة نفط وعشرة آلاف مشعل نار, واستمر الحريق أربعة وخمسين يوماً, ولو أدركت ست الملك الغيب أيضاً لعرفت أن ثمة حاكماً آخر اسمه فاروق سيجيء بعد حوالي عشرة قرون وأراد أن يدّعي الخلافة والنسب إلى آل بيت الرسول, وحين فشل تسبب في صراع كان وراء حريق القاهرة في يناير 1951 مما أدى إلى قيام الثورة وإسقاط الملكية. إذن فادّعاء الألوهية والمطامع في الخلافة الدكتاتورية يؤدي إلى الثورة الشعبية وسقوط الحكام, وهو ما يمكن أن يحدث بسبب ادّعاء الحاكم الألوهية...! المواجهة ضربت ست الملك خديها بكفيها وهي لا تدري كيف تفعل في مواجهة أخيها الذي أصابته اللوثة التي سيضيع معها ملك الفاطميين الذي شيّده جدها المعز وأبوها العزيز. فها هي معزولة في القصر الصغير المواجه لقصر الخلافة الكبير ولا يفصل بينهما سوى ميدان بين القصرين. لقد انقطع كل ما بينها وبين أخيها الحاكم بعد آخر مشهد عاصف بينهما حين راح يزجرها ويردها بغليظ القول ويأمرها ألا تتدخل في شئون الحكم فهو لا يحتاج إلى وصايتها ونصائحها صارخاً فيها: - لقد تجاوزت حدك يا ست الملك, وخير لك أن تنصرفي إلى عزلتك, فإن النساء لا يصلحن لشئون الخلافة والحكم. وإذا كنت قد أبقيت عليك حتى الآن بعد أن أغراك سكوتي عنك طوال السنوات الماضية, فالآن وقد ملكت كل شيء لن أصبر عليك أبداً وإني لآمرك أن تلزمي بيتك وتكفّي عن التدخل فيما لا يعنيك من أمور الحكم والسياسة! وإن ست الملك الآن, وهي قابعة في القصر الصغير لتعود بذاكرتها إلى أيام كان أبوها العزيز يستشيرها في الكثير من الأمور, ويستمع إلى رأيها ونصحها ويعترف بذكائها وحسن تدبيرها. وإنها لتذكر حين توفي العزيز بالله تاركاً ولده وولي عهده الحاكم وهو لم يبلغ الثانية عشرة, بينما هي في السادسة والعشرين, فقامت على تدبير شئون الدولة وتوجيهها متفرغة لأخيها الخليفة الصبي والحفاظ على سلامة ملكه حتى استطاع الحاكم بمشورتها أن يستنقذ العرش من أيدي الأوصياء, وأن يؤكد سلطانه ويمارس الحكم فعلاً بعد ثلاثة أعوام من موت أبيه. وإذا كانت قد تحاملت على نفسها كثيراً وهي تشاهد تصرّفاته الهوجاء واندفاعه في تيار العنف والإسراف في القتل وإصدار القوانين الغريبة والأحكام المتناقضة بالرغم من كل نصائحها وتحذيرها له من عواقب ما يفعل, فإنه كان يزداد غضباً منها لتدخلها, ويمضي مندفعاً في طريقه كأنه قد تلبّسه شيطان. وكان كل يوم يطلع الحاكم بجديد من الضرائب والأوامر البعيدة عن العقل حتى أنه جمع جواريه يوماً وأمر أن توضع كل منهن في صندوق مثقل بالحديد ويلقى بهن في النيل. وهالها أن يشيع الاضطراب في حياة المجتمع المصري بعد أن أسرف في سفك الدماء, فكان يقيل وزراءه وقادته ورجال دولته بغير سبب ظاهر حتى زاد عدد ضحاياه من عامة الناس ومختلف الطبقات على عشرة آلاف شخص. وكما يقول المؤرخ محمد عبدالله عنان (إن الحاكم قد أكثر من إصدار المراسيم الشاذة المتناقضة ما بين حرمان وإباحة, ويحرم بعض الأطعمة ثم يبيحها ويقلب الليل نهاراً ويجعله مسرح النشاط والعمل, ويحظر التبرج على النساء ويمنعهن من مغادرة البيوت, ويحظر على صانعي الأحذية أن يصنعوا ما تلبسه النساء للخروج, ويشجع الدعوات السرية الإلحادية ثم يهيم في التقشف والزهد ورصد النجوم بالليل من فوق جبل المقطم. وهكذا يمضي طوال عصره تدفعه مختلف التيارات فتضطرب أمور الدولة وتضعف هيبتها وتهددها الأخطار الخارجية). توقعات النهاية إن ست الملك لتتوقع نهاية الخلافة الفاطمية حين بلغها ما جاء به الملاحدة الفرس الذين عملوا على نشر مذهبهم وتنادوا بألوهية الحاكم زاعمين أنه ليس بشراً كسائر الناس, وإنما هو رمز حلّ فيه الإله, وبدلاً من أن يبطش بهم الحاكم إذ به يحميهم ويبارك دعوتهم حتى عمّ السخط سائر البلاد. وخشيت ست الملك أن يأتي يوم يزداد فيه غضب الناس وسخطهم فيكون الانفجار, وهو ما حدث بالفعل حين ذهب الملاحدة إلى جامع عمرو فأثاروا الناس مما أدى إلى حدوث ما حدث وإحراق الفسطاط بأوامر الحاكم بأمر الله. لم يعد أمام ست الملك بعد كل ذلك ما يمكن أن تسكت عليه, ولم تجد مناصاً من اتخاذ الخطوة الحاسمة في القضاء على الشر من أساسه وذلك بالقضاء على شخص الحاكم ذاته, وإبعاده نهائياً عن مسرح الأحداث. وتتواتر الروايات عن هذه النهاية وإن كان أبرزها أن ست الملك قد دعت إليها سرّاً الحسين بن الداوس زعيم كتامة أقوى القبائل المغربية وأشد الناقمين على الحاكم لغدره وبطشه بقبيلته. وعرضت عليه ما انتهت إليه الأمور من الفوضى والاضطراب وما يهدد الدولة والإسلام كله من خطر التمزّق, وأنه لابد من وضع حد لاندفاع الحاكم في غيّه حتى لو أدى الأمر إلى قتله. وتلقف ابن الدواس هذا التوجه إلى الجريمة وتعهد بالتنفيذ. رتب الحسين بن الدواس خطته وعهد بتنفيذ الجريمة إلى عبدين من أخلص عبيده, فخلعت عليهما ست الملك ووهبتهما مالاً وفيراً وخيلاً وزوّدتهما بسكينين ماضيتين, واتفق على أن يكون التنفيذ في مساء اليوم التالي ليلة الإثنين 13 فبراير 1021م. حين خرج الحاكم كعادته لرصد النجوم في شعاب المقطم وهو راكب حماره الأشهب وليس معه سوى ركابيين, خرج عليه العبدان من مكمنهما وانقضّا عليه وقتلاه كما قتلا الركابيين وقطعا قوائم الحمار. وحملا جثة الحاكم إلى سيدهما في كساء فحملها إلى ست الملك فدفنته في مجلسها نفسه. وتبدو الأميرة الفاطمية في ذروة حزمها وصرامتها, فإنها بعد أن أتمت تدبيرها نصبت ابن أخيها الظاهر أبي الحسن على كرسي الخلافة واستوثقت من طاعة الزعماء والقبائل له ثم بادرت إلى القضاء على شركائها في الجريمة, فدبّرت مقتل الحسين بن الدواس ولم تبق على أحد ممن وقفوا على السر, وذهب السر الرهيب مع الجناة إلى الأبد.
|