جمال العربية

جمال العربية
        

ابن المقرّب العيوني:

صوت شعري صارخ في الفضاء العربيّ 

          شكرا لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين التي أعادت تذكيرنا بهذا الشاعر المجهول عند الكثيرين, بالرغم من مكانته الشعرية, ودوره الإبداعي والنضالي, من أجل إيقاظ أمة تفتتت وتشرذمت, واشتبك زعماؤها وقادتها في خلافاتهم ومطامعهم الصغيرة, غير متنبّهين إلى الخطر الداهم المحيط بهم, بعد أن قضى المغول على الإمبراطورية الإسلامية التي شاخت وتصدّعت. وقد جاء هذا التذكير من خلال دورتها الثامنة التي حملت اسم (ابن المقرّب العيوني). ومع الدورة كانت الطبعة الجديدة التي أصدرتها المؤسسة من ديوان (العيوني) محققة مشروحة, من خلال الجهد المتميز للدكتور أحمد موسى الخطيب, كما كانت أبحاث الندوة التي حملها مجلد ضافٍ, تمثل صفحاته إضاءة ضرورية لعصر (العيوني) وحياته وشعره.

          تحدّثنا مقدمة الديوان عن مولد العيوني في ربوع البحرين عام 572 هجرية, ابنا لأسرة حاكمة (وتبدو شخصيته من شعره جلية واضحة الملامح. فقد كان عزيز النفس, سامي الهمة, طموحا متطلعا إلى المجد, رافضا للضيم, متوقد العزيمة, صريحا صادقا متأبيا, معتدا بنفسه, مزهوّا بشاعريته, داعياً إلى مذهب القوة في الحياة, جادّاً حاد المزاج, عاشقا لوطنه (الأحساء) شرق الجزيرة العربية, وفياً له, ولم يثْنه عن ذلك ظلم ذوي القربى وتنكّر المكان. وهذه النفس القيمية الكبيرة تذكّرنا بروح أبي الطيب, ونفسه المتأبية المسكونة بأحلام الحياة الفضلى).

          كما يحدّثنا شعره عن اتصاله بالخليفة العباسي الناصر لدين الله, وخَلفه المستنصر بالله, وأمير البصرة شمس الدين باتكين, وأمير الموصل بدر الدين لؤلؤ والملك الأيوبي الأشرف, واتصاله بكثير من رجالات العراق وعلمائه ونقبائه.

          يقول الدكتور الخطيب - محقق الديوان وشارحه: (يجسّد ابن المقرّب نموذجا فريدا للمثقف الملتزم, الذي يفهم الثقافة على أنها موقف, وأن هذا الموقف غير قابل للتجزئة ولا للمساومة, وأن عليه أن يناضل من أجل ذلك, لا يثنيه عن هدفه استلاب أو اغتراب, أو اضطهاد.

          عاش ابن المقرب في زمن بدأت تسود فيه أحوال دولتهم على كل الصّعد, وعزّ عليه أن يتهاون أبناء عمومته من أمراء الدولة العيونية في مواجهة تحديات سلطتهم, فرفع صوته مُنبّها محذّرا, عاملا على تعرية الواقع, وإدانة التخاذل, منصبا نفسه على ذلك ناصحا مخلصا, لكن السلطة العيونية رأت فيه مثقفا معارضا, فعملت على إخماد صوته وسعت إلى تغييبه بالسجن, والمبالغة في أذاه باجتياح أملاكه, متجاهلة حق القرابة والنسب. ويخرج ابن المقرب من سجنه أكثر ثورة وحدّة, ورغبة في تغيير واقعه, شأنه في ذلك شأن كل العشاق, فهو المحب للبحرين, لا يثنيه عن عشقه لها سوى الموت. وحين أحسّ أن الجميع قد تنكّروا له, وأنهم قد أصموا آذانهم عن دعوته المخلصة دفعته مرارة الاغتراب إلى الرحلة خارج الوطن, إلى العراق, يحمل همّيْه: الخاص والعام).

          ويختتم الدكتور الخطيب هذه اللوحة القلمية عن العيوني: الإنسان والشاعر الثائر بقوله: (وفي العراق اتّسعت دائرة همه, وهو يرى الشروخ تتسع في الجدار الكبير. فالحال هناك لا يقلّ سوءاً عنه في وطنه, وملامح الشيخوخة تبدو جليّة على الخلافة العجوز. وكما حاول سلفه وأستاذه في الفن, والشموس, والتأبّي, والحسّ العروبي: أبو الطيب المتنبي أن يتدارك - مبكرا - الصدع في الجدار ذاته, فحاول ترميمه قبل قرنين من الزمان, فغنى للأمة هويتها, فعل ابن المقرب من خلال إلحاحه على توظيف تلك الرموز الفذّة في الوجدان العربي محاولا ترميم الهوية ما أمكن).

          وكانت وفاته في البحرين وعلى أرض الأحساء عام 630 هجرية.

          هناك إذن وشائج عدة هيأت لهذا الاقتران - في ذاكرة الباحثين ومؤرخي الأدب - بين المتنبي والعيوني, كلاهما صاحب مأساة خاصة وعامة, مغترب بين قومه في عصره وزمانه. المتنبي يجهر في شعره الباكر بهذه المعاناة, عندما يقول:

أنا في أمة تداركها اللهُ

غريب كصالحٍ في ثمودِ



          وعندما يقول:

ما مقامي بأرض (نخْلة) إلا

كمقام المسيح بين اليهودِ



          والعيوني يجهر في مستهل أولى قصائد ديوانه بقوله:

كم أُرجع الزفرات في أحشائي

وإلام في دار الهوان ثَوائى

لم يبْق مني من مساورة العدى

والضيمْ غير حشاشة وذماءِ



          وصولا إلى قوله:

يا للرجال, ألا فتًى ذو نجدةٍ

يحمى بمنصلتٍ على العلياءِ!

يا صاح قد أزف الرحيل فقرّبنْ

للسير, كلَّ شِملَةٍِ وجْناءِ

ما عذر حرٍّ في المقام ببلدةٍ

آسادُها ضربٌ من المعزاءِ!



          كلاهما - أيضا - صاحب دعوة ورسالة. كيف يمكن النفخ من جديد في روح هذه الأمة, التي تشرذمت وشاخت وضعفت وانقسمت, وشُغلت عن أعدائها الحقيقيين من حولها بصراعاتها فيما بينها, فهم آساد بعضهم على بعض, جبناء أذلاّء خوراً وضعفاً إذا نُدبوا لموقف الحسم والبطولة, والذوْد عن حمى الوطن وقيم الأمة وموروثاتها وثوابتها? كانت هذه رسالة المتنبي وهو يوقظ الحسّ العروبي والوجدان القومي - من قبل أن تعرف كلمة القومية - ثم جاء العيوني من بعده, ليحمل الرسالة كأستاذه في الشعر, وليترفّع بشعره عن التكسّب به وابتغاء نوال الممدوحين, جاعلا همّه التنبيه والتحذير, والتنقّل الدائب بين بلاده في البحرين والأحساء وكل الجزيرة العربية والعراق حيث المقرّ الرسمي للخلافة في بغداد, ولكن أي خلافةٍ تُرجى وقد فتك المغول بكل شيء وسقطت عاصمة الخلافة تحت سنابك خيولهم?

ما للطعام وللفخار, وكلُّهم

في سرْبِه كبليّةٍ عمْياءِ

خلّوا الفخار لمعشرٍ أوْلوكمو

ذلّ الهوان بغلظةٍِ وجفاءِ

مسحوكمو كالضبع حتى أوثقتْ

جُددُ الحبالِ برجلها العرجاءِ

وتبادروها بعد مسْحهمو لها

سحْباً على البوْغاءِ والحصْباءِ

والذبحُ غايتها, وهل ذو إحنةٍ

يْرضى بدون الخطة الشَنعاءِ



          كلا الشاعرين - أيضا - المتنبي والعيوني ابن البادية, المخلص لها, المردد لمفرداتها, الهاتف ببكارتها وأصالتها وصدقها - في وجه الحضارة والتحضر والصنعة والاصطناع - من هنا فإنا نجد في شعر المتنبي أولا والعيوني ثانيا معجم البادية في اكتمال زهوه وتألقه, عالما من الصور الشعرية, والإيحاءات والظلال, والمفردات والتعابير, والصياغة المحكمة التي كأنها خُلقت لتكون على هذه الصورة أو تلك. وربما عانى قارئ العيوني - اليوم - في مواجهة (روح البادية) ومعجمها, متوقفا أمام ما يعتبره حوشيا أو مهجورا أو غير مألوف. لكنه سرعان ما ينفذ إلى جوهر هذا الشعر وحقيقة مائه وكيميائه حين ينجح في اختراق ما يحسبه عوائق من اللغة, بالتمرّس والمكابدة, وهما ضريبة مثل هذا الشاعر المتميز, على قرائه ومتلقي شعره ومتذوّقيه.

          ومن بين قصائد العيوني في ديوانه الضخم - الذي أصدرته مؤسسة البابطين في مجلدين كبيرين يضمان 1392 صفحة - قصيدة بديعة نجحت في اصطياد صورة الشاعر, وتقديمه لنا في ملامحه وصفاته وقسماته وسماته, وإن كانت مصنّفة في ديوانه باعتبارها من قصائد المديح للخليفة الناصر لدين الله سنة 614 هجرية.

          يقول العيوني:

وأَبْينُ شيءٍ ما يُجنُّ المُتيَّمُ أماراتُ سرِّ الحب ما لا يُكتمُ
وذلك مما يقتضيه التوهُّمُ ظنَنْتِ نُحولي واصفراري من الهوى
بعزِّ المعالي يا ابنة القوم مُغرمُ لعمرُك ما بي من هوًى, غير أنني
أمورٌ لها يُستهلك اللحمُ والدمُ وقد عرضتْ من دون ذاكَ فأجرضَتْ(1)
أتاني من الأحباب أدهى وأعظمُ إذا خطة أنكرتُ من ذي عداوةٍ
إذا غالها خطب من الدهر مُبْهَمُ على أنني النّدْبُ الذي تكتفي به(2)
لسان ورأي لا يُفلّ ومُخْذَمُ(3) وعندي لشانيها سيوف ثلاثةٌ
ولا ناطقٍ بالعيب مني لها فمُ ولستُ بهجّامٍ على ما يسوؤها
ولا باسطٍ كفًّا لها حين أُعدمُ (4) ولا قابضٍ فضل الغنى عن فقيرها
وإني لأدناها إذا ناب مُغرمُ وإني لأقصاها إذا ثاب مغنمٌ
وللدفع عن أحسابها منه أسهمُ ولي في الغنى سهم إذا ما أفدْتُه
وكيدْ المُداجي عفّتي والتكرُّمُ ويمنعني كيد العدوّ احتقارُه
وإن أسرجوا في هدْم عزّي وألجموا وأصفحُ عن جُهّال قومي حميّةً
وصلْتُ, وذو العلْيا أبّر وأرحمُ وإن قطّعوا أرحام بَيْني وبينهم
لأَبصرُ منهم - لو أشاءُ - وأعْلمُ(5) وأغضي على عوراء قومي وإنني
إليَّ بلا جُرمٍ أساءوا وأجرموا وأحفظُ ودّ الأصدقاء, وإنهم
بِكيرانها, ترغو مراراً وتَبْغَمُ (6) وقائلةٍ - لي - والركابُ مُناخةُ
تُؤامٌ كما ارفضّ الجُمانُ المُنَظّمُ (7) وقد أيقنت مني الرحيل فدمعُها
فصبرُ الفتى لو شقّ أحْرى وأحرمُ دع الحلّ والترحال والشدَّ واصطبرْ
تقلّبُ والأيامُ بُؤسى وأنعُمُ ولا تجزعنْ إن الليالي بأهلها
مراراً, ويُخْفَى الأعوجيُّ المطهّمُ(8) وقد يُصطفى العير اللئيمُ لحْظه
وإن كان أحياناً يُمضّ ويُؤلمُ وعاقبةُ الصبر المُمرِّ حلاوةٌ
تجيشُ, وأفكاري تغورُ وتتهمُ: فقلتُ لها والنفسُ في غُلوَائها
وقد أكثر النّسْلَ الجديلُ وشدْقمُ (9) ذريني فإنّ الحر لا يألف الأذى
فترحالُه لو مسّهُ الضرُّ أحزمُ ومن يك مثلي ضيْمُه من رجالِه
سوى نار شرٍّ كلّ يومٍ تَضْرمُ لعمري لقد طال انتظاري ولا أرى
وما هي إلا مرّةُ الطعم علقمُ تقولين: عُقبى الصبر حلوٌ مذاقها
إلى شامتٍ, أو باكيا أتظلّمُ أأصبرُ إما شاكياً مُتعتِّباً
وإما لعزٍّ حوضُه لا يُهدَمُ سأُرْحلُها إما لداعي منيةٍِ
إمام هُدًى يُؤْوَى إليه فيعْصمُ ففي شاطئ الزوراء من آل هاشمٍ (10)
كما طاف بالركن اليمانيِّ مُحرمُ تطوفُ الملوك الصّيدُ حول قِبابه (11)
إلى الله في الدنيا وفي الدين سُلّمُ تُرجّى به دنيا وديناً, لأنه
إلى الله إلا رهطُهُ المتقدّمُ وهل مثْلُه يوم المعاد وسيلةٌ (12)
إلى الله يدعو, أو إمامٌ مُكرمُ أُبوّتهُ إما نبيٌّ مُعظّمٌ
أنالوا, وإن خفّت بنو الحرب أقدموا همُ القوم إن مالوا أمالوا وإن دُعُوا
وإن سُئلوا النعْماءَ, جادوا وأنعموا وإن وعدوا أوْفوا, وإن أوعدوا عَفوْا
وإن عقدوا عقْداً أمرُّوا وأحكموا وإن عاهدوا عهداً أصرّوا وحافظوا
وإن خوطبوا يوماً أجرّوا وأفحموا(13) وإن حاربوا قوماً أقاموا وأقعدوا
ببطحائها في حيث شاءوا وخيّموا همُ نزلوا أجياد مكّة فابتنوْا(14)
خزاعةُ كلَّ الأمر فيهم وجُرْهُمُ (15) وأضحوْا وبيتُ الله فيهم وسلّمت
عداوتهُ إلا أذلّوا وأرغموا ولم يبْق حيٌّ في تهامة تُتَّقَى
فخارًا إذا ما الناسُ للحجِّ وسّموا(16) وحسّبهُمو بالناصر المُهْتَدى به
على الله في دفْع المُلمَّاتِ يُقسمُ به يرفع الصوتَ المُلبّى وباسْمِهِ
فأيامُها تيهاً به تتنسّمُ أضاءت به الدنيا سروراً وبهجةً
ولا ظالمٌ منها ولا متظلّمُ أعزّ به الله الرعية فاغتدتْ

          فهل كان العيوني يصور صفات حقيقية في ذلك الممدوح? أم كان يريد ضرب المثل والقدوة واستنفار النخوة والحمية, لعل ّ غيره من الحكام والأمراء يحذو حذوه? أم لعلّه يعيد تشكيل هذا الخليفة في صورة من صُنْع الشاعر وعلى عيْنه, صورة تُحقّق قدرة الشاعر على وضع محبوبه في الصيغة التي يحلم بها ويرتجيها? أيا ما كان الأمر فإن صوت الشاعر وقد وصل إلينا, ولعلّه ينجح في الوصول إلى من يعنيهم الأمر من (رجالات) هذه الأمة, ليكونوا - بحق - رجالا!

_______________________________

(1) الجرض: الريق يُغصّ به على حزن أوهمّ أوغيظ. والجريض: غصص الموت.

(2) الندب: الرجل الذي يندب للمهام الكبيرة.

(3) المخذم: السيف القاطع.

(4) أُعدم: أفتقر.

(5) أبصر: أكثر بصيرةً ورأياً ومعرفة بالأمور.

(6) الكيران: الرحال. رغاء الإبل: صوتها. البغام: صوت الناقة وهو صوت لا تفصح به. والمباغمة: المحادثة بصوت لين (شارح الديوان).

(7) تؤام: أي تتبع الدمعة الدمعة كأنها توأم لها. وارفضاض الجمان: انتثار حبات اللؤلؤ.

(8) العير: الحمار. الأعوجيّ المطهم: الفرس الجواد التام الحسن.

(9) الجديل وشدقم: فحلان من الإبل مشهوران كانا للنعمان بن المنذر.

(10) الزوراء: بغداد. يُؤوى إليه: يُلجأُ إليه. يعصم: يمنع من يستجيرُ به ويحميه.

(11) الصيد: جمع أصيد: المزهوّ بنفسه, المتكبر.

(12) يوم المعاد: يوم القيامة. الوسيلة: ما يُتقرّب به إلى الله والناس. الرهط: الأهل والعشيرة.

(13) الجرّ: الجذب والجرّ, وأجررت الفصيل: شققت لسانه لكي لا يرتفع. أفحموا: يقال أفحمت الرجل: أي أسكته في خصومة أو غيرها.

(14) أجياد: جبل بمكة.

(15) خزاعة وجرهم: حيّان من العرب.

(16) وسّموا: شهدوا الموسم

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات