إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

حال الغناء العربي 

          هل يمكن القول إن الغناء العربي في مرحلته الحالية هو أفضل وأرقى من المرحلة التي عاشت فيها أم كلثوم وعبدالوهاب?الكثيرون يجيبون بالنفي, ويرون في حمّى عصبيتهم للغناء القديم إن صح أن هناك قديماً أو جديداً في الغناء أن تلك المرحلة التي مرّ بها الغناء العربي في عصر أم كلثوم وعبد الوهاب كانت مرحلة ذهبية, إن لم تكن القمة التي وصل إليها الغناء العربي في تاريخه الحديث.

          بعدها انحدر هذا الغناء إلى درجة أنه تحوّل إلى ما يشبه الترفيه عن الجمهور المتحلق حول المغني في صالة يردد هذا المغني ما شاء من الأغنيات المتدنية كلماتٍ وألحاناً وصوتاً. ومع ذلك فالجمهور يصفق ويرقص ويطلب من المغني المزيد. أو أن هذا الغناء تحول إلى شيء يرافق الناس خلال تناولهم وجبة العشاء في بعض المطاعم. فأصحاب هذه المطاعم يعلنون مسبقاً في الصحف أن وجبة العشاء للشخص الواحد هي بسعر كذا, وأنه خلال السهرة أو العشاء سيغني فلان أو علاّن.

          على أن المشكلة ليست في نظر البعض في مصاحبة المغني للناس الذين يتناولون عشاءهم في مطعم أو يمضون السهرة في صالة. فأم كلثوم وعبد الوهاب ومن قبلهما سيد درويش ومنيرة المهدية كانوا يغنون لباشوات مصر وكبرائها في قصورهم. وظلت أم كلثوم إلى ما قبل وفاتها بسنوات قليلة تغني في يوم الخميس من أول كل شهر في سينما قصر النيل. ولكن المشكلة هي في نوعية المغنين ونوعية الغناء قبل أي شيء آخر.

          لم يكن المغني في النصف الأول من القرن العشرين يعتلي المنبر في هذه العاصمة العربية أو تلك, إلا بعد أن يكون قد أتقن فن الغناء سواء على يد موسيقي مقتدر, أو في معهد متخصص. وكانت ملازمة المغني لأحد أرباب هذه الصناعة, لا تقل فائدةً عن تلقيه هذه الصناعة في معهد فني.

          وعندما كان يقول فلان إنه لزم القصبجي أو زكريا أحمد وتتلمذ على يديه, كان القوم يثمّنون ذلك تثميناً عالياً. وكانت هناك تقاليد ومناخات للغناء مختلفة عما نعرفه اليوم. كانت غاية المغني أن يضيف شيئاً جديداً إلى مهنته, وأن يرتقي بها فيُعرف ويشتهر. ولم تكن مناخات العصر الاستهلاكي الذي نحيا فيه اليوم قد عُرفت. فالمغني لم يكن هدفه المال أو شراء الشقق. وكثيرا ما قضى حياته في فقر مدقع.

          وكانت نوعية الغناء تختلف عما نعرفه اليوم. فالمغني كان يختار أغنياته بذوق رفيع. والمؤلف كان إما شاعراً من التراث العربي القديم, أو شاعرا معروفاً من شعراء عصره, حتى شعراء العامية كانوا على قدر واسع من الفن الذي فارق الكثير من شعراء العامية في زماننا. وكثيراً ما كتب الشعراء الكبار كلمات الأغنيات لهذا المغني أو لذاك. وكثيرا ما كتب شعراء الفصحى الكبار, كأمير الشعراء شوقي, أو أحمد رامي, أغنيات بالعامية لعبد الوهاب أو لأم كلثوم. وكان هناك ملحنون كبار نهضت الأغنية العربية على أيديهم نهضة لم تعرفها في أي عصر آخر.

          أما اليوم, فقد اختفى كل ذلك لتحلّ محلّه صورة مشوهّة له. فالمغني عينُه لا على تجويد أغنيته بل على تغذية حسابه في المصرف, أو على الغناء ليلياً في أكثر من صالة واحدة. وبعض المغنين لا يقلّ مدخولهم في الليلة الواحدة عن عشرين ألف دولار.

          وانعدم التمييز بين المغني والملحّن والمؤلف. فالمغني يفرض على المؤلف ما شاء من الكلمات أو المقاطع. وكثيرا ما يشترك مع الملحن في اللحن, وكثيراً ما يلحن بنفسه, وكلّ ذلك ساهم في تدني مستوى الأغنية في وقتنا الراهن.

          وقد يظل المغني يغني ربع قرن أو أكثر دون أن يضيف أو يفرز لحركة الغناء العربي أغنية واحدة ذات شأن, أو أغنية واحدة من شأنها أن تحدث تغييراً في مسيرة هذا الغناء بحيث يُؤَرَّخ بها أو يشار إليها, فالسائد هو هذه الأغنية التي يرددها المطرب في هذا المطعم أو في تلك الرسالة بلا انقطاع, ولمدة ربع قرن أحياناً. والنتيجة هي تخلف الغناء العربي على النحو الذي أشرنا إليه

 

جهاد فاضل