الدول النامية... والنظام الاقتصادي الجديد

  الدول النامية... والنظام الاقتصادي الجديد
        

          إذا كان هدف أي نظام اقتصادي يكمن في إسعاد أفراد المجتمع فإن اعتبار الفوضى والفساد سلوكا يجب اتباعه, سيعد أمرا ينذر بفشل مثل هذا النظام. 

          ينحصر النهج الشامل لمرحلة الانتقال إلى اقتصاد السوق في دفعة واحدة من الإصلاحات تشمل التحرر والتثبيت والنمو. وينطوي التحرر على تحرير الأسعار والتجارة والدخول لمجال الأعمال من القيود المفروضة من جانب الدولة, بما في ذلك افتتاح مشروعات أعمال جديدة وتوسيع مشروعات الأعمال القائمة أو تجزئتها, وتغيير المزيج من الناتج أو الموردين أو العملاء أو القاعدة الجغرافية. أما التثبيت فيعني تخفيض التضخم واحتواء الخلل في الموازين المحلية والخارجية. فالسياسات الرامية إلى احتواء التضخم هي سياسات لازمة لنمو اقتصاد السوق.

          كذلك فالسياسات الحرة المحبذة للتنافس تخلق الإمكانات الضرورية للنمو المحلي المعزز والتجارة الخارجية وإمكان الحصول على التمويل.

          ويتحقق النمو بفضل الاستثمارات المحلية والخارجية. ويمكن تمويل الاستثمار المرتفع تمويلا خارجيا لبعض الوقت, ولكنه يمول من الادخار المحلي وبصورة غالبة في المدى الطويل. وهذا يعني أن يكون النظر إلى التمويل الأجنبي على أنه عنصر ثانوي ومؤقت, ولا يمكن أن ينهض بديلا عن الجهد الوطني. فلا أحد يبني بيتا لأحد, اللهم إلا كبار الأثرياء من المحسنين الذين يبنون بيوتا للعجزة والمعوقين. ذلك أن الاستثمارات والمعونات الأجنبية لا تستخدم في تغيير هيكل اقتصاد الدول المستقبلة لها فحسب, وإنما تستخدم أحيانا في إعادة صياغة وتركيب الأوضاع الاجتماعية في تلك الدول. ومن ناحية أخرى, فإن تركيز تلك الاستثمارات على مساعدة قطاع الخدمات دون التصنيع والزراعة يعني تلقائيا زيادة عملية الاستيراد من العالم الخارجي. أضف إلى ذلك أن توزيع هذه المعونات على القطاع الخاص يعمل على ضخ أموال أكبر باتجاه فئات معينة.

هل الخصخصة ضرورية?

          والملكية لها أهميتها. غير أن الحاجة إلى الخصخصة ليست ضرورية. ففي العملية الإنتاجية لا يهم أن تكون وسائل الإنتاج في يد الدولة أو القطاع الخاص, وإنما المهم أن تكون في يد إدارة ناجحة.

          وعليه, فلا دخل إطلاقا لنوع الملكية في الحصول على الأرباح. لقد أدت تجارب الخصخصة والبيع للأجانب في كثير من الدول النامية إلى إحداث أثر مدمر على سعر الصرف وعلى استنزاف احتياطياتها الدولية وزيادة عجز موازين مدفوعاتها ومن ثم زيادة حاجتها إلى الاقتراض الخارجي, وعودة سيطرة رأس المال الأجنبي على مقدرات البلاد وثرواتها. ومن ناحية أخرى, فإن بيع القطاع العام للأجانب والاستغناء عن العمال والتقاعد المبكر دعوة خبيثة إلى تخلي المواطن عن العمل والإنتاج, وتهميش دوره في بناء مجتمعه وتحقيق ذاته, وزيادة نصيب الغرباء في الدخل القومي, واعتراف بأن المال هو القيمة الكبرى.

          إن المشكلات الأساسية في الدول النامية هي الفقر والجهل والمرض. فإذا حدث تحسن على هذه الجبهات كلها أو بعضها, فالإصلاح ماض في طريقه المنشود وأمل النهضة الحقيقية قائم. والعكس صحيح في ظل الثقافة الجديدة التي تعمل على تغييب قيم الرضا والقناعة والإيثار والرحمة والتكافل وإحلال قيمة  الإشباع الاستهلاكي غير المحدود وغير المنضبط مكانها, وتهميش بعض المقومات الرئيسية مثل الدين والأسرة.

          وفي التاريخ الاقتصادي الحديث لم يلجأ رواد النهضة الحقيقية إلى قرض ومعونة, ولكنهم كانوا أصحاب حلم وعزم في تأسيس كثير من المشروعات الحيوية في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات. أما رجال المال والأعمال في عالم اليوم فلا تشغلهم مثل هذه الأمور, ذلك أنهم مشغولون بالحصول على وكالات الشركات الغربية الكبرى, أو منهمكون في المضاربة على الأراضي وبناء القرى السياحية. وما ينتجه القلة منهم لا يخاطب أغلبية الناس أو هو فوق طاقاتهم ولا يخدم سوى قشرة محدودة واستثنائية في المجتمع.

          إن ما يهم في نهاية الأمر هو الناس. ويتم الحكم على انتقال بلد ما في النهاية بما إذا كان مواطنوها يعيشون على نحو أفضل مما كانوا عليه من قبل. فإذا كانت النتائج الاقتصادية لا تفيد إلا قلة, وإذا تأجلت العودة إلى النمو زمنا طويلا, وإذا كان الفساد ينظر إليه باعتباره أمرا متوطنا, فإن رد الفعل من جانب الخاسرين سيكون له ما يبرره. وفكرة قياس التنمية بمقدار زيادة دخل الفرد على المستوى القومي لا تعني بالضرورة حل مشكلات أي مجتمع, وإنما قد تعني أن الأغنياء قد ازدادوا ثراء والفقراء ازدادوا فقرا. وتوحي التحليلات التي أجريت عبر البلدان أن المجتمعات التي تفتقر إلى المساواة افتقارا شديدا من حيث الدخل أو الأصول المادية تجنح إلى أن تكون أقل استقرارا من الناحية السياسية والاجتماعية, وأن تكون لها معدلات أدنى للاستثمار والنمو.

          والأمور الجوهرية بالنسبة لعملية الانتقال إلى اقتصاد السوق تتضمن التحرير والتثبيت والخصخصة وتخفيف حدة الفقر. غير أنها ليست كافية لخلق اقتصادات سوق نابضة بالحيوية. ويحتاج البناء على مكابس الانتقال إلى إصلاحات رئيسية تحدد الدمج واستحداث مؤسسات مؤازرة للسوق وقوة عاملة ماهرة ومتوافقة واندماج كامل في الاقتصاد العالمي.

          ويتطلب الأمر لدعم تلك السياسات الاقتصادية وتنفيذها ضرورة وجود مؤسسات قوية وخاضعة للمساءلة. فأي تلك المؤسسات أكثر أهمية?

دور الحكومة

          تتناول الحقوق الاقتصادية في اقتصاد السوق خلق الأطر القانونية من أجل تنمية القطاع الخاص. ويشمل ذلك قيام نظام مؤسسي وقانوني كفء يحدد بوضوح حقوق الملكية وحمايتها, ويضع قواعد تداول تلك الحقوق, وينشئ التشريعات من أجل دخول الأنشطة الاقتصادية أو الخروج منها, وتعزيز التنافس بواسطة الإشراف على هيكل السوق.

          وفي سبيل السعي إلى تحسين عمل السوق يتطلب الأمر قيام المؤسسات المالية القوية من أجل تشجيع الادخار ومطالبة الشركات بالكشف عن مزيد من المعلومات. ويشمل الإصلاح المصرفي وجود استقلال أكبر للبنك المركزي ومعالجة أوجه الضعف في البنوك التجارية والتعامل السريع مع البنوك المضطربة. وفي ظل الوساطة المالية غير المصرفية يتم تنظيم صناديق رأس مال الحوافظ المالية وصناديق رأس مال المشروعات وشركات التأجير وخصم الديون وشركات التأمين. وفي هذا كله تعتبر تنمية أسواق المال أمرا لا جدال فيه للحيلولة دون إساءة استخدامها مثل إجراء المضاربات التجارية.

          أما المؤسسة الضرورية الثالثة فهي الحكومة. ففي ظل اقتصاد السوق يحدث تغيير أساسي في وظائف الحكومة. ويقتضي ذلك تقليص دور الحكومة في إنتاج السلع وتوزيعها وعدم تقييد النشاط التجاري والسيطرة عليه وتدعيم زيادة المسئولية الشخصية عن الدخل والرفاهية.

          كما تتولى الحكومة تحديد أولويات إنفاق جديدة في الموازنة العامة تتمثل في ثلاثة مجالات رئيسية هي: البنية الأساسية, والرعاية الصحية الوقائية, والتعليم الأساسي, وتحتاج الحكومة إلى تطوير السياسة الضريبية وإلغاء الإعفاءات واسعة الانتشار.

تكامل اقتصادي

          ولا تنمو المؤسسات في فراغ. وبالتالي ينبغي أن تستكمل الجهود بالمطالبة بالإصلاح على نطاق واسع. وهذا يشتمل على وجود قاعدة قوية من رأس المال البشري, وإصلاح شامل لنظامي التعليم والصحة من أجل المحافظة على إنجازات الماضي والتواؤم مع احتياجات السوق على حد سواء, والاندماج الأعمق في مؤسسات الاقتصاد العالمي.

          إن زيادة مهارات العمال وقدراتهم هي مفتاح النجاح الاقتصادي في ظل الاقتصاد العالمي الذي يزداد تكاملا وتنافسا. ومن شأن الاستثمار في البشر أن يرفع مستوى معيشة الأسر عن طريق إتاحة فرص أوسع, وزيادة الانتاجية, واجتذاب الاستثمارات الرأسمالية, وتدعيم القدرة على الكسب. وهناك اعتراف عالمي بأهمية الاستثمار في رأس المال البشري بالنسبة للنمو الاقتصادي ورخاء الأسر المعيشي. وقد أسهم هذا الإدراك في تحقيق زيادة عالمية لم يسبق لها مثيل في الالتحاق بالمدارس في العقود الأخيرة. غير أن هذه الاستثمارات وحدها لا تؤدي إلى الإسراع بالنمو. ففي ظل البيئة الخاطئة قد لا تغل الاستثمارات في البشر سوى التبديد للموارد العاطلة.

          وتعتبر قوة العمل المتعلمة جيدا والسليمة صحيا أمرا أساسيا للنمو الاقتصادي. وينبغي أن يكون الغرض الرئيسي من نظام التعليم هو توفير المعرفة والمهارات بالإضافة إلى نشر قيم معينة. والمهارات التي يكتسبها الطلبة خلال تعليمهم يمكن تقويمها وفق ثلاثة أبعاد هي: القدرة على حل نوع معروف من المشكلات, والكفاءة في تطبيق تقنية معينة على مشكلة جديدة, والاستعداد الجيد لاختيار التقنية التي تستخدم في حل المشكلة الجديدة. أما الهدف الأساسي من السياسات الصحية فهو تحسين صحة المواطنين في نطاق قيود معينة حيث تؤثر أربع مجموعات من العوامل في صحة الفرد هي: الدخل, وأسلوب الحياة, والتلوث البيئي ومخاطر المهنة, ونوعية الرعاية الصحية المتاحة.

          والاندماج الأعمق في مؤسسات الاقتصاد العالمي ينطوي على التزامات بقدر ما ينطوي على حقوق. ولقد تطورت مجموعة مشتركة من القواعد والمؤسسات الدولية المهيمنة تشمل بوجه خاص منظمة التجارة العالمية الجديدة والاتحاد الأوربي والمؤسسات المالية الدولية والاتفاقيات الأوربية وغيرها. وفي العقود الأخيرة ينبع التكامل السريع للاقتصاد العالمي من التسليم على نطاق واسع بأن اقتصاديات السوق تحرز تقدما أكبر حين تعمل مع بعضها البعض الآخر, حيث يتم تبادل السلع ورءوس الأموال والأفكار.

اتجاهات وتحولات

          في ظل النظام الاقتصادي العالمي الجديد أصبحت الدول النامية أسيرة للأفكار الوافدة  ولو أدى تطبيق هذه الأفكار إلى تغييرات مؤلمة. ولذا فإنه من الضروري أن نحدد موقفنا من الهوية والتغريب بحيث نتفق على ما ينبغي الحفاظ عليه وما يجب استبعاده ومقاومته, الأمر الذي ينير الطريق أمام مختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها بحيث تصبح على إدراك كاف بمسئوليتها في هذا الصدد. وبعبارة أخرى ما هي ثوابت المجتمع التي يتعين الحفاظ عليها وتحصينها ضد التجريح والعدوان? والثوابت التي أعنيها هي الأصول المطلقة لأن لكل مجتمع مطلقاته. والقائلون بنسبية كل شيء لا يدعوننا إلى العبثية والفوضى فحسب, بل إنهم أيضا يلعبون بالنار. فالأخلاق مثلا ترتكن إلى ميزان ثابت مضبوط لا يتغير بتغير الزمان ولا البيئات ولا الحكام ولا الأفراد, وبالتالي فهي قيم ثابتة لا تصلح الحياة بغيرها في أي زمان أو مكان.

          وباتباع اقتصاد السوق وإلغاء القطاع العام أو تقليص دوره نشأت البطالة الضخمة المستمرة التي تسهم في انتشار الجريمة وعدم الاستقرار والاضطراب الاجتماعي. وواقع الأمر أن هناك مخاطر من أن يزداد العمال في الدول النامية تخلفا عما هم عليه. وهناك بعض العمال يمكن أن يزدادوا هامشية. أما الذين يبقون بمنأى عن الرخاء العام في البلدان التي تتمتع بالنمو, فهؤلاء يمكن أن يعانوا خسائر مستمرة, مما يدير دولاب دورات الإهمال فيما بين الأجيال. ويتعاظم الخطر عندما يتزايد عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء على مدى العقود المقبلة, في حين يزداد الفقر عمقا. وقد تصور البعض أن مفهوم حرية التجارة وآليات السوق هو إلغاء دور الدولة وإطلاق يد القطاع الخاص ليفعل ما يحلو له دون ضابط أو رادع. ونتيجة لذلك ظهر في بعض الدول نوع من الثراء الفاحش الذي ينطوي على معان متدنية من التعالي والرغبة في التفرد عن بني البشر, وتجاهل آلام الآخرين والانفصال عن كل مشاعر الأخوة الإنسانية. وهذه الطبقة من الأثرياء الجدد التي تكسب المال بسهولة دون عناء وبغير عرق والتي ترتقي إلى المراتب الرفيعة دون جهد, لا يستغرب منها أن تبعثر المال بالدرجة ذاتها من السهولة. وتتعيش هذه الطبقة من سباق الاستعلاء والإبهار الذي انغمست فيه, وليس لها دور يذكر في المجال الاجتماعي العام.

          ولسنا ضد الغنى والثراء إن كان من حلال, ولكننا ضد الترف والإسراف. وهناك أمثلة كثيرة عن استعراضات الثراء وفواحشه وعن التقاليد التي تدفع صاحب المال إلى خرق وإشهار ثرائه بمظاهر الاستهلاك الفاجر في مجتمع يضغط عليه الفقر بقوة متزايدة. وهذا يمثل انتقاصا وعدوانا على حق المحرومين, ويثير النقمة - وما أغنانا عنها - ويصبح السلام الاجتماعي في خطر أكيد. وهكذا يصير نظام المجتمع إلى الفوضى والفساد. والفساد هو فساد في التصور وفساد في الضمير وفساد في الحق وفساد في السلوك وفساد في الروابط وفي المعاملات وفساد في كل ما بين الناس بعضهم البعض الآخر من ارتباطات.

 

عبدالرحمن زكي إبراهيم   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات