من صراع الحضارات إلى تعايشها

من صراع الحضارات إلى تعايشها
        

          أطروحات صراع الحضارات لا تهدف إلا إلى تأجيج الصراع بين الإسلام والغرب, وتعيد طرح العداوات القديمة بمفاهيم ونظريات جديدة... فكيف نواجه هذه المفاهيم المغلوطة?!  

          من الافتراضات والاستنتاجات التي تدور حولها أطروحة البروفيسور (صموئيل هنتنجتون) هي المخاطر المتوقعة على الغرب من التحالف الإسلامي ـ الكونفوشي المقبل وتهديده للمصالح الغربية وقيمها وسلطتها, وإن نهضة الصين الاقتصادية ستكون أكبر حدث مهدد للاستقرار بعد انتهاء الحرب الباردة.. لماذا?

          يقول هنتنجتون: أظهر التاريخ أنه كلما تطورت الدول من الناحية الصناعية أصبحت أكثر قوة ونفوذاً وأحياناً تصبح لهذه الدول أطماع توسعية وإمبريالية... ويبدو من المحتمل (لي) أن ترغب الصين في تأكيد نفسها في هذا المجال, فخلال ألفي عام ظلت الصين قوة مسيطرة في شرق آسيا, ولكن منذ عام 1850م تفوقت عليها اليابان ودول الغرب, ولذلك يشعر الصينيون بالذل والهوان, ومن الطبيعي أنهم يريدون استئناف ما يرونه كمكانهم الطبيعي في العالم وأن الحضارات الكونفوشية والإسلامية تتحدث عن الغرب باعتباره الخصم الرئيسي لها.

          وعلى الرغم من عدم تماسك هذه الاستنتاجات, فإن (هنتنجتون) يود من خلالها أن ينبه الغرب ومراكز النفوذ ومؤسسات صناعة القرار إلى أن هناك قوى صاعدة تحمل مخزوناً حضارياً وتاريخياً عريقاً, وإذا ما توطدت أركانها اقتصادياً واستقرت سياسياً, فإن هذا هو الخطر المحدق بالغرب وثقافته (الكونية), فالغرب لا يريد أن يتنازل عن مكانته وتفوقه وريادته, وبالتالي فإن الافتراضات التي وضعها هنتنجتون ليست صحيحة من الناحية التحليلية الاستقرائية للواقع والتاريخ, بل إن ما قاله هو إعادة (شحن بطارية) الغرب الروحية التي بدأت في النفاد كما يعتقد البعض ولذلك فإن مقولات (الصدام المقبل) قد تعني أن شيئا ما ينتظره وما إذا كان باستطاعة الغرب أن يقود الحضارة في القرن القادم أم لا? وهذا أيضاً يقود إلى افتراضين:

          (1) أن مراكز القرار فوجئت بصدور الكتاب الذي أصدره (فرانسيس فوكوياما) (نهاية التاريخ وخاتمة البشر) الذي قال فيه ما خلاصته إن النظام الليبرالي هو أقصى ما يمكن أن يبلغه المجتمع السياسي, فالديمقراطية الليبرالية انتصرت ولن ننتظر الجديد بعد الآن. فهذا القول وإن كان يدعو إلى الفخر والزهو ببلوغ النظام الرأسمالي الحر انتصاره في الحرب الباردة بعد انهيار الماركسية فإن هذا الطرح قد لا يفرح مؤسسات صناعة القرار في الغرب التي يهمها افتعال الصراع وافتراض الصدام القادم, وهذا ما أتت به أطروحة (صدام الحضارات) للبروفيسور هنتنجتون في 1993 م.

          2) أن يكون التخوّف الغربي في محله, والسبب أن تصاعد بعض الحضارات تقنياً وثقافياً ربما يعني أن الغرب سيتراجع عن الصدارة والمكانة الدولية, وهذا نذير غير سار للحضارة الغربية التي تعاني في الأساس تراجعاً روحياً وأخلاقياً, وهذا ما قال به بعض المفكرين والسياسيين ومن بينهم الأمير تشارلز في محاضرته في (ويلتون بارك) بلندن التي دعا فيها إلى استمداد العون من تراث الإسلام في هذا الخصوص.

          والإشكال القائم الآن هو التخوف من الانتقام مما فعلته الحضارة الغربية بالحضارات والثقافات التي أخضعتها لهيمنتها وهو ما اعترف به (هنتنجتون) عندما قال: ابتداء من سنة 1500م بدأ التوسع الضخم للغرب مع جميع الحضارات الأخرى, وقد تمكن الغرب أثناء ذلك من الهيمنة على أغلب الحضارات وإخضاعها لسلطته الاستعمارية وفي بعض الحالات دمر الغرب تلك الحضارات.

          إذن هناك شعور بالذنب في الغرب يقابله شعور آخر مما قد تفعله هذه الحضارات في حال صعودها أو تفوّقها أو نديتها مع الغرب, وهو اعتقاد لا مبرر له على الإطلاق أو على الأصح اعتقاد وهمي تبريري لكوامن نفسية ذاتية في طبيعة الغرب الذي يؤمن بقضية (الصراع) حتى مع نفسه حيث ظل يعاني  عقدة (الصراع) بين مثاليته التي يؤمن بها ومركزية حضارته وبين الواقع الذي يعيشه.

رفض التعدد والاختلاف

          والأخطر في أطروحة هنتنجتون - كما نعتقد - هو تلك الرؤية الأحادية للاختلاف, حيث يرى أن الاختلاف الثقافي دليل الانقسام والتصارع, وهذه - مع الأسف - نظرة شمولية يفترض ألا تقال من الغرب الديمقراطي العقلاني, بحكم أن طرحه الذي يرفعه يؤكد أهمية التعددية والاختلاف والتنوع بين الحضارات الإنسانية, وإذا ما نظرنا نظرة فاحصة إلى تاريخ الحضارات ونشأتها وجدنا أن التعدد والاختلاف سمة عامة في أغلب الحضارات الإنسانية عدا محطات قليلة في فترات الانحطاط والتراجع.

          لكن عندما جاء الاستعمار إلى الكثير من بقاع العالم استعمل ورقته الرابحة عند الاحتلال من خلال (فرق تسد) حيث عمل على وتر الاختلاف وتناقضاته, والتمايز بين الشعوب لتأليب الإثنيات والمذهبيات وحتى الديانات بعضها على البعض الآخر, بهدف استمرار احتلاله البغيض. وهذا في إطار الحضارة الواحدة. أما بالنسبة للحضارات المختلفة, فإن صراعها كان لأسباب اقتصادية أو سياسية ولم يكن الاختلاف الثقافي المبعث الأول للصراع, حتى الحروب الصليبية لم يكن أساسها الاختلاف الديني كما يعتقد البعض وإن كانت حملت اللافتة الدينية, بل إن الدافع الأول لتلك الحروب كان سياسياً واقتصادياً بغض النظر عن الكلام الكثير في هذا الجانب الدقيق والذي يجب أن يوضع في إطاره التاريخي الصحيح. لكن هنتنجتون - كما نرى - لا ينظر هذه النظرة الواسعة للحضارات والثقافات الإنسانية, بحكم رؤيته الأحادية وأحكامه المسبقة أو المدفونة, وإن كان أعطاها البعد الاستراتيجي والتخطيط المستقبلي, واستنتاج هذه الفرضية الشمولية لصدام الحضارات والهويات واختلافها الفارق وانقسام الثقافات وتقاطعها.

          ولاشك في أن الحضارات كيانات ثقافية ضمن عناصر أخرى تدخل في تركيبتها الفكرية والثقافية, لكن التمايز الحضاري والاختلاف الثقافي والديني واللغوي, لا يعني بالضرورة الصدام والصراع, إنما العناصر الأهم للصراع والتصادم المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية التي تسهم في توظيف هذه التمايزات والاختلافات المصلحية, لكن ما قيل في هذا الصدام الحضاري والثقافي مجرد لافتة أو غطاء لستر المصلحة أو الحاجة الأخرى غير المعلنة, بما يستتبعها من هيمنة وسيطرة, وإن وضع تحت شعار الخطر القادم من الهويات والثقافات المعادية للغرب وحضاراته وغير ذلك.

روح العداء ضد الإسلام

          صحيح أن صناع القرار في الغرب يقولون إن الإسلام دين التسامح والسلام, لكن هذا القول لا يستقيم ودرجة العداء في وسائل الإعلام والمؤسسات الاستراتيجية في الغرب, على الرغم من أن بعض هؤلاء الذين يتهمون بالإرهاب الآن لا يمثلون الغالبية في المجتمعات العربية المسلمة, إلا أن بعض الدوائر المؤثرة في الغرب ومنذ عقود عدة, أعطتهم دعاية أكثر مما ينبغي وسلطت عليهم الأضواء بطريقة تبعث على الاستغراب, وهذا ربما يؤكد ما تطرحه بعض القوى في الغرب في إطار البحث عن عدو وإخراجه إلى السطح, لتثبت بالتالي نظرية العدو المفترض كما جاء في أطروحة (صدام الحضارات) ثم يأتي بعد ذلك الحديث عن الخطر الإسلامي والتهديد المقبل للحضارة الغربية, وهذا ما تبرزه الأحداث المتلاحقة والمتتابعة منذ وقوع الزلزال السوفييتي وتداعياته في القرن الماضي حتى وقت التفجيرات في نيويورك وواشنطن الإرهابية.

          وقد أكد على هذا المنظور الاستراتيجي في قضية البحث عن عدو مفترض العميد السابق لجامعة نيس الفرنسية (روبير شارفان) عندما قال: إن رؤية صدام الحضارات تفترض حاجة الدول إلى خلق عدو وهمي أو فعلي يكون بمنزلة (كبش فداء) تتحدد مهمته في تبرير المتاعب الداخلية لتلك الدول والتمويه على تناقضاتها الفعلية, فقد لعبت في هذا الإطار مقولات (التهديد السوفييتي) و(الحرب الباردة) و(إمبراطورية الشر) و(مواجهة الشيوعية) دورا مهما في تبرير المتاعب الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها الولايات المتحدة وأوربا. لكن مع تفكك الاتحاد السوفييتي وبروز عهد العولمة والشمولية صار من اللازم البحث عن عدو خارجي آخر, وما لبث (مرتزقة المجموعات الصناعية والمالية الغربية) أن عيّنوا هذا العدو: (إنه الشرق عموماً والإسلام على وجه الخصوص).

          إن التخوّفات الكامنة في هذا الصدد ترى أن الأسباب الدافعة للصدام هو نمو الحضارة المعاصر نتيجة للدور المزدوج للغرب, فرغم أن الغرب في أوج قوته فهو يواجه حضارات ليست غريبة, وترغب في تشكيل العالم بطرائق غير غربية, في مجال التكنولوجيا الحديثة, فهذه الرؤية التي لا تطيق الآخر, أو تقبل الاختلاف معه, رؤية أحادية في العقلية الأكاديمية في الغرب حيث تضع الخطط والاستراتيجيات للسياسيين والقادة في الغرب, بطريقة غير عادلة, لكنها تضع ما ينبغي أن يكون عليه الغرب من المكانة وفق تلك المصالح والرغبات ولو تم التعسف والقمع والهيمنة في هذه الاستراتيجية. وإلا ماذا تعني الإشارة إلى أن الغرب سيواجه حضارات ترغب في تشكيل العالم, وعلى الغرب ألا ينام قرير العين على طرح (نهاية التاريخ وخاتمة البشر) حيث إن تلك النظرة تستعدي الآخر وتضع التصادم قبل الحوار, وتقدم اختلال الموازين في تعاملها مع الحضارات والهويات الأخرى.

تعايش الحضارات

          والأطروحة أيضا من جانب آخر تخفي الواقع السياسي والاستراتيجي والاقتصادي الذي يعانيه الغرب في داخله, وتبرز فقط ما تسميه بالصراع والصدام, على الرغم من أن كثيراً من هذه الصراعات الموجودة أو التي وجدت في الحرب الباردة, لا ترجع إلى الاختلاف الديني أو الثقافي أو الحضاري أو حتى اختلاف المرجعيات العقائدية. فهذا الرفض للآخر وثقافته يرجع إلى عقلية التمركز الغربي والإقصاء.

          إلى جانب أن فكرة الصراع كامنة في عقلية الغرب حتى مع نفسه وعلى قاعدة (الأنا والآخر) و(الغرب ضد الباقي) وهي عقدة - مع الأسف - لم يتخلص منها الغرب حتى الآن.

          والشيء الذي ربما نسيه هنتنجتون أو تناساه وبعض الاستراتيجيين في مؤسسات صناعة القرار في الغرب, أن التاريخ أثبت أن الإرادات الإنسانية لا يمكن إلغاؤها أو كبحها بصورة نهائية, وأن الخوف أو التراجع في زمن أو مرحلة من المراحل قد يؤجل أو يخمد الرغبة في إبقاء هذه الإرادة حبيسة في الذهن لحين تحريكها, إلى وقت آخر, يكون زوال ذلك الظرف فرصة لانطلاقها. بمعنى أن نضال الشعوب لنيل حقوقها المشروعة سيظل قائماً مهما كانت تحوّلات موازين القوى في العالم, وهذا ما تم تجاهله من قبل هنتنجتون وبعض الاستراتيجيين في الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة, وركزوا فقط على قضية الصراع بين الغرب والإسلام وبعض القوى الصاعدة في القرن الواحد والعشرين.

          فالحضارات تقابلت وتعايشت وتصارعت لكنها ظلت أقرب للتعايش والتسامح, وبقي الصراع والتنافس محدوداً بظروف معينة, فالأهم هو الاستعداد للتعايش والندية في التعامل, ويجب على الإنسانية أن تفهم بشكل أفضل لغة الحوار مع الأمم الأخرى, ولهذا نحتاج إلى سياسة ثقافية تقوم على فهم طبائع الشعوب بحيث نصبح قادرين على التعامل مع خصائصها المتميزة في التفكير, بدلا من الحديث عن أن خطوط التماس بين الحضارات ستكون خطوط الحروب في المستقبل. وأن الحرب العالمية القادمة - إن نشبت - ستكون حرباً بين الحضارات, وأن للإسلام حدوداً دموية.

          وهذا ربما ما تبتغيه أطروحة (الصدام بين الحضارات) لأنه لا يمكن أخذ هذا الاستنتاج إلا في هذا الإطار, بحيث أصبحت المقولة واضحة المعنى بكل إفرازاتها السلبية (المناطحة... وتأجيج العداوة... وصراع الهويات) والحق أنه لا الإسلام ولا المسيحية في تاريخهما الطويل يأخذان الصدام أيديولوجية, مضادة للآخر إنما الذي أجج الصدام هو عوامل أخرى يجب أن توضح في إطارها التاريخي, وهذه قضية لها تقييمها من أهل الاختصاص, لكن اللافتة الجديدة للصدام ليس لها مبرر على الإطلاق لكنها تقدم الهيكل النظري الذي يجعل كلاً من الإسلام والمسيحية يرى في الآخر شيطاناً, وهو بذلك إنما يعلن نبوءة ذاتية التحقق.

ضرورات الحوار

          ويتساءل البعض من المفكرين والمثقفين عن جدية الحوار بين الحضارات وضرورة تعايشها في ظل هذه المقولات والإصرار على دورها في تعزيز الهويات وتهميش صعود وبروز بعضها مستقبلاً في ظل غياب معايير الندية والتكافؤ, وقد لا نغالي إذا قلنا إن جزءاً كبيراً من هذا السؤال له من المبررات المقبولة ما يعني أن ثمة حاجة ماسّة لوضع أسس واضحة لنجاح هذا الحوار وتقوية منطلقاته المهمة, والقضية أن الحوار مبدأ أصيل في الإسلام وفي الديانات السماوية, إنما الأهم أن يكون الحوار مجدياً وناجحاً, ولا أعتقد أن أحداً سيقول إنني أرفض الحوار, لكن من الواضح أن الحوار الذي يحقق أهدافه في تعايش ووئام الأمم والحضارات يجب ألا يقوض بالافتراض المتعارف عليه في عصرنا الحالي الذي يجعل القوي يفرض ما يراه منسجماً مع نزعاته وقناعاته غير العادلة, فإن هذا الحوار يصعب نجاحه إذا ما أريد له النجاح المؤمل منه.

          أما إن تحققت النزاهة والموضوعية في قضايا الاختلاف, وفي إطار التعدد الثقافي والتمايز الحضاري والنظرة العادلة التي (تعطي كل ذي حق حقه) فإن هذا الحوار سيعزز مستقبل الإنسانية بالوئام والتعايش بدلاً من التنافس والصدام وتكريس الكراهية.

 

عبدالله العليان   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات