توظيف العنف في خدمة الصهيونية

توظيف العنف في خدمة الصهيونية
        

قراءة أخرى في مسار الصراع

          لا يمكن قراءة تاريخ الصهيونية وتقييم مسارها بمعزل عن قراءة التاريخ العالمي خلال قرنين من الزمن, خلال القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين, ومن خلال أوضاع عالمين: العالم الغربي والعالم العربي - الإسلامي. 

          الصهيونية على صعيد النشأة والتكوين هي ظاهرة تاريخية غربية حملت كفكرة وحركة تنظيم معطيات القرن التاسع عشر الأوربي وسياقات وحاجات التوسع الإمبريالي للرأسماليات الغربية في مطلع القرن العشرين.

          ففي مضامينها يمكن أن نقرأ تأثير القوميات الإمبريالية الشوفينية العنصرية, ووظائف الإمبرياليات تجاه العالم العربي. فهذه القوميات التي أفرزت (اللاسامية) أي معاداة اليهود, كانت بوجه من الوجوه العالم المستفز والمميز للوجود الأقلوي اليهودي في المجتمعات الأوربية. وفي إطار الاستجابة اليهودية لهذا التحدي الكبير الذي اتسم بالاضطهاد والنفي للآخر, كان توظيف الرأسماليين اليهود والنخب اليهودية للإمكانات اليهودية الاقتصادية والعلمية والثقافية والدينية في مشروع جامع (للشتات) لاستعمار فلسطين واكتشافها على قاعدة القراءة الجديدة للتوراة والتلمود, قراءة أرادها الأوائل الصهيونيون (قومية).

          وقدم صراع الإمبرياليات الغربية مطلع القرن العشرين ومشاريعها لاحتلال المشرق العربي واقتسام (أملاك الدولة العثمانية) ثم انتدابها واستتباعها اقتصادياً وسياسياً, المخارج التاريخية المعروفة, منذ وعد بلفور حتى قيام إسرائيل عام 1948, وصولاً إلى الحروب التوسعية الإسرائيلية التي غذتها أو غطّتها الاستراتيجيات الغربية على اختلاف حساباتها وأهدافها.

          لا شك في أن (مكمن) نجاح الصهيونية بشكل عام, هو في اندراج مشروعها في صميم الاستراتيجيات الغربية تجاه المنطقة العربية. لكن التشديد على السياق التاريخي (الموضوعي) ينبغي ألا ينسينا أهمية العوامل الذاتية للوبي اليهودي في العالم: اللوبي الاقتصادي والعلمي والثقافي والإعلامي. كما ينبغي ألا ينسينا دور الدينامية الفاعلة للمهاجر اليهودي إلى فلسطين. فهذه الدينامية كانت وراء إنشاء (دولة حديثة) و(مجتمع) و(مؤسسات حزبية ونقابية وثقافية وأكاديمية فاعلة وذات دور في صناعة القرار الإسرائيلي).

          على أن العنف والإرهاب كانا على الدوام وسيلتي هذه الدينامية تجاه الآخر أي تجاه عرب فلسطين وجوارها. إنه العنف الذي لا بد منه لكي لا يستقيم (المجتمع الاستيطاني الإسرائيلي) المفروض على جثث الآخرين, أو على مطاردتهم إلى الأبد.

          ولعل مأزق إسرائيل كتجسيد للمشروع الصهيوني يكمن هنا بالذات. فالطاقات والإمكانات المعبأة عالمياً وديناميات المجتمع, تظل جميعها في خدمة العنف الذي هو شرط قيام إسرائيل, بل هو شرط استمرارها.

مداخل لا أهداف

          وأحسب أن الخلاف الذي بدأ يتبلور بين اتجاهين صهيونيين منذ نهاية الحرب الباردة, وبين حزب العمل وحلفائه والليكود وحلفائه, حول استراتيجية التفاوض مع العرب وأفق (الحل السلمي) المدّعى وأبعاده وشروطه, يقع في حيز المداخل لا في حيز الأهداف.

          فالمدخل الاقتصادي عند بيريز لا يلغي استخدام العنف كما دلت على ذلك عملية (عناقيد الغضب) في لبنان والدور الذي قام به في مؤازرة جرائم شارون عندما كان وزيرا لخارجيته. والمدخل الترهيبي العسكري عند ناتنياهو كما يفسره - (حمل العرب على عدم ضرب رءوسهم بالحائط), الحائط الإسرائيلي, أي (تشريطهم) بالعنف ليصبحوا (مسالمين) أي (مستسلمين), وهو هذا بالذات ما هدفت إليه هجمة شارون الأخيرة على الشعب الفلسطيني. وإذا لم ينفع (التشريط) فهو يحاول الترويع والتجويع بواسطة أعتى وسائل القتل والتدمير, محاولاً استعادة تجربة العام 48 بشكل أعنف وأكثر وحشية وإرهاباً. وكل هذا ينم عن ضعف تكويني في المشروع الصهيوني, وصل إلى أقصى مداه اليوم. ولذا تحاول الصهيونية أن تجدد نفسها عبر أحد هذين الاتجاهين, أو عبر تحالفهما معاً. ويبدو أن التجديد الصهيوني صعب مع الإبقاء على (الثوابت). لذا نلاحظ على موازاة الانقسام على صعيد المشروع الصهيوني ذي (الطابع العلماني) النسبي, انقسامات حادة على مستوى المجتمع المدني والأهلي الإسرائيلي بين قوى ديمقراطية سلمية وعلمانية وقوى دينية (أصولية) ذات نفوذ في المجتمع والتعليم والدولة, وما عملية اغتيال رابين إلاّ التعبير عن صعود هذا التيار وتأثيره. لكنها أيضاً التعبير عن بداية أزمة عميقة في الحركة الصهيونية, أزمة ستتفاقم مع صعود التيار الديني من جهة, وتوسع قاعدة القوى الديمقراطية الإسرائيلية للتحالف مع المواطنين العرب من جهة أخرى. وستجد الأحزاب الصهيونية التقليدية نفسها أمام مأزق سلطة يتكرر بشكل دوري. لكن نقطة الضعف هذه لا تصبح ضعفاً بيّناً, إلاّ إذا وُظِّفَتْ في استراتيجية عربية. ولما كانت الاستراتيجية العربية غائبة, فإن الضعف الإسرائيلي لا يبان ضعفاً. بل إن نقاط قوة لا تزال تملكها الحركة الصهيونية وإسرائيل تغطي هذا الضعف, منها: قوة اللوبي اليهودي الأمريكي المسيطر على الإعلام العالمي ومراكز اتخاذ القرار وأقنيته, وقدرته على أن يؤثر في سياسة الإدارة الأمريكية الأخيرة إلى حد التطابق لدرجة تجعل الإنسان يرى أنها (حرب أمريكية) تخاض بجيش صهيوني.

بين النكبة والنكسة

          ليس من الإنصاف أن نقول اليوم من موقع اليأس أو الإحباط, إن التاريخ العربي في تصديه للصهيونية كان تاريخ هزائم. ففي رؤية أحادية يمكن أن نرى, كما رأى البعض, خيطاً يربط ما بين (النكبة) و(النكسة) و(الهزيمة) ومصطلحات أخرى من هذا الباب, لكن رؤية تاريخية أشمل أكثر جدلية, أي أكثر وعياً للماضي وأكثر استشرافاً للمستقبل, ترينا الصور بكل ألوانها وأوجهها.

          فالعرب دخلوا الحياة السياسية الداخلية والعالمية بعتاد ضعيف وهزيل, بل دخلوها في مطلع القرن, وفي سياق الاستقلالات السياسية في منتصف القرن بلا عتاد أصلاً. وأقصد بالعتاد لا العتاد العسكري والتقني فحسب, بل العتاد الفكري والثقافي والعلمي. دخلوا الحياة السياسية, أي حياة الدولة والمجتمعات والأنظمة العالمية والإقليمية بلا تجارب ولا تراكم وبلا وعي تاريخي أو استراتيجي.

          وكان أن احتلت عملية التصدي للصهيونية صفحة أساسية من نهضتهم هذه. بعضهم رأى في هذا التصدي سبباً أعاق نهضتهم بما هي مشروع إنماء ونمو, وبعضهم الآخر رأى في هذا التصدي حافزاً لتحقيق إنماء في بعض القطاعات وتحديات من شأنها أن تطلق نهضة عربية جديدة.

          على أن أهم نقاط التفوق في التصدي العربي لإسرائيل هي في قدرة المجتمعات العربية برغم تفككها وضعفها البنيوي - الاقتصادي والعلمي - على أن تنتج مقاومة باسلة هذه أهم مظاهرها ومحطاتها: المقاومة الفلسطينية في مراحلها الأولى, حرب أكتوبر والعبور, المقاومة اللبنانية, الانتفاضة الفلسطينية والتي لا تزال تتصاعد مرحلة بعد مرحلة.

          على أن دروس المقاومة سواء النظامية منها أم الشعبية, تشير إلى أن المشكلة تكمن في عدد من نقاط الضعف المترابطة.

          غياب التنسيق الاستراتيجي العربي بحده الأدنى برغم تكاثر القمم وبرغم وجود جامعة الدول العربية, الأمر الذي يضعف القرار العربي, بل ويغيّبه حتى عن حقل السياسة (التوظيفية) التكتيكية للمقاومة, بما هي عناصر لاستراتيجية عربية أشمل.

          وغياب التنسيق الاستراتيجي العربي يظهر أيضاً في شتى القطاعات ولاسيما في قطاع التسويق والاستثمار ومشاريع الإنماء على امتداد الأقطار العربية, ومن المعروف أن التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية ضرورة وهدف يتحدث عنهما الاقتصاديون العرب منذ زمن بعيد.

          ولكن لا شيء من هذا تحقق. بل إن ظاهرة التفكك والاستتباع إلى مراكز الاستثمار العالمي في الخارج تتفاقم. وهذا من شأنه أن يضعف الإرادة العربية القطرية ويمنعها من اتخاذ أي قرار سياسي مستقل. وإلا فإنه سيكون مكلفا, وعقاب (الحصار) أضحى في السياسة الأمريكية أسلوب (تأديب) معروفا.

          وإذا كنا قد أشرنا إلى قطاع الاقتصاد, فإن ذلك لا يعني أن القطاعات الأخرى هي أحسن حالا, فنظرة إلى المواصلات, كمؤشر لحجم وطبيعة العلاقات ما بين الدول العربية, ترينا ضعفا وانقطاعات مذهلة. الأمر الذي يجعل الباحث يتذكر ويتساءل, أليست سكك الحديد التي ربطت بين المحيطين وبين ولايات الشمال وولايات الجنوب هي التي ساعدت على وحدة الولايات المتحدة الأمريكية وقوتها الاستراتيجية والاقتصادية منذ منتصف القرن التاسع عشر, عدا عن التذكير اليوم بوحدة أوربا برغم تنافر تاريخها وعدد قومياتها ومذاهبها الدينية وصراعاتها الدموية القديمة الحادة!!

          التفوق الاستراتيجي ليس تفوقا عسكريا فحسب, إنه تفوق على كل المستويات, على مستوى الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة واستقلال القرار. وأن دروس المائة عام على الصعيد العربي تشير إلى أن العرب مروا بتجارب غنية سواء على مستوى الأنظمة السياسية وأفكار بناء الدولة, أم على مستوى مشاريع الإنماء وبرامجها, أم على مستوى طرائق التفكير والعمل.

تجريب الأفكار

          لقد جرّب العرب أفكار الليبرالية السياسية في بعض الأقطار وبعض الأزمنة وجرّبوا أفكار الاشتراكية, القومية والديمقراطيات الشعبية, في بعض الأقطار وفي زمن آخر, وجربوا على صعيد بعض الدول والأحزاب الفكر السياسي الإسلامي, والمهم اليوم أن نستفيد من هذه التجارب استفادة تراكمية لكي نتجاوز سلبيات كل تجربة. ذلك أن اللافت للنظر هو أن أصحاب كل تجربة أو أصحاب كل مشروع يتوهمون أنه ينطلق من الصفر, من (البيان الأول) لاغيا التجربة السابقة, أي لاغيا التاريخ ومؤسسا (لتاريخ جديد). والحاصل أن التاريخ لا يلغى, بل يتم تجاوزه من خلال التراكم, وهنا يكمن مأزق العرب اليوم: بناء تاريخ جديد لاستراتيجية جديدة.

          نحن نمر في مرحلة تفاعل وتمخض, وفي هذه المرحلة يصعب تقديم بدائل من موقع التأمل وحده, فكثيرة هي الدراسات التي تقدم الاقتراحات لاستراتيجية عربية جديدة, يكفي إلقاء نظرة على ما تم تأليفه ونشره في إطار جامعة الدول العربية, أو من خلال مركز دراسات الوحدة العربية, أو من خلال المراكز البحثية والأكاديمية العربية, كمركز دراسات الأهرام أو غيره من مراكز الدراسات.

          على أن المتأمل يندهش لكثرة الدراسات والاقتراحات والسيناريوهات التي كتبت خلال السنين العشر الأخيرة. بل يندهش لقلة أو انعدام تأثيرها في القرارات العربية, يندهش لعدم تراكمها وعدم تحولها إلى تيارات أفكار وأقنية إيصال وتأثير في الفكر السياسي العربي وفي صناعة القرار.

          وأمام هذه المعضلة يجب أن ينصبّ البحث والتأمل لا على التفكير باقتراحات (لاستراتيجية جديدة) بل على التفكير بأمرين أساسيين:

          الأول: نقد التجارب القديمة واستيعابها وتجاوزها.

          الثاني: تحليل الواقع العربي الراهن تحليلاً يسمح بوضع اليد على الحلقات القوية والحلقات الضعيفة فيه.

          الحلقات القوية: لكي يتم تثميرها وتقويتها وأهمها الموقع والجيوبولتيك والثروات الوطنية لكي تتكامل (البترول, الزراعة, الثروات المعدنية).

          أما الحلقات الضعيفة التي تعطل تثمير الحلقات القوية فتكمن - في رأيي - في حال الترهل الثقافي والعلمي, وفي حال كم الأفواه ومنع الكتاب والحظر على تداول الأفكار. وعلى موازاة ذلك, نشهد شيوعاً للأمية إذ بلغ متوسط نسبة الأمية في العالم العربي خلال العام 1990 (49%), عدا ترهل الإدارة وفسادها.

البحث عن استراتيجية

          في ظل مثل هذه الأوضاع كيف يمكن توقع (استراتيجية جديدة) للصراع مع الصهيونية?

          في مقال للزميل أنطوان حداد (اتساع الفجوة العلمية بين العرب وإسرائيل), بعض من معطيات رقمية احتسبها الكاتب من الكتاب السنوي الإحصائي الصادر عن اليونسكو عام 1993 وعن تقرير التنمية البشرية لعام 1993. ومن المفيد في هذا السياق إيراد بعضها:

          (تنفق إسرائيل سنوياً نحو 1,185 مليار دولار على البحث والتطوير, أي تقريباً نصف ما ينفقه العرب مجتمعين (3,15 مليار دولار) و25 ضعف ميزانية البحث والتطوير في مصر التي لا تتجاوز 62 مليون دولار. ويعني ذلك أن كل باحث إسرائيلي يتمتع بميزانية سنوية تبلغ 63240 دولارا بما فيها الراتب وهي أعلى ميزانية فردية على الإطلاق في العالم, فيما يكتفي نظيره المصري بـ2500 دولار سنوياً, بما فيها الراتب طبعاً. وفي مجال إصدار الكتب, يصدر في العالم العربي سنوياً نحو 6400 كتاب جديد تشكل 0,8 من مجمل العناوين الصادرة في العالم والتي بلغ عددها 842000 كتاب بعد عام 1990. إذن نسبة ما ينتجه العالم العربي من كتب هي 0,8% من النتاج العالمي, فيما يشكل العرب 4,2% من سكان العالم).

          على أن الوضع التاريخي ليس جامداً, المشروع الصهيوني مأزوم ومقفل تاريخياً بيد أن مشروع النهوض العربي مفتوح تاريخياً, ولذا فإن المستقبل له.

          غير أن المستقبل يتطلب توجهات أخرى في المنهج والتفكير, وعلى مسارين متقاطعين ومتداخلين أولهما السعي من أجل استقلالية الأنظمة العربية في قراراتها عن مراكز السياسات الدولية وضغوطها ومداخلاتها, وثانيهما استثمار طاقات المجتمعات الوطنية التي تزخر بالثروات والإمكانات

 

وجيه كوثراني   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





من الاحتلال حتى عشية حرب 1948





بعد حرب 1948





إسرائيل الكبرى





الهجرة اليهودية لفلسطين عام 1948