يوسف إدريس وأصالة الهوية

يوسف إدريس وأصالة الهوية
        

          كان وعي يوسف إدريس المبكر باستقلالية الكتابة هو الوجه الآخر لاستقلال الوطن.  لذا فقد بدأ وانتهى محاربا من أجل تحرير الكلمة من كل أنواع التبعية. 

           أولى علامات الأصالة في كتابة يوسف إدريس (1927-1991) الحرص على أصالة الهوية, فقد كان يوسف إدريس - منذ أن أمسك بالقلم - مهموماً بقضية التبعية السياسية والفكرية والثقافية والإبداعية, وقرر أن الكتابة في وطن محتل - وكانت مصر لاتزال وطناً محتلاً عندما بدأ الكتابة - لا يمكن أن يكون لها معنى إلا إذا استمدت نسغها من تراب الوطن بهمومه المتعينة وخصوصية مشكلاته. واستطاعت صياغة هذه الهموم والمشكلات صياغة إبداعية جديدة, تؤكد استقلال الهوية الفكرية والثقافية والإبداعية وتميزها.

          وكان هذا الوعي الثوري الباكر نتيجة المثاقفة التي كانت استجابة واعدة للشرط التاريخي للحظة التي تشكّل فيها وعي يوسف إدريس الشاب. أعني اللحظة التي ارتبطت بصعود الحركة الوطنية ضد الاستعمار والقصر والرجعية, وتطورها سنة 1946 إلى حركة ثورية يتصدرها الشباب من الطلبة والعمال والمثقفين, خصوصا الطليعة التي أطلق عليها (اللجنة الوطنية للعمال والطلبة) والتي تكونت في فبراير 1946, من داخل الجامعة المصرية, وكانت كلية الآداب مركزها المؤثر كما كانت كلية طب قصر العيني التي درس فيها يوسف إدريس الطالب علوم الطب, ودرس في تجمعاتها الثورية علوم السياسة ومعاني الوطنية والاستقلال, وأهم من ذلك مبادئ الانحياز إلى اليسار والطبقات الكادحة التي ظلت حلم المستقبل وعلامة التقدم. وكما ارتبطت (اللجنة الوطنية للعمال والطلبة) بالتيار الوطني الصاعد, في تمرّده على الاحتلال والتبعية والاتّباع, ارتبط المتحلقون حول هذه اللجنة والمنتسبون إلى شعاراتها بالقوى الشعبية التي قررت إعلان الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية في منطقة القنال, وفي الوقت نفسه الكفاح بالكتابة ضد أعوان الاحتلال والقوى الرجعية التي ظلت تعمل على إبقاء وضع التبعية والاتّباع.

          هكذا تلازم معنى الثورة السياسية بمعنى الثورة الأدبية في وعي يوسف إدريس الشاب منذ لحظة البداية, تلك اللحظة التي استعادت ملامحها فيما بعد (قصة حب) وقصص الكفاح المسلح, والتي تجسّدت في وعي الكاتب الشاب مبدأ لم ينفصل عنه طوال حياته, وظهر ذلك في تضافر بعده السياسي مع بعده الإبداعي, وفي مدى الممارسة التي خاضها الطالب الشاب الذي سرعان ما عانى عملية الكتابة التي تؤكد استقلالها الإبداعي وأصالتها, وذلك في موازاة عملية الممارسة السياسية التي كانت تأكيداً لاستقلال الكتابة والتزاما بأفقها المتحرر الذي لا يتردد في نقض الجمود العقائدي, حتى في دائرة الأصدقاء.

كتابات متمردة

          وكانت النتيجة أن لفتت كتابة يوسف إدريس القصصية الأولى الأنظار إليها, حين نشرت في جريدة (المصري) وكان لايزال طالبا في كلية الطب - بوصفها كتابة مغايرة, غاضبة, متمرّدة, ممتلئة بغبار الطلع ونسمة البداية العفية, كتابة لم تكن تسعى إلى تقليد هذا الكاتب اللامع أو ذاك, بل إلى أن يكون لها صوتها الخاص ورؤيتها الأصيلة. ولم تتردد هذه الكتابة في تمثّل منجزات العالم الإبداعية المتاحة, وظلت حريصة على هذا التمثل الذي لم يتوقف لحظة واحدة, طوال امتداد زمن الممارسة الإبداعية, فشمل فعل التمثل كتابات موباسان (1850-1893) وجوجول (1809-1852) وتشيكوف  (1860-1904) وهيمنجواي (1898-1961) وكافكا (1883-1924), غير مغفل كتّابا آخرين ابتداء من وليام فوكنر(1890-1961) وجون شتاينبك (1902-1968) وانتهاء بألكسندر سولجنتسين(1918- ) وجابرييل جارثيا ماركيز الذي حصل على جائزة نوبل سنة 1982.

          ولكن كتابة يوسف إدريس بقدر ما تمثّلت الإنجاز العالمي في مجالها, وحاورته وتفاعلت معه التفاعل الخلاّق الذي أبقى على حيوية نبضها في علاقتها بالسياقات الإبداعية للعالم حولها, لم تغفل قط حرصها على تفرّدها, وعلى أن يكون لها حضورها المتأصل في علاقات الكتابة العربية التي تولّدت فيه, وظلت حريصة على التفرد في سياقاته. وكانت نقطة البدء في ذلك هي الواقع الاجتماعي المعين الذي ينطوي على المفارقات التي تصنع عالم المواطن العادي البسيط, أو الكائن المنسحق الباحث عن موضع قدم وسط تصارع قوى لا ترحم. وكانت هذه المفارقات بمنزلة لحمة الكتابة القصصية وسداها في النسيج الذي صنع منه يوسف إدريس (حكاية مصرية جدا) متعمدا تكرار هذا العنوان الدال على غاية مسعاه وخصوصية عمله على السواء.

          وتتجلى هذه الخصوصية في ملامح (البطل) الأساسي في أعمال يوسف إدريس, حيث بؤرة عدسة الكتابة مسلطة في أغلب الأعمال على المواطن البسيط, البائس, الساعي وراء أحلام العدل الاجتماعي, والباحث في ليل القرية أو قاع المدينة عن كسرة خبز, أو زجاجة دواء, أو لحظة دفء, أو أمل في الحرية, فذلك هو نوع البطولة الذي تجسد في رحلة عبدالكريم الليلية المحبطة في (أرخص ليالي) (1954) والصول فرحات في (جمهورية فرحات) (1956) الخيالية التي يتوهمها ويحكي عنها لأحد المعتقلين السياسيين الشباب. ونوع البطولة الذي أبرزته شهرت في (قاع المدينة) (1957) حيث يمارس القاضي دورا لا يقل بشاعة عن دور (العسكري الأسود). أقصد إلى خصوصية النوع الذي يجعل من فاطمة في (حادثة شرف) (1958) الموازي القروي من حادثة (الستارة) في (آخر الدنيا) (1961) وذلك في التجاوبات السياقية التي تصل بين فهمي في (لغة الآي آي) (1965) وحامد في (النداهة) (1969) والأرملة ببناتها في (بيت من لحم) (1971) والشحاذ في (حكاية مصرية جدا) التي تضمها مجموعة (أنا سلطان قانون الوجود) (1980) والموظف الذي يتغير حوله كل شيء, فيضيع منه كل شيء, ولا يبقى له سوى رغبة الانتحار في قصة (19505) من مجموعة (اقتلها) (1982) فيبدو بطلا موصولا بنظيره حسن في (العتب على النظر) (1987).

مواطن عادي... لكنه غاضب

          هذا النوع المتميز من الشخصيات في مجموعات القصة القصيرة هو نفسه الذي يبسط حضوره المتكرر في تجلياته المتنوعة في الروايات. يستوي في ذلك أن نتحدث عن (قصة حب) (1956) أو(الحرام) (1958) أو (العيب) (1960) أو (البيضاء) (1960) أو (العسكري الأسود) (1961) أو (السيدة فينا) (1962) أو (رجال وثيران) (1964) أو (نيويورك - 80) (1980) ففضاء الأزمة المتكررة للشخصيات يشمل نماذج متقاربة في المنزع والدلالة, فتصل بين المرأة التي تسقط نتيجة الضغوط الاجتماعية للفقر في القرية (الحرام) والمدينة (العيب), كما تصل بين المثقف الثوري الذي يسعى إلى تغيير الواقع, فيواجه قوى الاحتلال وقوى الفساد معا (قصة حب). ويعاني وحشية قمع الحراس الذين يحمون مصالح الواقع (العسكري الأسود) ويصدم بالآخر - الحضارة والثقافة, في سبيل تأكيد الهوية (البيضاء, السيدة فينا, نيويورك - 80). ومهما تباينت ملامح هذا البطل فإنه يظل منتسبا إلى نوعه, ومرتبطا بغاية كاتبه الذي أكد أنه لا يكتب إلا بصدق وإحساس عن نفسه, وعن الأنفس التي يعرفها واقعا أو إمكانا, وعن غيره من الشخصيات التي لا تقل معرفته بها عن معرفته بنفسه ومن حوله.

          ولقد كانت حياة المواطن المصري العادي بكل ما فيها هي المنبع الذي اعتمد عليه يوسف إدريس في صياغة حياة نوع البطل الذي عرفه كل المعرفة فأراد تجسيده إبداعيا, والانحياز له فكريا. ويتجلى هذا المواطن في كتابة يوسف إدريس حيا, متوثبا بالعافية الإبداعية, ينبني على ملامح إيجابية لا تخطئها العين الفاحصة, فهو مواطن لا تبدد حضوره الحيوي القيود الاجتماعية المفروضة عليه. أو براثن القمع السياسي التي تنهشه. ولذلك لا نجد في التجليات القصصية لهذا المواطن الصفات السلبية التي انبنى عليها بطل تشيكوف الشهير - إيفان ديمترفيتش تشرفياكوف - في قصة (موت موظف) الشهيرة, وإنما نجد الكثير من الصفات الإيجابية, أو - على الأقل - الصفات المصرية الإدريسية التي نلمحها في خفة الظل, وروح المرح, والإحساس الساخر بالأشياء, والانبثاق العفوي بالنكتة, والفهلوة, والتركيبة المتناقضة التي تمزج الشجاعة بادعاء الجبن أو مشاعر الخوف, والتي تخلط البطولة باللابطولة, ولا تتردد في خلط الحقيقي بالمجازي. هذه الصفات لا تفارق الشخصية التي تخدعنا بساطتها الظاهرية, وأحيانا مراوغتها الأيسوبية, ولكنها لا تلهينا عن الانتباه إلى ما يجعل منها نموذجا بشريا من نوع مخصوص, نوع نجده في معجزة الخادمة (الطفلة) الصغيرة التي تصوّرها قصة (نظرة) وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب العنكبوت في الأرض, ونجده في سخرية المريض القادم من أسيوط, حيث نلتقي بالمجلى الأول لشخصية فهمي في (لغة الآي آي). وأضيف إلى ذلك شتائم برعي في (أرخص ليالي) والثورة العارمة التي يقابلنا بها (الشيخ علي) فلا نملك إزاءها سوى الابتسامة المتعاطفة مع الملامح الفرفورية لثورته حين لا يجد الطعام, فيستمطر الكون كله وأنبت (طبلية من السماء) في مجموعة (حادثة شرف). وغير بعيد عن عنصر الكتابة المتضمن في تكوين (الشيخ علي) العنصر الرمزي الذي يتجسّد به (حمال الكراسي) النحيف المعروق بساقه الضامرة, وجسده الذي صنع فيه العرق ترعا ومصارف, وأنبت شعرا وغابات وأحراشا, وهو يحمل كرسيا لا يقل وزنه عن طن - أو ربما أطنان - ويتحرك به, كأنه المجلى السياسي للأصل الاجتماعي الذي أنتج حركة الخادمة الطفلة التي تحمل الدنيا فوق رأسها الصغير في قصة (نظرة).

          ومهما كانت تجليات هذا النوع المتميز من الشخصيات, فإنها لا تكف عن الإشارة إلى خصوصيتها وهويتها في آن, مؤكدة نوعية إبداعها الذي انطلق من واقعه المتعين, حريصا على الغوص في تفاصيل علاقات وملامح شخصياتها, ساعيا إلى العثور في خصوصية العلاقات والشخصيات على جذرها الإنساني الذي هو جذرها المحلي, وذلك في ممارسة إبداعية خلاقة, تثبت سلامة نهجها الذي لايزال أقصر الطرق للإبداع الذاتي الذي يمكن أن يتميز به قلم كاتب.

قصة مصرية جداً

          ولذلك ظل حلم كتابة قصة (مصرية جدا) يؤرق يوسف إدريس منذ الخمسينيات, وظل يسعى إلى تحقيقه, مخلصا في الإيمان بحلمه, متنقلا ما بين كل تقنية رأى فيها إمكان العون على تحقيق الهدف الذي جعله نصب عينيه, والذي استطاع الوصول إليه بجدارة, ولا أظنه استطاع أن يخاطب الجماهير العريضة من المثقفين على امتداد الوطن العربي, وينال إعجابها, إلا لأنه غاص في قرارة الواقع المصري, ابتداء من واقع القرية حيث الحياة التي يمكن أن توصف بأنها (أرخص ليالي) إلى (قاع المدينة) حيث الحياة التي تتشكل بآليات مختلفة وقواعد أكثر تعقيدا, واستطاع هذا بعبقرية فريدة وموهبة فذة, وقدرة على صياغة الرؤى الخاصة, أن يحقق إنجازاً في القصة القصيرة لا نستطيع أن ننسبه إلى الأدب الفرنسي أو الإيطالي أو الأمريكي, بل لا نستطيع أن ننسبه إلا إلى صاحبه, فالخصوصية تطل دائما بما يؤكد القيمة, والهوية بارزة الملامح بما يجسد الهوية التي لا تقبل التشابه مع الغير, خصوصا حين يدني التشابه بأطرافه إلى درجة من الاتحاد.

          لم يكن من قبيل المصادفة أن يتمرد يوسف إدريس على القالب المسرحي الذي كتب فيه (ملك القطن) - فيما وصفه بعد ذاك - أو (اللحظة الحرجة), أقصد إلى القالب الذي وصفه بعد ذلك حين تمرد عليه, وقرر هجره إلى الأبد, خصوصا بعد أن أدرك أن هذا القالب (المستورد) لا يستطيع أن يفي بمشكلات مجتمعه الخاصة, وأحلامه المتفردة, ورؤاه النوعية التي ترتبط بواقع مختلف متميز, ومن هنا, فكّر يوسف إدريس طويلا في قضايا الشكل المسرحي, وكتب مقالاته النظرية الشهيرة تحت عنوان: (نحو مسرح مصري) في الوقت نفسه الذي كتب فيه (الفرافير) التي كانت بمنزلة تجربة مسرحية فريدة, تؤسس بداية جديدة في المسرح العربي.

          وكانت بداية عام 1964 ذروة الابتداء في هذا السياق, حين كان التأصيل النظري مواكبا للممارسة التطبيقية في الفعل المسرحي, فقد شهد عام 1964 عرض مسرحية (الفرافير) على المسرح القومي, في موازاة ثلاث مقالات من مجلة (الكاتب) (أعداد: يناير, فبراير, مارس),  بعنوان (نحو مسرح مصري), وكان عنوان المقالة الثانية دالا على الهدف من التنظير كله, وكاشفا عن الغاية التي جعلت يوسف إدريس يحدد غايته على أنها (رد على المستوردين وبداية التعرف على ملامحنا), ولا يفترق الهدف عن الغاية في الاتجاه إلى نقض الأفكار السائدة, ودحض الإيمان بأن المسرح ظاهرة أوربية خالصة, وأن كل ما علينا حياله - نحن المنتسبين إلى الهوامش التابعة للغرب الأوربي - أن نتلقى المسرح عن الإغريق والأوربيين, وأن نحاول أن ننسج على منوالهم, فالمسرح شكل أوربي, ليس لنا سوى أن نصب في وعائه (الذي لا سبيل إلى تغييره) الموضوعات المصرية والعربية.

خطاب ما بعد الاستعمار

          ويواجه يوسف إدريس هذه النظرة في محاجة يمكن نسبتها إلى خطاب ما بعد الاستعمار في النقد المعاصر, أقصد إلى ذلك الخطاب الذي استهلكته كتابات إدوارد سعيد, وأسهمت في تأصيله جهود نقاد العالم الثالث الذين يعيشون في العالم الأول أمثال جاياتري سبيفاك وهومي بابا وإعجاز أحمد في الولايات المتحدة, فضلا عن المجموعة المتحلقة حول رانجات جحا وجماعة (النص الثالث), في إنجلترا. ولم يكن أحد قد سمع عن (خطاب ما بعد الاستعمار) في منتصف الستينيات المصرية أو العربية, ولكن حرص يوسف إدريس على نقض فكر التبعية من ناحية, وسعيه إلى تأصيل الكتابة العربية بما يؤكد هويتها الوطنية والقومية مع خصوصيتها الفردية من ناحية مقابلة, دفعه إلى مواجهة الأفكار السائدة عن (غربية) أو (أوربية) القالب المسرحي, فبدأ بتأكيد إيمانه بوحدة العقل البشري وعالمية إمكاناته, ولكن هذا النوع من الإيمان لا يلزم عنه بالضرورة التسليم بأوربية الشكل المسرحي, بل يعني أن العقل البشري المتحد ينتج في كل ثقافة ما يكتسب خصوصيتها, وما ينطق هويتها, ولذلك كان حصر الشكل المسرحي في أوربا وحدها مظهرا من مظاهر المركزية الأوربية الموازية للهيمنة الاستعمارية من جانب, وإلغاء للواقع التاريخي للمسرح العالمي بتجاربه المتنوعة والمتباينة التي يؤكدها تراث المسرح في الشرق من جانب مواز. ولذلك يؤكد يوسف إدريس أن المسرح خاصية من خصائص كل شعب, وكما أن لكل شعب لغته ورقصه ورسمه وموسيقاه وغناءه فلكل شعب ميل غريزي إلى المحاكاة, أي التمثيل في اصطلاح يوسف إدريس, كما أن لكل شعب تجمعاته الخاصة التي تقع فيها أفعال (المحاكاة) وأشكالها الخاصة من (التمسرح).

          ويعني ذلك أن المسرح كالموسيقى وكل أنواع الفنون لا يوجد شكل عالمي واحد له. ولا سبيل إلى فرض أحد أشكاله على العالم كله, بل إن هذا الشكل الذي تظنه عالميا ليس سوى الشكل الأوربي المتطور عن الشكل الإغريقي, وهو الشكل الذي يوازي غيره من الأشكال القديمة ولا ينفيها أو يمحو وجودها. لايمكن أن ينفعنا القبول الاتباعي لهذا الشكل, وتقليده لا يمكن أن ينتهي إلا إلى نوع من العقم المناقض للأصالة والابتكار على السواء. والأفضل من التقليد هو وضع الشكل الأوربي موضع المساءلة, وفي الوقت نفسه, تحديد خصوصية حالات (التمسرح) التي نعانيها والتي لابد لنا من البحث المخلص عن أشكالها المستمدة من بيئتنا وتاريخ وجداننا. ولا يعني ذلك بالطبع التنكر للشكل الأوربي وميراثه, أو الانغلاق على النفس بما يفصلنا عن تيارات العالم الحية وإنجازاتها. وإنما يعني الحوار مع كل المنجزات الإبداعية للدنيا كلها, بما فيها الشكل المسرحي الأوربي, وعدم الانغلاق في أي نوع من أنواع المركزية, وفي الوقت نفسه, البحث في التراث الإيجابي الذي لايزال حيا عن الأصول القابلة للنماء, أو جذور التجارب التي يمكن رعايتها بالتطوير أو التطويع لمتغيرات الواقع المتعين, الواقع الذي لا يتنكر لخصوصيته ولا لتأثره بكل ما يحدث في العالم حوله. وينتهي المضي مع هذا الحجاج إلى نتيجة مؤداها أن الفنون تختلف اختلافا جذريا عن العلوم, وذلك من منطلق أن العلم الطبيعي بوجه خاص, والإنساني أو الاجتماعي بوجه عام, عالمي في شكله ومضمونه, أو منهجه وتقنيات تحصيله, في حين أن الفن محلي الموضوع والمضمون على الدوام, وفي ذلك سر عالمية إبداعاته التي تكتسب صفاتها العالمية من خلال تعمقها شروط واقعها وغوصها في نماذجها المحلية.

التمسرح والتقاليد الأدائية

          ويعثر يوسف إدريس على تجليات أفعال (التمسرح) في تراثه وواقعه, مؤكدا وجودها في التقاليد الأدائية التي ينسى فيها كل فرد ذاته ويندمج في الذات الجمعية الكبرى, مثل السامر وحفلات الذكر والاحتفالات بالموتى والأراجوز وخيال الظل. ويرى إدريس أنه حتى الجلوس على المقاهي هو مجلى لحالة بليدة من حالات التمسرح, حالة تنبني على الخاصية الأولى للتمسرح وهي جماعية الأداء, وبالانطلاق المخلص من هذه التقاليد والحوار على أساسها مع المنجزات المسرحية في العالم, يمكن الوصول إلى مستوى فني وموضوعي متقدم, ومن ثم تأصيل مسرح عربي يقف إلى جانب المسرح الأوربي, ويسهم في إثراء الظاهرة المسرحية في العالم بالإضافة إليها والحوار معها, وليس بمجرد الأخذ عنها أو محاكاة ما له سطوة في سياقاتها.

          وقد فعل يوسف إدريس ما حاول تأصيله بالتنظير, فوصل النظري بالعملي في فعل الممارسة الخلاق في امتداده الذي بدأ من مسرحية (الفرافير) (1964) التي كانت نقطة تحول حاسمة في مسار المسرح المصري والعربي, وعلامة على توجه جديد, سبقته محاولات تمهيدية تجريبية, تمثّلت في (جمهورية فرحات) و(ملك القطن) (1956) و(اللحظة الحرجة) (1957). وجاءت بعد الفرافير المسرحيات التي مضت بغاية التأصيل إلى الأمام في مدى المسار الإكمالي الذي صاغته (المهزلة الأرضية) (1966) و(المخططين) (1969) و(الجنس الثالث) (1972) و(البهلوان) (1972).

          وقد وصل يوسف إدريس في ممارسته التأصيلية (التي استهلتها (الفرافير)) إلى الأساس الذي انطلقت منه المحاولات اللاحقة للتأصيل المسرحي, خصوصا بعد أن أدرك أصل الفرجة في المسرح, وتحدث عنه بوصفه (احتفالاً كبيراً), وكان مفهومه لمعنى (الاحتفال) أو (الاحتفالية) في علاقته بفعل (التمسرح) البداية التي سرعان ما تبلورت في صياغات أكثر إمعانا في فضاء الأفق نفسه, خصوصا في كتابات عبدالكريم برشيد وعبدالرحمن زيدان وغيرهما من كتّاب المسرح في المغرب ونقاده. أو كتابات عز الدين المدني والمنصف السويسي وغيرهما من الذين أصبحوا مهمومين بتأصيل الشكل المسرحي, محاولين الخروج من هذا التأصيل بنظرية خاصة في المسرح العربي.

 

جابر عصفور   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات