قصص قصيرة جداً

 قصص قصيرة جداً
        

الطريق السالكة

          بعد عشرة أعوام التقينا في رواق البلدية, سألني:

          - ما الذي تفعله هنا?

          قلت:  بعد تخرجي في الجامعة, اشتريت عشرة أمتار من حديقة الجيران في قرية التائه وبنيت عليها غرفة كي أسكنها وأجري فيها تجاربي في الكيمياء الحيوية... والآن... أنذرتني البلدية بوجوب إخلائها كي تهدم لأنها مخالفة للأنظمة والقوانين المرعية.

          تغلّبت على صعوبة انزلاق الكلمات من حلقي, بلعت لعابي وتابعت:

          - أريد أن تؤجل البلدية عملية الهدم لحين عثوري على غرفة جديدة.

          ابتسم عبدالمهيمن وهو ينفث دخان سيجاره:

          - أنا تركت التعليم... التعليم فقر... اشتغلت بالتجارة, والتجارة شطارة... وأخوك صارت أحواله فوق الريح... صرت بـ(الهاي).

          سألته:  وما الذي تريده من رئيس البلدية?

          أجاب: شغلة بسيطة... تعرف منطقة باب المقام في قلب البلد...

          صمت برهة... غبّ سيجارة بتلذّذ... تحسس جيوبه المنتفخة وهو يقول: أريد أن أشتري من البلدية مبنى المكتبة الوطنية... كما تعلم.. المكتبة مبنى ضخم لا فائدة منه... ومكانها ليس هنا... ليست هناك مشكلة إذا نُقلت المكتبة الوطنية إلى أطراف المدينة... هنا يقام مجمّع تجاري (لوكس)... فيد واستفيد.

          ولأنني جئت بتوصية من رئيس الجامعة, جاء دوري قبل عبدالمهيمن...

          حين خرجت لم يلتفت إلي... عدّل هندامه بسرعة ودخل...

          لن أكن على عجلة من أمري لذلك انتظرته, حين خرج بدت علائم السرور عليه... سألته: ما الذي حدث?

          أجاب وقد ضاقت المسافة بين شدقيه وأذنيه:

          مشي الحال...

          التفت وهو يتابع هرولته بعيداً: زرني قريباً... في مجمّع عبدالمهيمن التجاري... أحب أن نتعاون معاً ونعيد أيام زمان...

          فتحت الورقة... بدأت بقراءتها بتشفّ:

          على السيد هادي الالتزام بالقوانين النافذة...

          ويجري الهدم أصولاً...

الخيال كالعين

          كانت تغتاظ منّي: لماذا لا تكتب إلاّ في الليل?

          وكنت أقول: لأن الخيال كالعين

          كانت تغمغم وهي تضع رأسها على الوسادة: مجنون.

          حين جاء الكسوف, حدّقت في الشمس طويلاً.

          بعد شهور شعرت باضطراب في الرؤية.

          في العيادة كان يشرح لها الطبيب آلية عمل العين: الحدقة تتسع في الظلام لتساعد على الرؤية.

          دُهش الطبيب عندما قالت بمرح: يعني العين كالخيال.

دهشة

          كل يوم أقف مندهشاً أمام العصفور الذي يغرّد في القفص, والنملة التي تجرّ وراءها حبّة أكبر منها, قبل أن آوي إلى فراشي وأنا أئنّ من حلمي: ذئب طليق ونملة في قفص.

أساليب حفظ النّعَم

          ضجرت من مرافقته, كل بضعة أمتار ينحني ليلتقط كسرة خبز من الشارع.. يقبّلها... يضعها على جبينه ثم يودعها في فجوات المباني: يا أخي حرام... الناس يرمون الفتات... ويدوسون الخبز... وكأنهم لا يعلمون أنها نعمة يجب احترامها.

          وأنا أجيبه: الله يديم النعم.

          حين وصلنا إلى منزله, تنفّست الصعداء... وضع أصنافاً كثيرة من الطعام, وأصرّ على سكب كميّة كبيرة في صحني وهو يقول: الأكل على قدّ المحبة.

          تناولنا الطعام ونحن نتحدّث... ثم رحنا نتساعد في رفع بقاياه.

          بعد أن جمعت بقايا صحنينا من الرز واللحم في صحن كبير... تناوله مني... أفرغ محتوياته في علبة القمامة بعناية.

أحلام

          كنّا أربعة في مصعد واحد...

          رجل أعمال يحلم بدرب قصيرة إلى الثروة...

          فتاة تحلم بطريق قصيرة إلى قلب رجل أعمال...

          شاب يحلم بفتاة ترتدي تنورة قصيرة...

          وأنا أفكّر بكتابة قصة قصيرة... جداً...

دعاء رقم (1)

          بعد أن أعاد رئيس العصابة الخطّة على أفرادها خمس مرّات, وبعد أن شرح التفاصيل الدقيقة للعملية, وأجاب عن أسئلة أصحابه, قال لهم:

          - أريد أن تقوموا بعملية السرقة بلا أخطاء... هل فهمتم الخطّة بشكل جيّد?

          هزّوا رءوسهم بالإيجاب

          قال لهم: توكّلوا على الله... وانتبهوا... إذا احتجتم إلى قتل صاحب البيت, يجب أن تنفّذوا عملية القتل بحيث تبدو حادثاً.

          أجابه الرجل الضخم: إن شاء الله.

دعاء رقم (2)

          يخرج السائق إلى عمله صباحاً: يا فتّاح يا رزّاق.

          يخرج شرطي المرور إلى عمله: يا فتّاح يا رزّاق.

          يخرج المدرّس: يا فتّاح يا رزّاق.

          يعود الشرطي في آخر الليل فرحاً...

          المدرّس والسائق يبكيان.

دعاء رقم (3)

          كلانا يريد الوصول بسرعة وأمان إلى البلد...

          ولكنّ السائق يدعو الله أن يصعد زبون آخر...

          وأنا أدعو كي أبقى منفرداً بالكرسي.

احتفاء

          عندما زار المحافظ القرية التي ولد فيها, ليلقي نظرة أخيرة على ديكور قصره الجديد, عرّج على المقبرة ليزور والديه, فقابله حفّار القبور بحفاوة لا نظير لها, قرّب فمه الكبير وهو يرفع قدميه ليصل إلى أذن المحافظ هامساً باعتزاز:

          - لقد خبّأت لك قبراً واسعاً... يطلّ على ساحة المدينة.

سريالية

          دُهش لأن لوحته نالت الجائزة الأولى في مسابقة باريس.

          بعد أن أنهى إجراءات السفر, وصل إلى المعرض.

          رأى لوحته... همّ بأن يقول للقائمين على المعرض بأن لوحته معروضة بالمقلوب...

          لكنه في آخر لحظة... لزم الصمت... واكتفى بالاندهاش.

هنا... وهناك

          كنت تعباً مثقلاً بالهموم, وأنا أعبر الاشارة ببطء تحت مطر فبراير الغزير وأنا أجرّ خمسين سنة ورائي. أما هي فقد كانت في العشرين من عمرها, تجاوزت الاشارة بسرعة خاطفة وهي تدندن أغنية حديثة...

          وصلنا معاً إلى الطرف الآخر من الشارع..

          ولكن..

          أنا في دمشق..

          هي في بيروت.

القرار

          بعد خمس ساعات من السفر, وصلت إلى دمشق وأنا أمنّي النفس بصدور القرار, في حافلة دمّر البلد, كنت أفكّر في الإجراءات المعقّدة لتصديق الشهادات.

          وقفت الحافلة... جلس بجانبي رجل أنيق يضع نظّارات شمسية لافتة, وزادته أناقة سترة الجلد الأسود والحقيبة الدبلوماسية.

          فجأة... التفت إليّ مبشّرا: لقد صدر القرار.

          شعرت بقلبي يقفز من مكانه فرحاً ودهشة... ولكنني تساءلت: وما أدراه بأنني أنتظر قرار التعيين? تمالكت نفسي وأنا أصرف سمعي عن صوت المذياع المدوي الذي يشرح ملابسات القنبلة التي ألقيت على هيروشيما.

          سألت الرجل بهدوء: أيّ قرار صدر?

          أجابني بطريقة تنم عن إنسان يقدم معروفاً بسخاء:

          - صدر القرار الذي يخفّض تسعيرة الركوب إلى دمّر من خمس ليرات إلى ثلاث فقط... أرأيت... بقينا وراءه حتى صدر... الأمور تحتاج إلى متابعة.

          حين شغل نفسه بالإنصات إلى صوت المذياع... رحت أرنو إلى أحلام المتعبين...الصغيرة.

تصحيح علني

          لقد صدق حدسي... القاضي نزيه ولا يأخذ رشوة من أحد.

          منذ أسبوعين عرض عليّ أحمد دعواه مؤيدة بالمستندات, وتذمّر من أن القاضي لن يبتّ بالدعوى مالم يتقاض ألفي دولار.

          ولأن القاضي من معارفي الشرفاء, أخذت المستندات وذهبت بها إليه. ولكنني لم أتمكن من الاتصال بأحمد لأخبره بالنتيجة, وبما أنه بيننا الآن, يسعدني أن أصحح الخطأ الذي وقع فيه... فالقاضي نزيه كما كنت أعتقد دائماً... لأنني عندما شرحت له الموضوع, قال: أعوذ بالله...  دعواه على حق... ومعاذ الله, أنا لا آخذ رشاوى من أحد... ثم فتح درج مكتبه ودفع إلي بجواز سفره قائلاً: لا أريد منه سوى حجز تذكرتين لي ولزوجتي على متن طائرة مسافرة إلى السعودية, فلقد حننت إلى الديار المقدسة, وأريد أن أعتمر.

من أجل قصة?!!

          في حلب, رأتني ابنتي ذات السنوات التسع أعدّ الحقائب, فسألتني: إلى أين أنت مسافر?

          - إلى دمشق

          - لماذا?

          - لأقرأ قصصاً قصيرة جداً.

          قالت مندهشة: كل هذه المسافة الطويلة من أجل قصة قصيرة جداً?

الخيبة

          تلطّخت ثياب جميع الواقفين على الرصيف بمياه آسنة قذفتها في وجوهنا سيارة سوداء مسرعة. أطلق ضابط الشرطة صفّارته مشيراً للسيارات بالوقوف, الشارع المحاذي لمحطة الحجاز ضيّق بما يكفي لسماع ما يدور في الطرف الآخر منه.

          اقترب الضابط من السيارة السوداء ذات الستائر التي تحجب أنظار المارّين عمّا يجري في داخلها. طلب من السائق أوراقه... أمره بأن يقف أمام وزارة الزراعة حيث المكان متسع ولا يعرقل حركة السير, وطلب إليه أن ينزع جميع الستائر من السيارة لأنها ممنوعة بحسب قوانين المرور.

          قال السائق وهو يسلّم الأوراق: معي ابنة المعلّم... وهي مستعجلة.

          نهر الضابط السائق بعصبيّة: بلا حكي فاضي.. افعل ما أقول.

          حين وقفت السيارة في المكان الذي أشار إليه الضابط... ترجّل السائق وبدأ بنزع ستارة الطرف الأيسر من السيارة.

          كان الضابط يواصل مهمة تسيير العربات, وكنت أنتظر الإشارة الخضراء كي أمرّ إلى الطرف الآخر من الشارع وأنا عازم على الوقوف باستعداد أمام الضابط أحييه... وأكبر فيه شجاعته وإصراره على أن يكون القانون فوق الجميع.

          بدت الفتاة من وراء الستار المزاح تتحدّث بهاتف نقّال...

          حين دنوت من السيارة, كان السائق يرمي أوراقه على الكرسي الأمامي ويدير المحرّك, بينما كان الضابط يحيي الفتاة تحية عسكرية وهو يسلّمها جهاز الهاتف راجياً لها الوصول بالسلامة.

          شعرت برغبة عارمة في التقيّؤ... تمالكت نفسي حتى وصلت إلى أقرب علبة قمامة مثبّتة على عمود للكهرباء, وضعت رأسي فوق فوّهتها مباشرة, وأفرغت ما في جوفي... حين هممت بالسير, وجدت بنطالي ملوّثاً, وأدركت أن العلبة مفتوحة من الطرفين

 

محمد جمال طحان   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات