حسن جوني فنان الألوان القلقة

حسن جوني فنان الألوان القلقة
        

          يرسم الفنان اللبناني حسن جوني ليدفع ذلك القلق الرابض في أعماقه. كأن خطوطه هي معادلة لتأويل الحالة الغامضة التي يعيش فيها. 

          حسن جوني من الفنانين الروّاد في لبنان, أقام حتى الآن 24 معرضا في لبنان والخارج, ويعتبر من الأكثر مبيعا في بلده, فلوحاته تجمع, بحذاقة, بين الجماليات الصالونية والجماليات الفنية المتقشفة.

          يعتبر حسن جوني من الملوّنين البارزين, نوّع كثيرا في مساحاته اللونية, وبقي بعيدا عن التنويع في استخدام المواد, ترتكز لوحته على صيغ حوارية درامية تساهم في جذب العين.

          يداوم حسن جوني يوميا في محترفه الكائن في منطقة (المنارة) من رأس بيروت, في الطابق الأول من مبنى قديم, يطل غربا على البحر, وتطل عليه الشمس, بكل تدرجاتها اللونية, من صفرة الظهر القوية حتى حمرة المغيب الأرجوانية. غرفة للرسم تتوسطها دائما لوحة حاضرة لاستقبال ضربات الريشة, وثانية للعرض, تغص باللوحات والألوان من أرضها حتى السقف, وثالثة للتخزين, بعيدا عن الضوء, يجتمع فيها تاريخ الرجل ومذكراته وذاكرته الفنية.

          صفة الجدية قائمة في محترف جوني كما في شخصيته, ومع ذلك فمحترفه يعشق بعض الغبار وبعض الفوضى, ذلك أن القلق الذي يحتل الفنان يجعله ساهيا عن كثير من أموره الشخصية, والقلق ابن الوعي, ثم إن الوعي المبكر لحسن جوني صادر طفولته وجعلها مزيجا من براءة وأسئلة غامضة - كما يقول - وألغى مباهج طفولته, التي احتلتها التهجئة الأولى للرسم والتلوين ونمو أبجدية التعبير الأولى.

          يخبرنا جوني, أنه عندما أنجز دراسته في مدريد العام 1970, وأقام معرضه الشخصي الأول, أدرك أنه كائن قلق بامتياز, بل, لم يستطع التخلص من ذلك الشعور الذي مازال حتى اليوم يثير فيه رغبة في الحياة والمكابدة.

          تجربة حسن جوني تنمو إذن داخل وتيرة القلق, ويكبر قلقه داخل خفايا تجربته, فالخط قلق, واللون قلق, وفضاء اللوحة قلق. وهاهو يقول: (بعد تجربتي الفنية الطويلة أنظر إلى لوحتي فأرى ظلاً لكلمة قلق خلف توقيعي عليها. فاللوحة عندي معادلة دقيقة لتأويل الحال الغامضة, التي غالبا ما تكون هي نفسها القلق الملتبس في أعماقي. أعترف أن الفن هو انعكاس لتلك الحالات التي لا نعرف لها اسما, غير أني أحس بالضيق والكآبة حين لا أكون قادرا على إخراج حالي من العدم الذي هي فيه, وأشعر بالرضا عندما أستطيع توصيف قلقي. وهكذا تصبح كل لوحة من لوحاتي صورة وجهي... صورة ذاتي).

          هكذا يبدو القلق خبز لوحته وفنه, وقد بات الفنان مدمنا على قلقه, فلا يستجيب لأي مفهوم جمالي لا يحدث فيه اهتزازا عنيفا, ومازالت حتى اليوم تتردد في داخله موجات القلق التي أحدثتها فيه لوحات جويا وقبلها لوحات ألجريكو وفلاسكويز في متحف (البرادو)... وبعدها بيكاسو ودالي, وبصورة عامة جماعة التعبيرية الإسبانية.

          (هدفي الحقيقي إنضاج رؤياي التشكيلية حتى آخر ضوء في لون وآخر نقطة في خط. ولطالما ساعدتني خبرتي الأكاديمية في البحث عن واقع خلف واقع, وهو ما تلاحظه في معارضي, لوحة تبلور خطوطها وألوانها, وتتوالد في تآليفها ضمن منظور يظهر فيه جليا كم أرهقتني المسافة كي أصل إلى اللوحة التي تمنيت).

          يبدو القلق فضاء عاما في محترف جوني, يحاصره, ويحاصر هو به لوحاته, فإنسانه رمز للقلق والتوتر والحركة والانغماس بالهموم. وها أمامنا أحد الأشخاص كأنه سيزيف يدحرج صعودا صخرته الشهيرة, وذاك تأخذه دوامة وتدور فيه, وذلك تجذبه رياح الألوان إلى المطلق.

إنسان اللوحة فنانها

          وحسن جوني يشبه إنسان لوحته تماما, يتذمر من الحياة التي تحوطه, يتذمر من السياسة وبعض الآراء السائدة, وبعض الفن الدارج, وحتى أنه يتذمر من صحته. ومع ذلك يبحث عن الضوء في الظلمة, وعن البسمة تحت مناديل الحزن.

          إنسان لوحته أمامنا كأنه تمثال من التعب, تمثال من العناء والأنين, ومع ذلك يسعى ويتحرك ويغز في الحياة, ويبحر في الألوان أمامه. وإذا كان الفضاء رحبا في بعض اللوحات, فإن الوحشة تأكل المكان وتأكل المساحة. يقول جوني:

          (أنا إنسان لوحتي, لا أحد سواي, سكن ويسكن هذه المساحة والخطوط والألوان, وأنا أنا حتى اليوم, بعد 60عاما من الحياة, أشعر بنبض المستقبل عبر الحاضر وصولا إلى الماضي, وهذا ما يثير فيّ إحساسا عارما برسم الإنسان المعذب المسكون بالأسرار والمواعيد التي أتت والتي لم ولن تأتي, ولدت في منزل تملأه الوحشة والفقر وآهات الشعراء, ربما كل هذا أيقظ في ذاتي شعور الوحشة والرغبة في الانطواء والكآبة رغم بعض المسيرات العابرة. كان بيتنا, نحن القادمين من القرية إلى المدينة, مؤلفا من غرفة واحدة, كنت صغيرا حينها, وقد أحدثت المدينة فيّ حالا من الانخطاف الدائم, فأنا مشدود إليها منذ طفولتي حتى اليوم ولم أعرف الريف إلا قليلا, ومن البديهي أن تكون المدينة هي مخزون الرؤى التي تتكثف في داخلي وتتجمع في ذاكرتي وتبعث لي شوقا دائما إلى الحياة داخل العصب المتحرك لدوامة الناس والأحلام المكسورة والأماني المستلبة. في المدينة عايشت أحزان أبي وتعبه وأشباه مسرّاته وفرحه المتباعد, وفي المدينة وعليها استفاقت الحرب الأهلية لتدمر كل الرؤى وأبراج الطفولة وتهدم البيوت وتلغي المطارح والأزمنة والأسماء والحنين...).

          لهذا ربما راح حسن جوني يرسم المدينة وإنسانها وأحزانها وكل ما تبقى فيها من حجر وشجر وبشر تشابهوا وأصبحوا في اللوحة على هيئة واحدة. الحرب في لوحات المحترف وحّدت كل شيء خلفها عندما حوّلت المدينة إلى رماد.

          انتهت الحرب اليوم, ولايزال جوني يعيش جزءا من ذاكرتها, على أنها لا تحضر في لوحته بشكل مباشر, ولا هي ظهرت بشكل خطابي أو فظ أو خشن. فهو يصوّر الداخل, أو يصوّر من الداخل, فيبقى الشكل الخارجي شفافا ومهملا إلى حد بعيد. هو أولا يحرك المشهد, ويعمم الشكل فيجرّده, وكثيرا ما يأخذه إلى منحى شعري, عاملا على تكثيفه, وإغنائه بالتأويلات والإزاحات, هادفا إلى المحافظة على عدم استقراره وثباته.

          وما نلاحظه في لوحات جوني أنه كلما اتجه نحو تصوير الريف تفتحت الألوان والفرح في مساحاته وأشكاله, كأنما يصوّر من ذاكرة بعيدة, أو ذاكرة منفصمة عن الحاضر, أو ذاكرة ما قبل الحرب.

          لم يصوّر حسن جوني مباني المدينة أو جدرانها ثم يضع تجريداته التعبيرية فوقها, أو يضع الضربات اللونية السريعة التي توحي بالحركة, بل هو عمد إلى تحريك المبنى نفسه والشارع والأشكال أمامه, عاملا على أنسنة الأشياء, وإحياء المظاهر التي سكنها الخراب, ثم إيقاظ الروح وإنقاذها من أي عدمية.

          بهذا الإحساس رسم الشارع والمبنى, وعالج المساحة المجردة حينا والمكثفة حينا آخر, بالخط الظاهر المتكسر, بتدرجات الظل والنور, وبالضربات المائلة يجعل المدينة ترقص وتتمايل وتترنح تحت همومها وأوجاعها. إنها كوابيس ملوّنة نجيل النظر عليها, ونتفحص انفراجاتها وفسحاتها الفنية الممتعة.

          (من الطبيعي - يقول جوني - وأنا أجول اليوم في الأماكن التي أحببت, وأسترجع الوجوه الجميلة التي رافقت, وأستعيد اللحظات الهاربة من حياتي, أدرك أن ذلك الزمان لن يكون معي حين أعود إلى محترفي في المنارة برأس بيروت, إلا وقد تداعى وتلاشت أجزاء منه كثيرة على الطريق المؤدية إليه. أدخل وأجلس أمام القماش وآخذ الألوان وأخطط وأرسم أشياء لم أرها خلال جولتي, لكنها من أين أتت?! وبعد انتهائي من الرسم والتلوين, أدرك أن ما رسمته لم يكن غير مرثاة لمدينة, لحي, لمبنى, لناس, وأنا معهم, وكلنا في الدوامة. نرفع صخرة الحنين إلى حيث الموعد, وتقع الصخرة قبل الوصول, وتتدحرج ومعها نحن, نحن ناس المدينة المقهورين).

ثقل الحرب

          بهذا المعنى انعكست الحرب إيجابا على تجربة الرجل, فالحرب التي هزّته وهزّت كيانه هي التي جعلت لوحته أكثر انفعالاً وأكثر حيوية وأكثر تأثيراً في العين, من خلال توزع الكتل والضوء والأشكال.

          لا ينتج عن تصوير حسن جوني للحرب غير الشعور بإنسانية عميقة وميل إلى الحنان البصري, بعيدا عن أي شعور بالأذى والخراب والتباعد والتنابذ.

          ولاشك في أن ثقل الحرب جعل ذكراها واقعا ثقيلا, لا مجرد ذاكرة هائمة, حتى أنها لاتزال منزرعة في كل مكان, ولاتزال تفسخاتها ماثلة في جدران هذا المحترف الذي تنشأ اللوحات فيه وتتربى.

          لعل هذا الثقل الذي تحمله لوحته جعل تعبيريتها منفتحة على كل الأوجه وكل التيارات وكل صيغ الإضاءة والتأليف والأحجام, في معطى تشكيلي واحد.

          عندما سألت الفنان جوني عن أثر المشاهد التي يراها كل يوم على شاشات التلفزة, من قتل وتدمير ومجازر يقوم بها العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني, أو المعادل الفني للوحة الحقيقية لمصرع محمد الدرة... أجاب: (بكل أسف وحسرة, بكل حزن وانكسار واعتزاز, أرقب وقائع موت (محمد الدرة) والمقاومة العظيمة التي أبداها الفلسطيني في الدفاع عن ترابه وكرامته وتاريخه ضد الاحتلال والقتل والمجازر, فألف متحف تشكيلي لا يساوي لحظة قضى (محمد الدرة) بين ذراعي والده قتلا برصاص الإسرائيلي, وكذلك ما جرى للمدن والقرى والمخيمات. ليس للحقد البشري ما يوازيه سوى ما يقوم به الحيوان المفترس لحظة ارتكابه التهام فريسته, لا أظن أن لوحة تقدر على تصوير ما حدث أحيانا. والفن يعجز حين ترتفع الشهادة). وتساءل جوني: (ماذا يظل من الموت?! ماذا يظل منه كي نرسم تحوّلاته ونلوّنها?!).

المثلث الوهمي

          في تأليف لوحته نلاحظ ذلك المثلث الوهمي الذي يتحرك في أرجاء المساحة, يتخذ شكلاً نامياً, فيتسع في قاعدته ويضيق كلما صعدنا في داخله, كأنه سلم يعين الناظر على ارتقاء تدرجات التعبير ولعبة الضوء.

          قال جوني عندما سألته عن رمزية المثلث: (هو عندي نقطة هروب, مما كان, إلى ما يجب أن يكون, إلى حيث تتلاشى وتذوب النفس في ذروته). وتابع: (يمكنني أن أواجه أحلامي التشكيلية بالمثلث, الذي يمنح عيني القدرة على ضبط الفضاءات اللونية من ماديتها إلى روحانيتها ربما).

          قد يساعد المثلث إذن على تحريك الأشكال الدرامية في اللوحة, مثلما تحرك الحوارات اللونية هذه الدرامية أيضا. لكن الفنان يلجأ أحيانا إلى اللوحة القريبة من الأحادية اللونية, ولا يبقى عند اللوحة المركبة. فلكل لوحة عنده ما تقتضيه عناصرها من وسائل الخط واللون والتأليف. على أن الأحادية هنا لا تعني عدم اهتمام الفنان بصوغ مفردات الضوء وتدرجاته من أقصى الفاتح إلى القاتم, ولا تعني عدم الاهتمام بالحوار البصري. إن (شخصية) اللوحة هي التي تفرض بالتالي لونية الموضوع والمناخ الذي يضفيه الفنان على مساحاته. وبهذا لا يكون اللون أداة تزيينية أو بطلاناً وحذفاً لذاته.

          المتنقل بين أعمال المحترف هنا, ينتبه إلى حساسية التلوين التي يتمتع بها حسن جوني, بل ينتبه إلى الهارموني (التجانس) اللوني الذي يؤسس لمعزوفة خاصة ومشهدية جديدة. وأكثر من ذلك ينتبه إلى طريقة التكوين التي يتفرّد بها, وهذا ما يجعل لوحته ذات لمسة خاصة, بحيث يعرفها المتلقي من دون أن يرى توقيع الفنان عليها.

          يلون حسن جوني, أحيانا, بلون الأنبوب مباشرة, وأحيانا أخرى, نراه يمازج الألوان ويداخلها ويحلها ببعضها البعض, كل ذلك في سبيل البحث عن لون جديد, أو في سبيل توسيع المعجم اللوني لديه. يقول: (المفاجأة التي تسعدني, هي الألوان التي أكتشفها أثناء التلوين, هي متعة الخلق عندي ولذة الكشف عن موسيقى الداخل, موسيقى اللون المتنوع. اللون, لغة الداخل, أبجدية الباطن, وأحيانا هو الإسقاط الذي يستدل به الفنان على ما جال في اللاوعي قبيل وأثناء التلوين).

تهافت الألوان

          لكن كيف يعمد الفنان إلى اختيار لون دون آخر? أو كيف يفكر في اللون? أو ما الآلية التي تتحرك فيها الألوان بين مزاجه وضرورات المساحة أمامه? أو بطريقة أخرى كيف يمارس قلقه اللوني? يجيب جوني: (قد أستبدل بمساحة لونية طبقة أخرى, أثناء الرسم, كأن لم يكن عندي التقرير التلويني مسبقا, وأسأل لماذا استبدلت بلون لونا مغايرا? هل هي مجموعة الاستنتاجات التي تتوالد أثناء العملية الابداعية? وبالتالي, هل هو الصراع الذي يقوم بين الوعي واللاوعي? ومتى يكون الفنان واعيا ويقرر بصفة نهائية, ومتى يكون لاواعيا ويعتبر بصفة نهائية, أن هذا اللون أو ذاك, هو الإهاب النهائي لهذه المساحة أو العنصر أو السطح? يظل السر في اللون عندي, ليس في وضعه على مسطح اللوحة, بل بالقصد الذي اقتنع بوجوب وجوده ولا أدرك أنا شخصيا, لماذا اخترت هذا اللون تحديدا, إلا بعد ظهوره وكأنه كل الحاجة الحقيقية التي كنت أبحث عنها. ولابد أن نختبر اللون بشكل متواصل على الملوانة, قبل وصوله إلى القماش, أي التعرف على قيمة وقوة وتدرجات اللون وما يحتمل اللون من الضوء ونسبه والهارموني المتعدد لكل أسرة لونية كيميائيا).

          ونعود لنتطلع إلى لوحات المحترف, فنشاهد أحياناً مساحات مشغولة بكثافة, بحيث إن المربع الصغير منها يمكن أن يكون لوحة كاملة, وأحيانا نلاحظ مساحات متقشفة لونياً, ثم نلاحظ لونا ممسوحاً برقة, وأحيانا يبدو اللون ناتئا ومنحوتا على السطح, فالمساحة الفارغة إلا من لون أحادي لا تعني الفراغ, بقدر ما تعني تركها مساحة لصدى الألوان والامتلاء بما هو حسي غير بصري.

          يستطيع حسن جوني أن يوفق بين جماليات اللوحة الخارجية والهم الفني البحت, بين كون اللوحة متعة بصرية صالونية وكونها تعبيرا عن حال الفنان وحال المجتمع. ألهذا السبب مثلا يتهافت المقتنون على لوحته? أردنا أن نسمع منه إجابة عن ذلك, فقال: (أظن أن لوحتي المقتناة هي أنا في مختلف حالاتي الداخلية, وأهمية ذلك, أن الأسلوب الخاص بي أوجد في نفوس الذوّاقة ما كانوا يبحثون عنه. وإلا ما كان هذا الانتشار المتزايد لأعمالي التشكيلية, لوحتي أجابت عن معظم التساؤلات التي يطرحها وجدان المجتمع بنبرة فنية درامية في أكثر الأحيان. ولا أظن أن أحدا يتقبل مثل هذه اللوحات الانفعالية, إلا إذا كانت على مستوى خاص من الأداء التشكيلي, أنا نفسي أعجب أحيانا من اقتناء أكثر أعمالي مأساوية وأبعدها عن المفهوم الصالوني. لذا ما عانيت أبدا عقدة ذوق الغير, لقد فرضت مفهومي الخاص العاطفي واللوني في اللوحة, وماذا يعنيني غير ذلك سوى البحث العمودي في العملية الإبداعية. لو تطلعت إلى اللوحات المعلقة في صالونات الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية, رئيس المجلس النيابي, ورئيس الحكومة), سترى موضوعات إنسانية في أقصى حالات أساها واضطرابها ومعاناتها, واللوحة الصالونية عكس ذلك نهائيا, أظن أن هذا المفهوم خاطئ أساسا, لاسيما أن لوحاتي الأوسع اقتناء تحكي للقلب مخبوء القلب, وأترك للآخرين حكايا العين التي لا تهمني إلا في البناء الخاص للعمل الفني الذي هو جزء من اللوحة وليس كل اللوحة).

          ونترك حسن جوني يسهب في الحديث إلينا عن علاقته اليومية بمحترفه:

          (محترفي الخاص هو المكان الذي يعصمني من الانتحار أو الجنون. إنه ملجئي الذي أستجير به بعيدا عن الصراعات الصغيرة والحقيرة).

          (في المحترف تتوالد ذاتي من ذاتي واعترف لنفسي بالهواجس والكوابيس التي تدهمني بين الحين والآخر).

          (محترفي هو لوحتي, ولوحتي هي محترفي, ولا حياة لي خارج هذا الملكوت المشبع بعبق السنين المكتظ بالكآبات وبعض المسرات. لا أستطيع الغياب عن المحترف تحت أي طائلة سوى ما يبعدني قسرا عنه, لاسيما في حالات المرض أو السفر, وغالبا ما يتلاشى تعبي حين أدخل إليه. إنه العالم الذي أدمنت الوقوف فيه بين لوحاتي وأحلامي وعمري. في المحترف أفتقد سنوات العمر وتغيب من ذاكرتي مواجع الجسد وتظل مواجع الروح, وبين وجعين يصبح المحترف ضرورة ملحة لإيجاد لوحة تساوي عندي نفسي, نفسي كلها محترف ولوحة).

          واعتذرت لحسن جوني قبل أن أسأله ما إذا كانت نفسه تمل النظر إلى لوحاته القديمة التي يراها كل يوم في محترفه. لكنه اعتبر أن إدمان رؤيتها اليومية يحرضه على الرسم وعلى إيجاد قرائن تذكره بأنه لايزال حيّا, وبالتالي عليه أن يواظب على الرسم والتلوين وبصورة يومية ليؤكد وجوده ويطمئن لنفسه.

          يبقى أن نقول إن الشعر والموسيقى هما الغذاءان المبدئيان للوحة جوني, يستدرجان الرؤيا والعاطفة والانفعال والألوان, فهو تعلم كيف يقرأ الانعكاسات الدقيقة للضوء), (سواء أكان الضوء من خارج الأشياء أو في داخلها, تلك هي ذروة التجربة. في النهاية أجد العالم مناخات متشابكة, وعليّ تحليل المعادلات السرية لهذا الكون المحيط بي. أليست اللوحة عالما يتشكل من دقائق المعادلات?).

          والفن العظيم - كما يراه جوني - هو الدخول في سر المعادلات لا النظر إليها ونسخها وملامستها من الخارج

 

أحمد بزون   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




حسن جوني في مرسمه قلق وتألق





الرجل والعصافير - جدل بين المسجون والمطلق السراح





نساء كثيرات وملامح ضائعة





ما تبقى لكم من هشيم الحرب





في مواجهة الخوف. أسرة لبنانية تحت آتون الحرب





حين نُبعث نحن الموتى