دوز وردة الصحراء التونسية

دوز وردة الصحراء التونسية
        

           في معجم الصحراء ألف معنى ومعنى, تغوص في كثبان من المفردات التي تحتضنها ثقافتنا العربية. ليس أولها: الخيلُ والليلُ والبيداءُ, ولن يكون آخرها جلمودُ صخر حطه السيلُ من عل. لكن الصحراء التي ترتكن في قواميس اللغة إلى ترادفها مع الأرض الفضاء الواسعة الفقيرة الماء, النادرة النبات, تمتلك في (دُوز), في الجنوب الغربي من الجمهورية التونسية مفرداتها الخاصة, وشروحها الأكثر خصوصية. ولعل مهرجان المدينة السنوي, الذي تمتد جذوره إلى العام 1910, يحاول أن يؤصل هذه المعاني الخالدة, المتجددة الروح, الباذخة العطاء.  
 
           تغازلنا الصحراء في الطريق إلى (دُوز), بامتداد - كالأمد - لا ينتهي. كان النور الذي ننتظر غير النور الذي نرى, ويحاصر بصيرتنا والبصر. كيف أصف ما هو مخلوق للحواس جميعها? إنه نور الصحراء في (دُوز) الذي يخاتل العين ويخادعها, يحرك الكثبان النائمة قليلا كأنها أجساد تصل الأفق المنبسط بآخر يحجب الشمس. لا تزال الرمال هنا تحتفظ بأصابع الريح وقد عبثت ببشرة الأطراف, لتترك آثارها خطوطا متعرجة, كأنها آثار قافلة من السيارات, والفارق أن آثار إطارات الرياح تذوب لتتكون مرة أخرى, وكأنها ترسم ملامح الزمن عبر دورة الفناء والحياة من جديد. في الطريق إلى (دُوز) شجيرات صغيرة جافة, تستلقي هنا وهناك, تختفي تحت الكثيب الذهبي أو تبرزها الرياح فجأة, فكأنها كائنات خضراء تسبح في جوف الصحراء, لا تبرز إلا رأسها أحيانا, لتأخذ قليلا من هواء يعينها على عالم الرحلة الداخلية. إنها رحلة الأسرار, رحلة في باطن الحياة التي تختفي تحت ظاهر الموت. تجل كامل لروح الصحراء, التي تفكر في هيئات الحياة, حتى تحت وطأة الظروف غير المواتية. القاسية. الجافة. الخشنة. الملامسة لرحلة النهاية.

           نرى أول شجرة كأنها الدليل, وما تلبث أن تنهض وراءها الأشجار.نتساءل: هل وجدنا الواحة, أم عثرت الواحة علينا? هل كنا نبحث عنها أم كانت تبحث عنا? وهل جئناها بالبشر لنبث الحياة فيها, أم أننا وجدنا عندها نارا وماء وحياة كامنة تنتظر السطوع? تنهدت, كانت الأسئلة مثل الصبار, والنخيل, من دون عدد.

           قال لي صديقي الشاعر نور الدين بالطيب, يحكي لي عن مسقط رأسه: بوابة الصحراء (دُوز), هي أكبر واحات الجنوب التونسي. وأشار إلى طلائع النخيل: وبها 150 ألف نخلة منها 140 ألفا من نوع دقلة نور المشهورة. حين دخلها العرب في السنة التاسعة والأربعين من الهجرة (671 ميلادية) وجدوا اسمها, الذي يعني بالبربرية (الربوة الخضراء), ووجدوا سكانها المرازيق الذين جاءت أصولهم من الجزيرة العربية, فهم أحفاد قبيلة بني سليم.

           تابع مسبحة الحديث د.فوزي بن حامد مدير المهرجان الدولي في (دُوز): ربما يكون الاسم ذا أصل بربري أو روماني, وربما عربي, ولكن الأهمية ليست في التسمية, وإنما في موقع بوابة الصحراء التي عبرها الرحالة والغزاة والفاتحون على مر العصور.

           ورغم ما تعاقب عليها من ثقافات, احتفظت (دُوز) بسمتها العربي ووسمها الإسلامي, مثلما جعلت سيرتها مرادفة للمدينة الصحراوية الثقافة, وكان دورها أن تمد يديها لتصل المشرقي بالمغربي في رحلات الشتاء والصيف وما بينهما.

           مررنا بزاوية الغوث, كانت تشير إليها نخلة وابنة لها نبتت من جذعها, فقال نور الدين: وجود زاويتي الولي حمد الغوث والولي عمر المحجوب في (دُوز) كان من أسباب تعلق القوافل التجارية التي مرت بين المشرق والمغرب. وإدارة المهرجان تحرص على ألا تنتهي أيامه دون أن يشهد يوم الأحد الأخير عروض (الزردة) التي تضم احتفالات وألعابا وإنشادًا صوفيا وعروضا للفروسية و(المهاري) حول المقامين. لقد بقيت بكارة هذه الثقافة لا تفض, وتستعيد في يومياتها التفاصيل التي عاشها الأجداد, بما يؤكد الفرادة والأصالة معًا, وحرص الأبناء جيلا بعد آخر على توارث خصوصياتها.

           على باب الربوة الخضراء, ووردة الصحراء, تذكرت مقطعا من قصيدة كأني كتبتها في (دوز): أحلمُ بغيمةٍ تقطِّرُ ماءها منذ فجر الأزل /حتى تبللني به/ أنا الزهرة المنسية في الصحراء!

فذلكة صحراوية

           صحراء الجنوب التونسي جزءٌ من الأراضي الصحراوية الواقعة في شمال إفريقيا, وتسمى الصحراء الكبرى التي تبلغ مساحتها تسعة ملايين كيلو متر مربع (تمثل الصحراء - بوجه عام - نحو سبع مساحة اليابسة على كرتنا الأرضية, وتجاور مداري السرطان شمالا والجدي جنوبا). وإذا كانت الرمال تغطي ما بين 10 إلى 20 بالمائة من الصحراء فإن باقي مساحتها مرتفعات تغطيها الحصباء والصخور. إن فقر الصحراء في المياه يعادله غنى في موارد أخرى بعضها جوفي كالنفط والغاز الطبيعي, وبعضها يقترب إلى السطح من تربتها, كالملح واليورانيوم, والمعادن الأخرى. وتعيد الرياح العاتية تشكيل الكثبان الرملية التي يصل أعلاها إلى 250 مترا من حين إلى حين. وعلى امتداد هذه الصحراء تتكون واحات جلها خصيب, تجري من تحتها جداول وعيون.

           إن قلة المطر على جسد الصحراء نابع من كونها مناطق ذات ضغط عال, يهبط فيها الهواء البارد ليصبح دافئا, فيمتص الرطوبة بدلا من تحريرها لتتكثف في شكل مطر, وندى. لذلك لا يزيد معدل المنسوب السنوي للأمطار على 20 سنتيمتراً, وفي هذه الصحراء الكبرى لا يزيد المعدل السنوي للأمطار بها على 2.5 سنتيمتر.

           وتعمر بعض النباتات الصحراوية لفترات قصيرة, تنتظر بذورها موسم الأمطار فتنمو, وهي تعيش بعد ذلك الموسم من ستة إلى ثمانية أسابيع, فيما تستمد النباتات التي تعيش أكثر من العام ماء حياتها من الينابيع الجوفية.

           وإذا كانت الصحراء الإفريقية قد عرفت الإبل عبر الهجرات القادمة من الجزيرة العربية, تحمل - عبر القوافل, تجارة في طرق يتحكم بها البربر, فإن هذه الصحراء تنتشر بها الغزلان البيضاء وأنواع نادرة من الظباء. وهي, مع سواها من الحيوانات الصحراوية تبقى في ملاجئها نهارا تفاديا لحرارة الطقس القاسية, تنتظر الليل لتخرج بحثا عن الغذاء.

           لكننا قبل أن ننهي هذه الفذلكة الصحراوية عن المنطقة التي تحتضن (دُوز) نشير إلى أن الجمهورية التونسية (التي تبلغ مساحتها 165 ألف كيلو متر مربع) تعد من البلدان الرائدة في مسوح الموارد الطبيعية, ومشروعات تنميتها, وصون التنوع الإحيائي, وإقامة المحميات الطبيعية. وقد استخدمت تونس في وقت مبكر الماء المالح في الزراعة ولديها أطلس من الخرائط العلمية المدققة لتوزيع أنماط الغطاء النباتي, وهي تنمي غابات المراعي في جنوب البلاد, وتكافح الانجراف فيه.

ميلاد مهرجان

           قبل 93 عامًا كانت البداية حين انطلق في (دُوز) ماراثون المهاري باسم: عيد الجمل, وكان ينظمه ويشرف عليه سنويا المقيم العام الفرنسي في تونس. والمهاري هي نوق السباق المعروفة في منطقة الخليج العربي باسم الهجن. ولم يكن يضم ذلك الاحتفال - بجانب الماراثون الذي يكافأ الفائز به بـ (مهري) أو (فحل) - سوى بعض الألعاب الشعبية المستلهمة من عادات المرازيق سكان (دُوز).

           لم تقطع عادة (العيد) سوى سنوات الحربين العالميتين, الأولى والثانية, وبعد استقلال تونس تأخذ الفعالية اسمها الحالي: مهرجان (دُوز), ويفتتحه الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة في 1967. ومنذ ذلك الحين, وعامًا بعد آخر, تتجدد الإضافات, ليدون المرازيق سطور حياتهم في صفحات المهرجان.

           إن (تونس التحول) أو (تونس التغيير) - وهما لفظتان تترددان كثيرا هنا - لا تتوقف عند البناء المعماري, أو البنى الأساسية, بل غايتها بناء الإنسان, صانع الحضارة.

           لذا فإن هذا المهرجان, ومهرجان ربيع (دُوز) في النصف الثاني من شهر مارس, وملتقى الشاعر محمد المرزوقي في النصف الثاني من شهر أبريل, واليوم الوطني للسياحة الصحراوية في 12 نوفمبر من كل عام, وسواها من الأنشطة الثقافية في الجنوب التونسي - وشماله - تحرص على البحث في الذاكرة الجماعية, ليس عودة إلى الماضي, وإنما لاستعادة ما هو نيِّر- كما يقول جمال الدين الشابي, المندوب الجهوي للثقافة والشباب والترفيه في (توزر) جارة (دُوز) والتي يبدأ مهرجانها الدولي للواحات بعد نهاية مهرجان (دُوز) وبه تختتم أيام العام الميلادي والسياحي. وتوزر هي بيت (أبو القاسم الشابي), صاحب الصيحة الأشهر:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة

فلابد أن يستجيب القدر



           وما دمنا قد وصلنا إلى الشعر فإننا نعود إلى (دُوز). فلا يكاد بيت من بيوت المرازيق يخلو من قائل للشعر, أو حافظ له. وقد نشأ أبناء هذه القبيلة على قول الشعر الشعبي, وترديده في المناسبات, ولعل تخصيص إدارة المهرجان صباحاته ولياليه للمطارحات والأماسي الشعرية, استعادة لتلك الروح الشعرية للقبيلة, التي تستمد صورها من طبيعة الحياة الصحراوية, وطبائعها. والمسابقات الشعرية أيضا عنصر أساسي في أيام المهرجان, كما يجد عشاق الأمثال والأقوال والمرويات المغناة هداهم حين يتقصون جذور الأشعار المرزوقية, فيردونها إلى أصولها ومشابهاتها العربية.

سباقات

           في المهرجان سباقان أساسيان. وإذا دان التاريخ الصحراوي للخيول والإبل, فإن استعادة هذا التاريخ وإحياء قيمه وتأصيل عاداته, لابد وأن يمر بهذين المضمارين. لذا خصص المهرجان سباقه الأول للخيول, باسم سباق (دُوز) الدولي للقدرة والتحمل. ويبلغ طول مضمار السباق 100 كيلومتر. ويبدأ في السادسة صباحا. (وهناك سباق آخر ينطلق بعده بربع الساعة, يجري فيه المبتدئون على خيولهم مسافة أقصر تبلغ 40 كيلو متراً). حين يصطف المتسابقون تحسبهم يستعدون لإشارة البدء من مخرج سينمائي لتصوير أحد مشاهد الفتوحات العربية, أو قل إنهم يحيون معركة حقيقية. ولا ينافس بهاء الوجوه المشرقة, بالرغبة في الفوز ونور الشمس, سوى سطوع الألوان للخيل المسرجة, يقودها الفرسان في مسلك تعترض مسافته أربعة بوابات بيطرية هيئتها ومبناها من نسيج الشعر المميز في (دُوز). المسلك غير ممهد, ويمتد عبر الرمال أو بين الغابات, وفي الصحراء, مما يجعله من السباقات الوعرة.

           وواجب البوابات البيطرية خلال السباق, والعيادة البيطرية قبله وبعده, التأكد من صحة الخيول وقدرتها على المواصلة. لذا تقضي لجنة دولية من الأطباء البيطريين بإقصاء أي جواد لا يستطيع المواصلة, بعد أي شوط, وخلال الاستراحة التي تصل - ربما - إلى أربعين دقيقة. والفارس الفائز هو من يستطيع أن يقطع جواده مسافة المسلك في أقصر وقت, ومن الألقاب التي يمنحها السباق: أحسن لياقة وحالة جواد.

           وهذا السباق في (دُوز) يعد واحداً من اثني عشر سباقا في تونس, عشرة منها وطنية, واثنان دوليان. وخيول تونس تبلغ 35 ألفا, بربرية, وعربية بربرية (الأكثر شيوعًا في الشمال الإفريقي ), فضلا عن ألفي جواد عربي أصيل. وينال سباق القدرة والتحمل اهتماما ملحوظا في تونس منذ العام 1998.

           يجدُّ المتسابقون في الشوط الأخير ويرفعون البنادق من غمدها ليطلقوا النار في الهواء, وبحركة تفوق مهارات رعاة البقر في الغرب الأمريكي. تراهم يديرون البنادق مرة أو مرتين في الهواء - كراقص لعبة التحطيب - قبل أن يعيدوها للغمد, والخيل تجري تحتهم, حتى تعبر علامة النهاية, منشدين: على قلق كأن الريح تحتنا! الخيول أيضا كانت في دور البطولة ضمن العروض الراقصة, تباري مهارة فرسانها.

           قبل السباق الأساسي الثاني وهو سباق المهاري (الهجن), وبعده, تتوقف العيون عند مهارات أخرى لسفينة الصحراء! فهناك الألعاب التي يسمونها (فرجوية) - أي تستحق المشاهدة - وتبدأ بعراك الفحول, وأعني صراع المحترفين من الجمال, يحاول فيها الجمل الفحل أن يستخدم عنقه وجسده معًا ليطيح بغريمه, وسط دائرة من المشجعين.

           وفيما يستعرض جمل آخر مهارته في احتساء زجاجة عصير, دون أن تسقط الزجاجة منه, تنبت براعم البهجة في بساتين الوجوه الصغيرة والكبيرة في آن واحد, بينما الطبول المزينة بلوني العلم التونسي وعلامتيه, لا تتوقف إيقاعاتها.

           وفي زاوية أخرى بالساحة, أتابع الصيد بالسلوقي (فصيلة من كلاب الصيد), يطلق المدرب أرنبا بريا يطارده الكلب الأول, فيفشل, ويلحق به سلوقي ثان فيخطئه, فيما الحيوان الصغير - الذي يحفظ خريطة المكان - يدور حول البئر. قد لا أتابع حتى النهاية, كأني أريد للأرنب الهروب!

           إن الأمر لا يعدو إلا أن يكون رسالة بأن المهرجان لم ينس شيئا من طقوس الجد والمرح, وأن هذه الفعاليات مرشحة بامتياز لكثير من واحاتنا لاعادة اكتشاف جمال صحارى وطننا العربي.

           مع الصيد بالسلوقي وعراك الفحول والغناء حول البئر والرقص بالسيوف واللعب بكرة المعقاف التي تشبه إلى حد مذهل لعبة الهوكي, وانتظار خبز الملة حتى ينضج فوق لوحته المعدنية المستديرة فوق نار الجريد المشتعل أدناها (خبز التنور), وقافلة العرس التقليدي في (دُوز).. فضلا عن جديد المهرجان الخامس والثلاثين هذا العام الذي استقدم حرفيين للصناعات التقليدية, ليس فقط من (دُوز), بل من ولايات تونسية ودول عربية وإفريقية أيضا.

           مع كل ذلك وسواه في حديقة الرغبات التي صارت إليها الساحة, الموشاة باللافتات, تتجدد الحياة الصحراوية, وهي تعبر آلاف السنين في سويعات,في ساحة المهرجان, ساحة (حنيش), وبحضور يومي يبلغ 70 ألف متفرج, كأنها مباريات كأس العالم في ألعاب الصحراء, يمثل سباق المهاري قمتها. حين تبدأ مكبرات الصوت في الساحة تدعو المتسابقين للانتظام استعدادا للسباق الكبير: لوحة بيضاء تلونها الشمس والأزياء, تكتشف التفاصيل كلما اقتربت.

           ازدهار هذه الرياضة جعل وزارة الشباب والطفولة والرياضة في الجمهورية التونسية, تؤسس العام الماضي (الجمعية الجهوية لرياضة المهاري), لتطوير رياضة ركوب المهاري, وتنظيم مسابقاتها على مدار العام, والمشاركة في الاحتفالات الوطنية, والعربية, والسياحية الدولية, والأهم المشاركة في الماراثون الدولي للمهاري بمهرجان (دُوز).

           وفي العام السابق شارك في هذا المهرجان 80 متسابقا, قطعت مهاريهم مسافة 42 كيلومتراً, وقد حصل الفريق المصري على المرتبة الأولى, والمهري الذهبي, فيما ذهب المهري الفضي للفريق الجزائري, والمهري البرونزي للفريق الليبي. ومن تونس سافرت إلى مصر والكويت وقطر وليبيا وفرنسا وفود تمثل رياضة المهاري التونسية. كما شارك المهرجان في تأسيس الاتحاد العربي لرياضة المهاري (الهجن).

شريط خام من المشاهد

           في (دُوز) مشاهد طبيعية تصلح مادة سخية لشريط خام (الشريط يطلق في تونس على الفيلم السينمائي). والمشاهد لا تلتزم بديكور السوق الحي, وحسب, بل تنتقل إلى آفاق أخرى تمثل الشمس إضاءتها الطبيعية, وهي تحاول أن تفلت بين بوابة وهمية تصنعها جذوع النخيل. سترمي الشمس نظرة أخيرة قبل الوداع, فيما ننتظرها نحن فجر اليوم التالي.

           ربما تعود العين أيضا إلى رقش من النخيل يطرز بستان الرمال الممتد كبساط بين مسافة وأخرى. أو ترى إلى الصغيرات المرتديات الأزياء التقليدية يشاهدن السباق حين تحمل الريح الخيول وتعلق في أطرافها العيون والقلوب معا. أو تمر بالبوابات الحجرية في قصر غيلان التي تنبت في الصحراء فتنبت معها ذاكرة التاريخ بين راقات الحضارة. وإذا وصلت إلى قبة المقام, حيث ضريح الولي الغوث, ترى في القبة نصف الكرة الأرضية وكل الإيمان, بينما زوايا الزاوية تشير إلى الجهات الأربعة. ولا تفوتك نظرة إلى المجسمات على الطرق وفي دوارات المدينة, التي ترصد المهاري والغزلان الشاردة, وتحتفظ بها على غير عهدها ساكنة.

           هذه المشاهد وخلفية الكثبان الرملية التي تحويها جعلها من المواقع المناسبة لتصوير بعض مشاهد السينما العالمية, فإلى (دُوز) جاءت فرق أفلام (المريض الإنجليزي), و(حرب النجوم), و(العيش في الجنة), و(السماء تحت الصحراء), فضلا عن الأغاني المصورة لمطربين من أوروبا. لذا من الطبيعي أن تجد النجوم في السماء, في ليل (دُوز), وعلى الأرض خلال نهارها, وإذا لم يكن هناك تصوير فربما أتوا للزيارة, والكثيرون في (دُوز) يحتفظون بصورهم مع النجم الفرنسي جان بول بلومندو والنجمة الإيطالية كلوديا كاردينالي. كما زارت (دُوز) 17 قناة تليفزيونية عربية وأجنبية, لنقل فعاليات المهرجان.

           تكتمل المشاهد أيضا مع أبجديات الحياة اليومية لبعض أهل (دُوز) من طالعي النخيل, يجمعون التمور. ذلك المشهد المتناسخ رأيناه في غير مكان. ومن ساحة الشهداء إلى متحف الصحراء في (دُوز), ومن بئر السلطان إلى مقامي ولييها, ومن سوق الصناعات التقليدية إلى سوق الحيوانات, تستقطب (دُوز) أكثر من 400 ألف زائر, على مدار السنة, من خارج تونس وداخلها أيضا, بعد أن أولت الجهات المسئولة السياحة الداخلية أهمية كبيرة, ويسرت (دُوز) لاستقبال الزوار. حتى أنه في عام 2001 وصل عدد الليالي السياحية إلى 430 ألف ليلة, في فنادق المدينة التي تضم 3000 سرير. وبلغ عدد السياح الذين قاموا برحلات صحراوية على ظهور الإبل خمسة آلاف أمضى كل منهم ما بين 7 أيام إلى 15 يوما في الرحلة الواحدة.

           وإذا لم يكن هناك مطار دولي في (دُوز) فإن حولها أربعة مطارات في توزر وقفصة وجربة وصفاقس. وفي الجنوب الغربي من الجمهورية التونسية 74 مؤسسة سياحية و30 وكالة أسفار.

           دليلنا إلى مهرجان (دُوز) يصحبنا بين رغيف خبز وحُب حارين, ورشفة ماء وجمال آسرين, وتمرة نخل وحنين جارفين. هناك ستمسح ما تعلمت من على لوح حياتك, لتكتب حروفا جديدة, عبر النظر والعِبَر, حيث (دُوز) هي جزيرة أصالة في بحر الرمال, لا يستحيل الوصول إليها ما دام في القلب ناقة العشق. أنشد: في الطريق إليكِ/ أوزع الورود على أضرحة وشواهد قبور/ تحمل كلها اسمي/ عندكِ/ سأبعث من جديد!

           ستعترف أن القصيدة التي أمامك لا تعترف بقافية أو وزن, وأن لها سحرها الخاص, وصوتها غير المتكرر. وسترى بعين رسام غفوة الأصفر ينتظر يقظة السماء بزرقتها, فيما غيمة بيضاء تبتسم وهي تبحث عن مطار أخضر تهبط إليه. وكإنسان ستردد مع الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في ديوانه (والصحراء تقارب) الذي صورت بعضه في (دُوز) الفنانة آن ماري روز: حزينون هم/ يدَّخرون الفرح للضيف/ عندما يقتسمون معه/ الرغيف والزيتون وكأس الشاي/ لكن حزنهم متواضع/ لا يُصَدُّ/ إنه حزن الحجر/ حزن القمر والنعاج والريح/ حزن رمال خانتها الشمس/ حزن أبقار عجفاء في الربيع.

الزرابي في سوق (دُوز)

           في (دُوز) تهدأ الحياة - في غير أيام المهرجان - طوال أيام الأسبوع, لكنها تستيقظ مع شروق شمس يوم سوقها: الخميس. فإذا بالصورة التي يلونها السكون, أو يكاد, تتحرك, وإذا بالصمت الذي يلفها بالهدوء, أو يكاد, ينطق, وتنطلق أطراف جسد (دُوز) بألوان من البهجة لا تخطئها العين, وأشكال من الحركة يلهث وراءها الوصف في بقعة تعد من أقدم أسواق العالم.

           يشبه السوق في (دُوز) مسرحًا يستعد لعرض فصول من سيرة التجارة العربية, وإن لحظات ويرتفع الستار, عن حوار هنا, وحركة هناك. لكنك تمضي النهار ولا يرتفع الستار أو يسدل, فالمسرحية أبطالها تركوا الأدوار التمثيلية - وأنت منهم - ليلتقطوا صورة للباعة, أو ليلقوا نظرة على بضاعتهم, تلك الزرابي(السجاجيد التونسية) بتفاصيلها ومنمنماتها, وهي أحد منتجات النسيج الصوفية (مثلها كالمرقوم والبرنوس والحولي) التي تقدمها (دُوز).

           وإذا كانت الزرابي المبثوثة هنا تصنع في أكثر من مدينة تونسية, إلا أنها في (دُوز) تجتمع في معرض مفتوح, يمكنك أن تنقل العين بين أيقوناتها التشكيلية, لتعيد اكتشاف رموزها الموزعة بين المكان وكائناته.

           إن اللون الأحمر الدَّاكن - الذي يتوزع بين أرضيات الزرابي وعناصر تصميمها - يشير إلى حرارة اللقاء, والدماء, وهو يشيع مع انتشار الدفء الصحراوي الكريم.

           الأحمر يناقض حضور باقي الألوان أو يوازيها كلها. فبدرجات - ربما متساويات - تتوزع باليتة الألوان الأخرى, الأخضر النادر, والأزرق الذي يصل سماء الواحة بعيونها, والأصفر المذكِّر بالصحراء حين تصحب النسيج بعيدًا عنها. إنه مثل معدن نفيس, فناسج الزرابي يخفي هذا اللون قدر ما يستطيع بين دهاء الألوان الأخرى. فيما يحضر الأبيض والأسود والبني الداكن كمحددات جغرافية للمساحات التشكيلية مثلها كخطوط السياسة على خارطة صماء.

           تبدأ الزرابي بإطار (أو أكثر) وهو رفيع بلون أو لونين, أو سميك فيصبح نهرًا تسبح فيه الزخارف المتعددة الأشكال, التي تختزل الأشياء والكائنات. وتمتد الشرائط في الزرابي بطريقة فطرية في قياسات الأطوال والعروض, لتصل إلى قلب النسيج, وكأنك تصل البيت بعد سفر طويل في التيه (أليست هي الواحة في الصحراء?!). في البيت تصبح الألوان أكثر سخاء- فتكثر التفاصيل وتدب الحياة, وكأن على العيون أن ترتاح قليلا بعد عبور الحدود الطويلة.

           خريطة الزرابي: طرق وعلامات, حروف ومنمنمات, تبصر فيها الأسهم, والآبار, والنخيل, ثم ترجع البصر مرتين فترى الغزلان ترعى على البسط الحمراء أو (المهاري) تعدو في مسالك مهرجان (دُوز). النظام الصارم للخطوط المحددة للزرابي تهدمه نعومة أطراف اللون, مثلما تهدهد العين تلك النقوش التي تعتمد الأرقام السحرية في تكرار أيقوناتها: مرة وثلاثا وخمسا وسبعا.

           ناسج الزرابي يرث الفن ويورثه, ويمتد نسل هذه الزرابي بامتداد القوافل العابرة للصحراء والتاريخ معًا, إنها لوحات من دون توقيع, لكن الفنان الذي صاغها هو الضمير الجمعي لهذه الأمة

 

أشرف أبواليزيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات