وماذا عن صراع الحضارات?

وماذا عن صراع الحضارات?
        

           لايزال موضوع (صراع الحضارات) يطرح نفسه بقوة, ولايزال الجدال حوله دائراً.وفي عدديها اللذين يحملان رقمي (518) يناير 2002م و(519) فبراير 2002م أفردت (العربي) عدداً من صفحاتها لملف يتناول العلاقة بين الإسلام والغرب. وقد توالت الردود حول هذا الملف, التي نشرنا بعضاً منها في هذا الباب. وننشر هنا تعقيبين جديدين: 

           تعليقاً منا على ما نشر في ملف (حوار الحضارات), فإننا نود أن نؤكد أن الحضارة هي نتاج شعب من الشعوب خلال فترة زمنية معينة في مجالات الحياة المختلفة سواء كان هذا النتاج دينيا أو اقتصادياً أو ثقافياً أو عسكرياً...إلخ.

           وهذه المجالات مجتمعة تكوّن المحصلة النهائية لما اجتهد هذا الشعب في إنتاجه. وهناك شعوب على مر التاريخ قديما وحديثا نسبت إليها حضارات أقامتها مثل حضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي النيل وحضارة الصين, هذا قديماً, أما حديثا - أو التي تلتها بمعنى أصح - اليونانية, الإسلامية, ثم أخيرا الغربية.

           وفي - رأيي - أن هذه الحضارات قامت - في الدرجة الأولى - على تعاون وتوحد بين قبائلها المتفرقة ووحداتها المتشرذمة على ثلاثة أمور يجب أن يحققها الشعب حتى يكون هناك مفهوم وحدة إما دونها فلا.

           وهي: أولاً وحدة الفكر: ينبغي أن يجمع فكر الشعب على أمور محددة.

           ثانياً وحدة العاطفة: تميل قلوبهم حبا في تحقيق أهدافهم, وتحزن إن لم تتحقق, سواء كان هذا بهم أو بفئة من غيرهم.

           ثالثاً وحدة المنهج: يحققون أهدافا موحدة, وبتطبيق منهج موحد.

           أما ذلك الشتات في الفكر, والعواطف الخربة التي لا تفرح ولا تحزن إلا لما يخصها وليذهب الجميع إلى الجحيم, وأما تبنّي مناهج مختلة متضاربة {كل حزب بما لديهم فرحون} فذلك من قبيل الغثاء الذي لا غناء فيه, ويكون مصير تلك الأمة, وذلك الشعب الضعف والهوان ولا تعول عليهم قيام حضارة.

           هذا إلى وجود نظام إداري ينظم الشئون ويرتب الأمور داخليّها وخارجيّها ويرفض السيطرة الأمنية بحيث يكون مستقراً لديها عناصر قيام الدولة (الشعب, الأرض, الجيش).

           ونظرة عابرة حول تاريخ الحضارات نلاحظ فيها ما يلي:

           إن هذه الحضارات هي نتاج إنساني تأثرت بالتراكمات المعرفية التي سبقتها عبر التاريخ, كما أن مؤشر تطور الحضارة يتدرج حتى يصل إلى أعلى نقطة ثم ينزل منحنياً بصورة تدريجية, وتترك كل حضارة وراءها تراثا معرفيا في مختلف المجالات تظل شاهدة على هذه الحضارة, كما أن بعض الحضارات لا تموت - كما يبدو في الظاهر - وإنما هي أصيلة وباقية وتظهر بصورة أخرى في زمن آخر إن قدّر لها الخمود في زمن من الأزمان, وكل حضارة لها خصوصيتها وسماتها القومية التي تعتز بها, وتحاول كل حضارة - بما أوتيت من قوة - أن تفرض سيطرتها وهيمنتها على القوميات التي بجوارها, فإذا تمت لها هذه السيطرة والهيمنة قامت بتطبيع تلك الشعوب والقوميات بطابع قوميتها حتى لا تحاول أن تثور عليها, هذا من جهة, وأن تلغي أي تمايز أو خصوصية لها, هذا من جهة أخرى.

           وهذه النقطة هي نقطة الخلاف التي يدور حولها الكتاب على مختلف توجهاتهم وأسموه بصراع الحضارات.

           إن الصراع ينشأ عندما تحاول الحضارة فرض هيمنتها, وهذه نقطة - مع الأسف - ثابتة تاريخياً على مَن استقصى تاريخ تلك الحضارات قديماً وحديثاً, ولاحظ أنني أضفي على هذا الصراع بعداً تاريخياً أكثر منه حالياً أو مستقبلياً, واستطرد قائلاً: من حق الحضارة أن ترى ما هو الأصلح لها, ولكن هل من شأنها أن ترى ما هو الأصلح لغيرها? وأن تفرض هذا الأصلح عليها?

           هذا سؤال المقصود به إثارة فكر القارئ وسنؤجل الإجابة عنه إلى المستقبل إن شئتم. وقد ظهرت فعلاً نقاط تماس تظهر فيها شدة محاولات الهيمنة على التخوم التي تلتقي عندها الحضارات.

           فقد شهدت أرض الشام عموما وأرض فلسطين خصوصا صراعا رومانيا ـ فارسيا ثم إسلاميا ـ صليبياً, وشهدت بلاد الأندلس أيضاً صراعا من هذا النوع, وكلاهما يقع على حدود حضارتين متباينتين.

           وأريد أن أشير إلى أن هذا الصراع منشؤه تنافس قائم وثابت بين الحضارات تتجلى صوره في مناحي الحياة المتعددة ثقافيا, علميا, عسكريا.. إلخ.

           ثم يتطور هذا التنافس إلى أن يصل حد الفرض والهيمنة على الشعوب والحضارات المتجاورة ساعية إلى إخماد روح التحدي والتطور في الحضارات التي دونها.

           كما أسلفنا, وما العولمة إلا محاولة من الغرب لفرض ثقافته وتطبيع الشعوب على النموذج الأمريكي.

           وهناك مجرى أو قناة لا تستطيع الهيمنة التي تفرضها الحضارة القومية أن تمنعه أو تغلقه, ألا وهو مجرى التفاعل الثقافي بين شعوب الحضارات المختلفة, فمهما حاولت الحضارة الغربية إغلاقه أو توجيهه لمصلحته فلن تستطيع وتأتي الرياح غالباً بما لا تشتهي السفن, فليس التقاء حضارتين على إحدى الساحات السياسية العسكرية بداية أو نهاية المواجهة, بل هو شكل من أشكالها له جذور تاريخية قديمة وامتدادات وأفرع حديثة بعد أن فشلت كل مساعي الهيمنة في أن تحققها, وأخيرا يحاول بعض الكتّاب إضفاء نظرة وردية على العالم منادين برفع شعارات مثالية مثل العدل بدلاً من الظلم, والمساواة بدلاً من الطبقية, والحوار بدلاً من الصراع... إلخ, وهذه المبادئ لا يمكن الاختلاف حولها ولكن العالم اليوم أبعد ما يكون عنها.

رفعت عبدالرحمن إمام
القاهرة - مصر

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات