دعوة للحوار أم إلى الذوبان?

 دعوة للحوار أم إلى الذوبان?
        

            لا شك في أن موضوع الحوار مع الغرب سيُسيل حبراً كثيرا على مدار الشهور المقبلة, بعد الدعوة التي وجّهتها نخبة من أشهر علماء ومفكري الولايات المتحدة الأمريكية, وسينقسم المثقفون في الوطن العربي والإسلامي إلى شريحة متحمسة له - الحوار - وأخرى متحفظة تجاهه مخافة أن يقودنا الاندفاع غير المدروس إلى مزيد من الانتكاسات والاختناقات, ولا أتصور أنه يوجد في عصرنا الراهن الذي يتهدده الدمار والفناء من يرفض الحوار مادام يهدف إلى خير الإنسانية ورقيّها.. وهذه السطور مساهمة متواضعة في إثراء الحوار الداخلي أولا, وهي تعقيب على ما نشر في (العربي) العدد (524) يوليو 2002 بعنوان: (الغرب والعالم العربي الإسلامي: صدام أم حوار?).

            لقد قال الرئيس الأمريكي رونالد ريجان: (البُعد التاريخي الأول في استراتيجيتنا بسيط نسبيّا, وقاطع الوضوح,وبالغ الحساسية, إنه الاقتناع التام بأن مصالح الأمن القومي الأكثر أساسية للولايات المتحدة ستصبح معرّضة للخطر إذا أمكن لدولة أو مجموعة من الدول أن تهيمن على الأرض الأوروآسيوية.. تلك المنطقة من الكوكب التي يشار إليها في أحيان كثيرة بوصفها (منطقة المركز) في العالم. وقد خضنا غمار حربين عالميتين لمنع احتمال كهذا من الحدوث, كما سعينا منذ العام 1945, إلى منع الاتحاد السوفييتي من استعمال ميزته الجيوبوليتيكية للهيمنة على جيرانه من دول أوربا الغربية وآسيا والشرق الأوسط, ومن ثمّ يغيّر تماما التوازن الكوني للقوة لغير مصلحتنا) (الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان - نقلا عن: الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر - سلسلة عالم المعرفة العدد 282).

            ظهر على الساحة الثقافية في يوليو 2001 كتاب مهمّ وخطير تحت عنوان (التنين الأكبر) العدد 271 من سلسلة عالم المعرفة.. وكنت أظن أن الحقائق التي وردت في الكتاب ستدفع عقلاء ومفكري العالم, والعالم العربي الإسلامي بالخصوص إلى وقفة تأمل طويلة تمكنهم من إعادة ترتيب عالم أفكارهم, ولكن تسارع الأحداث وفداحتها جعلت الكتاب يمرّ بين أيدينا مصحوبا بصمت قاتل.

            ويدرك - القارئ - أن القيادة الأمريكية وعلى رأسها المخابرات المركزية مستعدة لأن تضحي بالآلاف من أبنائها وبالملايين من أبناء الشعوب الأخرى - لا فرق بين صديق وعدو - في سبيل صيانة أمنها القومي.. والأمن القومي يعني أن تبقى أمريكا وحدها سيّدة العالم, بعد أن أثبتت الدراسات التي أوردها الكتاب المذكور أن التّنين الأكبر - الصين - سيصبح بحلول العام 2050 أوّل قوة عسكرية واقتصادية في المعمورة, وبعد أن ارتفعت أصوات الباحثين في أمريكا بالتحذير من صحوة المارد الإسلامي (فالعالم الإسلامي يغطي مساحة من الجزيرة العالمية تمتدّ من الشمال الإفريقي إلى جنوب شرقي آسيا, وهو يملك مقدرات وموارد هائلة تؤهله لكي يصبح قوة عالمية لا يستهان بها على الساحة العالمية.. ويملك العالم الإسلامي الإمكانات التي تؤهله للحلول محلّ الماركسية اللينينية التي قضت أخيرا كرأس حربة ثورة شعوب دول الأطراف ضد الهيمنة).

الجغرافيا السياسية لعالمنا

            ويدرك - القارئ -  بعد أحداث 11 - 9 - 2001 أن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على أفقر دولة في العالم باسم محاربة الإرهاب, وأن قوة التدمير ودقة الضربات, وسرعة التجمع, وسرعة الإطاحة بطالبان وتنصيب حكومة بديلة موالية للغرب, كل ذلك لم يكن ردّا على أحداث 11 - 9, ولا وليد شهرين من الإعداد, بل هي عملية مخطط لها منذ سنوات, وكان لا بدّ من ذريعة تختفي وراءها النوايا الأمريكية والغربية تبرّر بها أعمالها أمام الرأي العام المحلي خاصة, فكانت أحداث واشنطن ونيويورك وسرعة انتهاء التحقيق باتهام الحركات الإسلامية المتشددة والرافضة لاستمرار التبعية للغرب, وكان الرد السريع لبداية تنفيذ المخطط الأمريكي لإحكام قبضتها على ثروات العالم وشعوبه حتى تبقى سيّدة الكرة الأرضية من دون منافس. فهل كان تصريح الرئيس الأمريكي عندما قال إنها الحروب الصليبية زلة لسان حقا, كما حاولت وسائل الإعلام في بلادنا أن تقنعنا? ويدرك القارئ - آخرا وليس أخيرا - بعد قراءة الكتاب أن الحوار مع أمريكا/ الغرب على المستوى السياسي أمر مستحيل مادامت الغلبة لشق الصّقور في صنع القرار الأميركي.

            هزت أحداث 11 - 9 المجتمع الأمريكي بالدرجة الأولى, وكنت أنتظر أن تُحدث هذه الفاجعة رجّة عنيفة في أوساط رجال الفكر في الولايات المتحدة ليعيدوا النظر في سلامة منظومتهم الفكرية والثقافية والتربوية, وبالتالي السياسية, مثلما حصل في فرنسا إثر الأحداث الطلابية التي هزّت المجتمع الفرنسي ومؤسساته الفكرية والتربوية سنة 1968.. وجاء البيان الذي وقعه ستون من علماء ومفكري أمريكا يدعوننا فيه إلى الحوار, ليدحض هذا الأمل في إجراء حوار صادق يهدف إلى بناء حضارة إنسانية على أساس الحق والعدل والمساواة, ويؤكد - البيان - بما لا يدع مجالا للشك تورّط النخبة الفكرية الأمريكية فيما حدث وما سيحدث وأن هناك اتفاقا وتناسقا كبيرين بين النخبة الفكرية والنخبة السياسية في البلاد الأمريكية والغربية عموما, وأن أخذ القرار السياسي في أمريكا يتمّ عبر الخلاصات والوصايا التي تنتهي إليها معاهد الدراسات هناك.

            لن نتعرض للتعليق على محتوى البيان الذي جاء - مثلما سبق القول - بإمضاء مجموعة من خيرة علماء أمريكا ومفكريها, فقد تولت وسائل إعلام عديدة الرد والتعليق عليه. ولكني أريد أن أتعرض إلى إمكان إجراء مثل هذا الحوار, وهل يمكن له أن يحقق المأمول منه بالنسبة لنا نحن شعوب العالم العربي الإسلامي - خصوصا - ما دامت الدعوة موجهة إلينا بالأساس.. ويكتسب هذا السؤال مشروعيته من تحمّس عدد كبير من مثقفينا لهذه الدعوة المشكوك في سلامة نيّة أصحابها.

            لا شك في أن الحوار - الثقافي أو الديني أو الحضاري - ساهم في حلّ أعقد المشاكل وتقريب وجهات النظر بين الأفراد  والجماعات وحتى بين الأمم, وحين يخطئ دعاة الحوار قانون الحوار وشروطه تكون النتيجة على غير ما يرغبون.. وأهمّ هذه الشروط أن يتمكن كل من الطرفين من التعبير عن أفكاره والدفاع عنها بحرية وطلاقة, ومن الاعتزاز بذاته فلا يحقّر أحدهما الآخر, ولا يشعر أحدهما بأنه أدنى من منافسه, وأن مهمته تقتصر على السمع والتلقي, وإلا تحوّل الحوار إلى نوع من المونولوج, الغالب فيه يتحدث, يأمر ويوجّه, والمغلوب المستلب يقف أمامه باهتا, إمّا عن رهبة وتعظيم, وإمّا عن شعور بالحقارة والانهزام, وإمّا عن ذهول وتردد.

وأد العداوة

            ولن نأتي بالجديد إذا قلنا إنّ الحوار مع أميركا/ الغرب, إذا قبلناه على الكيفية التي يريدها أصحاب البيان, سيكون مونولوجا على الصورة التي ذكرتها, وهم يدركون ذلك جيدا للحالة الانهزامية التي يعيشها المسلمون على كل المستويات, وخصوصا على المستوى الثقافي.

            ودعنا نسأل دعاة الحوار الأمريكيين إن كانوا مستعدين للتخلي عن بعض من كبريائهم وغرورهم, وعمّا يؤمنون به من أفكار كانت ولا تزال الوقود لروح العداوة التي يكنونها للشعوب الإسلامية بصفة خاصة.. فالغرب بكل فئاته, بما فيها المجتمع المدني, لا يزال, ومنذ القرن الثامن عشر, وبمساعدة علمائه في الاجتماع ومؤرخيه وكتّابه وفنّانيه وحتى الثوريين ودعاة الإنسانية فيه, يريد أن يفرض على العالم أطروحته التي تقول إن الحضارة واحدة, وهي تلك التي صنعها الغرب وقدّمها للعالم, ولابدّ لكل من يريد أن يكون متحضرا أن يمارس الحضارة التي نصنعها نحن, وإذا ما رفضها فسيبقى متوحشا.. وتقول - أطروحته - إن الثقافة واحدة, وهي تلك التي تُدعى بالثقافة الغربية, ولابدّ لكل من ينمّي في نفسه القيم الثقافية أن يرضى ويتقبل القوالب التي يقدّمها له الغرب في هذا المجال, وإلا فسيبقى بلا ثقافة وبلا حضارة.. والرجل الغربي/ الأمريكي لا يزال يؤمن أنه وحده الموجود. يقول سارتر: (لا يوجد في العالم سوى خمسمائة مليون إنسان فقط.. أما الباقي فهم محليّون). والمحلي عند الغرب يعني الشرقي, أمّا الإنسان فهو الغربي.. ويقول (إرنست رينان): (إن الغرب في عنصره هو صاحب العمل, وإن الشرقي في عنصره هو عامل, ولهذا ترى الطبيعة تزيد وتكثر من عنصر العامل وتقلل من عنصر صاحب العمل), ويقول (زيجريد): (إن الغربي له عقلية صناعية وإدارية قادرة على صنع الحضارة, أما الشرقي فله عقلية شعورية عاطفية متوسطة, وهو عاجز عن التفكير والاستنتاج ووضع القوانين الحديثة).

            وأريد أن أسأل دعاة الحوار من الأمريكيين / الغربيين, إذا كانوا صادقين في دعواهم, إن كانوا مستعدين للتخلي أو لتعديل فلسفتهم الاقتصادية المبنية على النظام الرأسمالي القائم على الربح غير المحدود, سُخرت له المعطيات الخاصة والعامة, وزجّت الإمكانات المتاحة, وسيّرت القيم لتنظم كلها في طريق النظام الرأسمالي والتكوين التكنولوجي اللذين كلما ازدادا استقرارًا ونموّا ازدادت قدرة النظام على الإنتاج كمّاً وكيفًا, أي على زيادة الأرباح.. بهذا النّهم على الربح تجد الحضارة الرأسمالية نفسها مندفعة بقدر محتوم إلى التمسك بأسباب مصيرها, أي بالمحافظة على الربح والعمل على تعظيمه عن طريق احتكار التكنولوجيا وحبسها ونشر آثارها واحتكار الأسواق واحتكار السلع, دوماً في طريق التبادل غير المتكافئ في مسيرة التنمية المتفاوتة, وكل ذلك لن يكون إلا عن طريق استنزاف خيرات العالم المستعمَر لتبقى الرأسمالية جشعاً لا يتوانى عن الغزو من أجل الربح وتعظيمه في أمكنة أخرى من العالم وبأساليب مختلفة, وما الحرب التي شنتها أمريكا وحلفاؤها على أفغانستان تحت غطاء محاربة الإرهاب, إلاّ صورة لطبيعة الرأسمالية الباحثة عن الربح بكل السبل.. هل فكر دعاة الحوار الأمريكيون/ الغربيون في تعديل فلسفتهم الرأسمالية ليتراجع هذا النظام عن أهدافه ويتوقف عن غزو الشعوب, حتى نندفع جميعا في بناء حضارة إنسانية عادلة رحيمة?

            بعد الإجابة عن السؤالين الذين طرحتهما في هذه الوقفة القصيرة يمكننا أن نقرّر موقفنا النهائي من الحوار مع الغرب/ الأمريكي, بعد أن نحسن إدارة الحوار فيما بيننا من دون إقصاءات ومن دون وصاية مثلما يلوح ذلك في كل الحوارات التي دارت بيننا نحن أبناء الأمة الواحدة, ومثلما بدأ يلوح في بعض المقالات التي كتبت في الآونة الأخيرة في هذا الموضوع

محمد الصالح عزيز
تونس

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات