الرُها: قصة مدينة تحررت في زمن عربي مجيد

الرُها: قصة مدينة تحررت في زمن عربي مجيد
        

بسبب موقعها الاستراتيجي المهم, مرّ عليها الكثير من الغزاة, وفي لحظة من التاريخ, اخترق الفرنج عن طريقها الجبهة العربية الإسلامية, لكنها حين جاءت الصحوة... تحررت, وعادت إلى الجسد العربي من جديد.

          لا تُعرف نشأتها بالتحديد, ولكن أخباراً تشير إلى أنها تأسست في العهد المتأغرق وربما قبل ذلك, إذا سلمنا بمروية ياقوت الحموي. وقد عُرفت حينذاك باسم (أذاسا). كما عُرفت باسم آخر وهو راغس Rages لدى وليم الصوري الذي وصفها بأنها مدينة مشهورة في بلاد الجزيرة, وجاء في دائرة المعارف الإسلامية: (الرُها أو رقة, وباليونانية إدسا Edessa)... أما الرُها, فكان الاسم المتداول حين خضعت للعرب المسلمين إبّان فتحهم للجزيرة, في أعقاب (مؤتمر) الجابية برئاسة الخليفة عمر بن الخطاب (17هـ/638 م).

          وهي تقع على مسيرة يوم إلى الشمال من الفرات, عند تقاطع الطرق بين سميساط وحرّان, حيث ديار مضر في العهد الأموي, وسكانها تنوّعت أصولهم, ما بين عناصر سامية قديمة وغالبية أرمنية. واشتهرت الرُها بخصوبة أراضيها, حيث تنتشر في غور محاط من ثلاث جهات بالجبال, ويمرّ في جنوبها الشرقي نهر (أكيبوس) غزير المياه (قره عيون اليوم), قبل أن يصب في نهر بليخ. وبفضل موقعها الجغرافي, كانت التجارة أحد المصادر المهمة في حياتها الاقتصادية, لاسيما أنها تصل بأحد خطوطها الكبرى ما بين الشرق والغرب, مروراً بماردين ونصيبين إلى دجلة. وكانت أسوارها المزدوجة, فضلا عن القلعة في جنوبها الغربي, مما يؤكد خطورة موقعها الذي لفت أنظار الدول المتصارعة على النفوذ في المنطقة, وانعكس بالتالي على تكوينها السكاني المتنوّع. فلطالما تجاذب السيادة عليها كل من الرومان والفرس الساسانيين, خصوصاً في القرن الثالث الميلادي الذي شهد أيضا سيطرة تدمر لبضع سنين عليها. ولم يتوقف هذا الصراع بعد أن آلت السيادة شرقاً في إمبراطورية الرومان القديمة إلى البيزنطيين, والذي اتخذ في جانب منه سمة عقائدية, بعد تحوّل هؤلاء إلى المسيحية في القرن الرابع, خصوصا بين أتباع اليعقوبية (الكنيسة السورية) وبين أتباع الملكانية (الكنيسة البيزنطية). وفي الوقت الذي كان الإسلام يثبت فيه حضوره في الحجاز, كان هرقل يعيد ترتيب الأوضاع في الشام والجزيرة, محمّلاً ربما السكان فيهما مسئولية هزيمة البيزنطيين قبل سنوات أمام الفرس. فلما ثأر من هؤلاء مستعيداً السيطرة على المنطقة, عمل على توحيد الكنيسة, مستهدفاً اليعاقبة الذين تشير المرويات إلى قيامه بطرد أسرهم البارزة من الرُها.

          هكذا إذن كانت صورة المدينة (الجزرية) القديمة, عندما طرق الإسلام أبواب المنطقة, محققاً انتصاراته الباهرة في الشام التي غادرها هرقل منكسراً, ومعه مشروعه, بعد معركة اليرموك (15هـ/636م).

          ومن أجل حماية تلك الانتصارات, اتخذ الخليفة عمر قراراً بمتابعة التوسع على جبهتين: الأولى في مصر التي سار إليها عمرو بن العاص, منجزاً فتحها خلال سنوات ثلاث (18-21هـ). والثانية في الجزيرة التي تولى عياض بن غنم مهمة فتحها, مبتدئاً بالرُها التي بدا أنها حاضرة الجزيرة ومفتاح السيطرة عليها في ذلك الوقت. وقد جاء في مروية البلاذري: دخل أهلها (الجزيرة) (فيما دخل فيه أهل الرُها, على أن لهم هيكلهم وما حولها, وعلى ألا يحدثوا كنيسة إلا ما كان لهم, وعلى معونة المسلمين على عدوهم). كما جاء فيها ما يعزّز هذا الموقع للرُها في الجزيرة, بأن عياضاً حين سار إلى حران, وجدها خالية بعد لجوء أهلها إلى الرُها, حيث عقدوا معه صلحاً على غرار صلحها, وعلى نحو ذلك فعلت الرقة وفرنيسيا ونصيبين وسنجار وغيرها من مدن الجزيرة.

          وقد ظلت الرُها نيفاً وأربعة قرون في فلك الخلافة الإسلامية, على الرغم من محاولات جديّة من بعض الأباطرة البيزنطيين لتحقيق أهداف توسعية, مستغلين اضطرابات داخلية في الشام والجزيرة, فقاموا بغزوات خطرة في القرن الرابع الهجري ـ العاشر الميلادي, ولكنها لم تحدث تغييراً لمصلحتهم في خارطة المنطقة.

          وقد شهدت الجزيرة حينذاك هجرة واسعة من القبائل العربية, تشكّلت في معظمها من كلاب وعقيل ونمير, حيث أقامت الأخيرة ديارها في حرّان والرُها, وهي سياسة دأبت السلطة عليها في مواجهة الأخطار على تخومها المهددة بالغزوات البيزنطية.

          ولكن اللافت حينئذ أن الرُها على الرغم من انضوائها تحت السيادة العربية الإسلامية, فإنها حافظت, وربما ما يتعدى الحواضر الأخرى, على ملامح شخصيتها التاريخية, فيما يتصل بالعقيدة والثقافة والتنوع. فقد روى ابن حوقل أن فيها (منتصف القرن الرابع الهجري) ما يزيد على ثلاثمائة كنيسة, عدا الكاتدرائية التي وجدها المقدسي غاية في الفخامة والإتقان.

          وفي مقدمة ما يعنيه ذلك أن الإسلام الذي كان الحوار واضحاً في خطابه, لم يجد عائقاً في التواصل مع أتباع العقائد الأخرى, بل خلافاً لذلك نجح في احتواء مختلف الفئات التي مارست بحرية شعائرها وعاداتها وانخرطت في المجتمع, متفاعلة معه, ومسهمة بدور بارز في حضارته. ولعل الرُها كان لديها من عمق التاريخ وغنى التراث ما بوأها الموقع المميز, والذي نلحظه في كثرة المنتمين إليها من الفقهاء والمحدّثين. فقد كانت مدرستها الشهيرة التي أسسها العلماء النساطرة منذ القرن الخامس الميلادي, منطلقاً لتلك الحركة التي تلقفها بوعيه الحضاري الخليفة العباسي المأمون, مؤسساً (دار الحكمة) التي تعرّف المسلمون من خلالها على الفكر اليوناني (الكلاسيكي).

          بيد أن الرُها, على الرغم من توالي القرون وضخها إبان ذلك بالهجرات القبلية, لم تنصهر تماماً في إطار المجتمع العربي الإسلامي, فقد عرقل هذا الانصهار ارتباطها عقيدة وثقافة بالبيزنطيين الذين ما انفكوا بدورهم يعزّزون العلاقة معها من خلال حملاتهم العسكرية إلى الجزيرة, امتداداً إلى حلب في الشام, وقد نجم عن هذه الحملات خروج الرُها من السيادة العربية الإسلامية, ولكن من دون الخضوع تماماً لسيطرة البيزنطيين الذين اكتفوا بجزية سنوية تؤدى لهم. وكان ذلك في القرن الحادي عشر الميلادي, القرن الذي شهد أواخره سقوط المدينة في أيدي الفرنج واتخاذها أولى إماراتهم في الشرق.

          وفي المقابل, رهصت المرحلة بتغيرات كان ردّ الفعل الإسلامي على الهجمات البيزنطية واضحا فيها. فقد ظهر السلاجقة قوة سياسية مهيمنة في إطار الخلافة على أنقاض النفوذ البويهي, وما لبث أحد أبرز السلاطين (ألب أرسلان) أن سار على رأس حملة إلى الرُها (462/1070) , وحاصرها خمسين يوما, وقد ذكر أن أهلها حينئذ عشرون ألفا من السريان وثمانية آلاف من الأرمن وستة آلاف من الروم, حيث عانوا وطأة الحصار الشديد, قبل أن يأمر السلطان برفعه استجابة لرغبة المدينة بالصلح, ولكنه عاد في العام التالي فعبر الفرات, حيث وصلته أخبار عن تحرك جيش كبير بقيادة الإمبراطور البيزنطي (رومانوس دايجنيوس) مستهدفا مواقع المسلمين في الجزيرة, فانعطف شمالا لمواجهته في المعركة الشهيرة التي وقعت في (ملاذكرد) (قرب بحيرة وان) وعرفت باسمها, محققا انتصاره المدوّي على القوات البيزنطية.

مشروع توسعي

          وكان لهذا النصر نتائجه المهمة والخطرة على عدة صعد: إسلامياً وإقليمياً ودولياً, إذ سرعان ما استسلمت الرُها في أعقاب (ملاذكرد), متزامنا ذلك مع تصاعد العلاقة العدائية مع الدولة البيزنطية التي فقدت معظم آسيا الصغرى, فاتجهت لأول مرة إلى التحالف مع القوى المسيحية في أوربا, متجاوزة الخلافات التاريخية معها, وهكذا فإن الرُها التي كانت عقدة مهمة في المشروع التوسعي البيزنطي إلى الشرق من أنطاكية, سرعان ما عادت إلى السيطرة الإسلامية (السلجوقية), ولكن أحدا لم يدر في خلده حينذاك أن خطرا جديدا تربص بهذه العودة مهددا المنطقة كافة, عندما أخذت طلائع ما سمي بالفرنج (الصليبيون في المصطلح الأوربي) في التوافد عليها, مستفيدين من تعثّر الجبهة الإسلامية, المنطوية على انقسامات حادة في ذلك الوقت.

          وإذا كانت ثمة علاقة مباشرة بين معركة (ملاذكرد) والغزو الفرنجي, فهي تكاد تنحصر في التحريض من جانب البيزنطيين, وفي التوقيت الذي جاء مناسبا لهذا الغزو. فقد بدأت الحركة (الصليبية) باعتراف المستشرق آرنست باركر في إيطاليا منذ منتصف القرن التاسع الميلادي, مع تحريض البابوات على إخراج المسلمين منها, وتُوّجت حينذاك بسيطرة النورمان على صقلية بعد حرب دامت ثلاثين عاما (1060-1090). أما الوجه الشرقي لهذه الحركة, فقد تجلى في الدعوة إلى الزحف على (سوريا), حيث الأماكن المقدسة المسيحية, دون أن يغيب أيضا عنصر التوقيت المناسب في تلك المرحلة التي شهدت انتزاع السلاجقة بيت المقدس من النفوذ الفاطمي, في السنة عينها التي جرت فيها معركة (ملاذكرد) مما أوجد فرصة إضافية للتحالف بين الفرنجة والبيزنطيين على قاعدة العدو المشترك, والذي تجلى, وربما لمرة وحيدة على أرض الواقع, في الحملة الأولى بعد سنوات قليلة.

          كان عماد هذه الحملة ثلاثة جيوش من الفرسان, تحرّكت باتجاه الشرق (490هـ/1096م) بقيادة جودي فري دي بويون وأخيه بلدوين, وريموند أمير تولوز, وبوهمند أمير تورنتو, حيث التقوا جميعا في القسطنطينية ربيع 1097م. وقد تزامن هذا التحرك مع انكفاء سريع للسلاجقة, القوة الضاربة في المشرق, وذلك بعد وفاة آخر سلاطينهم الكبار ملك شاه, ومع ارتباك على جبهة الشام كان الفاطميون الأكثر إفادة منه, حين استعادوا السيطرة على بيت المقدس. ولكن ذلك وعلى خطورته, لم يؤد إلى انهيار هذه الجبهة, إلا أن سقوط أنطاكية المفاجئ أحدث ثغرة كبيرة في دفاعها, لما يمثّله هذا الثغر من أهمية عسكرية, باعتباره الباب الرئيس إلى الشام.

أول إمارة للفرنج

          وكان أحد الجيوش الفرنجية بقيادة بلدوين, قد انعطف شرقا, أثناء حصار أنطاكية, إلى الرُها التي سرعان ما سقطت في يده, مؤسسا فيها أول إمارة للفرنج في الشرق وإذا كان بعض المؤرخين يربط بين هذه العملية والطموح المبكر لبلدوين باتخاذ موقع نفوذ له في المنطقة, منافسا بوهمند الذي بدا أنه يتجه إلى الاستئثنار بأنطاكية, فإن ذلك لم يكن منفصلاً عن الرؤية (الاستراتيجية) للفرنجة الذين تنبهوا إلى أهمية الرُها في تعزيز الحصار على أنطاكية, وفي دفع مشروعهم الرامي إلى السيطرة على حلب مما يسهّل حركة الاختراق للجبهة الداخلية, الخاضعة لسيطرة السلاجقة وأتابكتهم). وإذا كان الهدف الأول قد تحقق بسقوط أنطاكية, مسهما فيه أحد المقرّبين من حاكمها بإتاحته الفرصة للزحف الفرنجي, دون عوائق بارزة, على الساحل الشامي وبعض المواقع المتاخمة له, فإن صمود حلب, فيما بعد, أفشل خطة التوغل في الداخل, الذي انبثقت منه لاحقا, حركة مقاومة شعبية ومنظمة, كان لها دور كبير في ردع الهجمات الفرنجية ودفعها إلى الانكفاء.

          وعلى غرار الرُها, حيث النزعة الاقطاعية لقادة الفرنج انتقلت معهم إلى الشرق, أسس بوهمند إمارة في أنطاكية, قبل وصول أمير الموصل (كربوجا) لنصرتها, وكان على بعد مسافة أيام ثلاثة منها. وعلى الرغم من ذلك تقدم نحو المدينة وحاصرها ما يزيد على العشرين يوما قبل أن تتكتّل القوى الفرنجية ضده وتنجح بصعوبة في هزيمته (28 يونيو 1098). أما الإمارة الثالثة فقد أسسها ريموند في طرابلس, وكانت تابعة, شأن الإمارتين السابقتين لمملكة بيت المقدس, إلا أنها كانت تبعية صورية, حيث تمتع كل منها بالاستقلال في شئونه, وتعاقب الأمراء أحيانا عبر الوراثة, ولم يكد يمرّ عامان على تأسيس الرُها, حتى أصبح أميرها (بلدوين) ملكا على بيت المقدس, فتولى أمرها بلدوين دي بورغ Beldwin de Burgh حتى سنة 512هـ/1118م, ثم تبعه جوسلين الأول, فجوسلين الثاني حتى سنة 539هـ/1144م, وهو تاريخ استعادة المسلمين لها.

          وعلى الرغم من انحرافها نحو الشرق, مما يجعلها مهددة من جانب القوى الإسلامية, خصوصا في الموصل, فقد صمدت ما يقارب من نصف قرن, وذلك بتأثير عاملين مهمين:

          1 - أنها كانت على اتصال بالأرمن الذين أمّنوا لها الغطاء العسكري في المنطقة الواقعة إلى الشرق من الفرات.

          2 - وقوعها على مقربة من طريق التجارة الكبير الذي يمتد من النهر إلى الرقة, حيث يتفرّع بعد ذلك في اتجاهين: الأول إلى أنطاكية والثاني إلى دمشق. وليس ثمة شك في أنها تعززت موقعا بفضل هذه المعطيات  التي مكّنتها من الإسهام في العمليات العسكرية للفرنجة, حيث قام أميرها بحملة إلى بيروت بهدف السيطرة عليها (495هـ/1101م) ولكن محاولته باءت بالفشل. وبعد عامين أغار الفرنج منها على مرج الرقّة وقلعة جعبر, حيث وقع في أيديهم عدد من الأسرى المسلمين, فضلاً عن غنائم كثيرة عادوا بها.

          ولكن امتيازات الموقع, لم تشكّل على المدى البعيد حصانة كافية لإمارة الرها التي واجهت أول تهديد فعلي لوجودها من الموصل, حيث قام صاحبها بشن هجوم عليها وحاصرها أسبوعين, ممهدا لعمليات أكثر خطورة من جانب المسلمين.

          وسيُقدّر للموصل أن تتصدى لهذا الدور التحريري, لا على جبهة الرها والجزيرة فحسب, بل كانت المحرّكة للصراع على الجبهة الواسعة في الشام. وكان رائد هذا الدور بالمعنى الجهادي أمير (أتابك) الموصل مودود الذي أسس لمرحلة جديدة, لم يعد فيها الفرنة قابضين على زمام الموقف في المنطقة. ويروي ابن القلانسي أن السلطان السلجوقي وجه كتبه إلى سائر البلاد معلما فيها بما هو عليه من قوة العزم على قصد الجهاد, واجداً في الرها هدفا مرحليا لهذه الدعوة التي لقيت استجابة سريعة لدى الأمير مودود المفعم بالحماسة والمتأهب للسير في المهمة الجهادية.

توسيع الجبهة

          من اللافت أن المقاومة اتسع حينئذ مداها, لتضم - إلى جانب الأمير مودود (صاحب الموصل) - حشداً من المقاتلين ممن عرفوا بـ (المتطوعة) الذين أبلوا في تلك المرحلة ضد الفرنج. وكانت أولى ثمرات هذه التعبئة, محاصرة الرها وإلحاق الهزيمة بقوات جاءت لمساندتها ولكن المسلمين سرعان ما تراجعوا عن أسوار المدينة ربما لأن صاحب دمشق المشارك في الحصار, تخوف من هجوم للفرنج على عاصمته بعد اقتراب ملكهم منها, أو لأن الرها بدت لهم شبه ساقطة في ذلك الوقت, ذلك أن الدعوة التي أطلقها السلطان السلجوقي, وتلقّفها بحماسة صاحب الموصل, لامست المشاعر الجهادية للمسلمين, دافعة بهم إلى توسيع نطاق جبهة القتال.

          فانطلقت حملة بقيادة الأمير مودود عبر الأردن إلى الأقحوانة, موغلة في مواقع الفرنج حتى طبرية, الواقعة في منتصف المسافة تقريبا بين دمشق وبيت المقدس. ولم تلبث فرقة من قبيلتي طيء وكلاب أن التحقت بالحملة, فكان لها تأثير بارز في رجحان كفّة المسلمين, وتحقيق انتصار باهر على جيش الملك الفرنجي (507هـ/1113م). وليس ثمة شك في أن هذه المعركة شكلت تحولا مهما لمصلحة المسلمين الذين استردّوا, لأول مرة, المبادرة من الفرنج, متحررين من الخوف الذي انتقل إلى صفوف أعدائهم.

          وفي هذا يقول مؤرخ الفرنج وليم الصوري, واصفا ما حل بقومه في أعقاب المعركة: (لقد حوّلوا (المسلمون) المملكة بأسرها إلى حالة كبيرة من الرعب, بحيث لم يجرؤ أحد على المغامرة بالخروج من داخل الحصون).

          ولكن ثمن النصر, على جبهة المسلمين, كان باهظا, عندما افتقدت هذه أميرها الشجاع مودود, إذ سقط غيلة في صحن المسجد الأموي بدمشق, بعد عودته من طبرية. وإذ ألقيت التهمة على إحدى الفرق المتطرفة, فمن المرجح أن تكون لعملية الاغتيال أبعاد سياسية ليست منفصلة عن سطوع نجمه في أعقاب المعركة السالفة, الأمر الذي أثار منافسة الأتابكة, لا سيما أتابك دمشق (طغتكين). وقد لفت إلى ذلك ابن الأثير في مرويته, مشككا بالأتابك الأخير, المستفيد الأول من غياب القائد المظفر (فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه, وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله). ولكن شعلة الجهاد التي انطلقت من الموصل لم تتوقف, وما لبث أميرها الجديد (أقسنقر) أن تابع مسيرة سلفه, في وقت اشتدّ ضغط الفرنج على حلب, تعزيزاً لمعنوياتهم في أعقاب الهزيمة القاسية ولكن محاولتهم للسيطرة عليها باءت بالفشل, وقد أتاح ذلك مزيداً من حرية الحركة لأمير الموصل في الجزيرة, فاستهدف الرها بعملية عسكرية (508هـ/1114م), أسفرت عن قتال شديد حول أسوارها, وحصار دام أكثر من شهرين للمدينة. وقد عانت الرها كثيرا من الهجمات الإسلامية, فأصابتها (مجاعة مخيفة) على حدّ تعبير المؤرخ الصوري الذي ردّها إلى تأثير قسوة المناخ, وإلى أنها (كانت محاطة بالأعداء من جميع الجهات.. لذلك منع الخوف من الحروب, السكان في المنطقة من اهتمامهم.. بالزراعة).

          هذا ما آل إليه وضع الرها عشية انتقال الحكم إلى عماد الدين زنكي بن آقسنقر في الموصل (521هـ/1127م), وقد بدا حينذاك وكأن تاريخا جديدا للمرحلة الصاخبة, أخذ يكتبه هذا الأمير (الأتابك) المفعم بروح الجهاد ضد الفرنج, هذا التاريخ الذي تجلّت صورته البهية مع ابنه نور الدين محمود, الرمز الوحدوي لجبهة الجزيرة - الشام - مصر, تلك التي بفضلها حقق صلاح الدين الأيوبي انتصاره الكبير في حطّين. ولم يمض سوى القليل جداً من الوقت, حتى كان زنكي رجل المرحلة, والاسم الذي يثير الرعب في نفوس الفرنج, دون أن يكون خافيا الإعجاب بقيادته لدى مؤرخهم (الصوري) الذي يصفه بـ (الرجل الشرير), مستدركا بعد ذلك فيراه (رجلا بارعا ومتمرسا في الحرب). ولكن هذا الاعتراف بمقدرة زنكي من جانب أعدائه, قائدا عسكريا خطرا, لا يختصر شخصيته الفذة, سياسيا حاذقا, يملك مشروعا وحدويا ويجيد استخدام الوقت لتحقيق أهدافه. وكانت تجليات ذلك في السيطرة, إضافة إلى الموصل, على حلب وحماة وحران ونصيبين, وحصون أخرى للفرنج إلى الشرق من أنطاكية, في وقت أخذ طغيان هؤلاء في التداعي حسب تعبير المؤرخ باركر.

وحدة الجبهة

          ولم تعد الرها هدفا صعبا أمام زنكي الذي شُغل حينذاك بوحدة الجبهة الإسلامية, حيث كانت أهم الثغرات فيها, بقاء دمشق خارجها. ورأى أن تحقيق هذه الوحدة كفيل لا بتحرير الرها فحسب, بل إن جميع مواقع النفوذ الفرنجي ستواجه مصيرا مماثلا, بما فيها المملكة اللاتينية في بيت المقدس. فقد أحدثت هجماته المتكررة التي استهدفت الحصون الشرقية لإمارة أنطاكية, إرباكا شديدا في أنحاء المملكة وإماراتها, لا سيما بعد الهزيمة التي أوقعها بالملك في بارين (523هـ/1137م) وإرغامه على تسليم الحصن الذي يصفه ابن الأثير بأنه (من أمنع معاقل الفرنج). ولو قدر لزنكي السيطرة حينئذ على دمشق, لتبدلت معطيات كثيرة في ذلك الوقت, إذ كانت لاتزال ممسكة عبر التاريخ بزمام الدور المحرك لسياسات المنطقة ومتغيراتها انطلاقا من موقعها الوسطي بين الموصل وبيت المقدس, وقد أكسبها ذلك أهمية عسكرية فضلا عن الأهمية الاقتصادية, حيث يمر فيها طريق التجارة بين الفرات ومصر, مما جعلها في قلب حركة الصراع ضد الفرنج, وفي ضوء ذلك بنى المؤرخ باركر اعتقاده, بأن ذلك لو حدث, أي سيطرة زنكي على دمشق, (لسقطت بيت المقدس في زمن سابق لما سقطت فيه فعلا).

          ويتفق ابن الأثير مع وليم الصوري, على أن حنكة زنكي كانت أحد أسلحته في الهجوم على الرها, مستغلا حالة الارتباك في المدينة بين وفاة حاكم وتولي آخر عليها. يقول الأول: (كان أتابك (زنكي) يعلم أنه متى قصد حصارها, اجتمع فيها من الفرنج من يمنعها فيتعذّر عليه ملكها لما هي عليه من الحصانة, فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ لقصد بلادهم, فلما رأوا أنه غير قادر على ترك ملوك ديار بكر, حيث إنه محارب لهم, اطمأنوا وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاد الغربية, فجاءت عيون أتابك إليه فأخبرته, فنادى في العسكر بالرحيل وألا يتخلف عن الرها أحد من غد يومه).

          أما الصوري, فيقول: (حاصر زنكي اللعين مدينة الرها مع جيش قوي, ولم يتوقف اعتماده على إعداد شعبه وقوته فقط, بل أيضا على حقيقة أن نزاعاً خطيراً قد نشب بين ريموند أمير أنطاكية وجوسلين كونت الرها. وكانت مدينة الرها تقع على مسافة يوم واحد فيما وراء الفرات, وكان سيدها وحاكمها الكونت المذكور قد تخلى عن منزله هناك خلافا لعادة أسلافه, وأقام مسكنه الدائم بالقرب من نهر الفرات عند قلعة تسمى باسم تل باشر, وابتعد عن الإزعاج الذي كان يسببه أعداؤه, وحصل على الفراغ للاستمتاع بالمسرات والترف من كل نوع, ولم يشعر بأي مسئولية نحو المدينة الجليلة كما كان يتوجب عليه ذلك).

          ولكن وليم الصوري الذي وجد في دهاء زنكي وجرأته ما يستحق اللعنة, لم يتأخر عن إبداء الإعجاب به قائدا ذكيا, بعيد النظر, فيضيف: (انتهز الأمير العظيم الفرصة التي قدّمتها هذه الانشقاقات (بين الفرنج), وجمع عددا لا يحصى من قوات الفرسان من سائر أنحاء الشرق, واستدعى أيضا أهالي المدن المجاورة وحاصر الرها وسد بإحكام المداخل إلى المدينة).

هجوم مفاجئ

          دام حصار الرها ثمانية وعشرين يوما من سنة 539هـ/1144م, ولم ينفك المسلمون خلال هذا الوقت يشنّون الهجمات, فيما النقابون دائبون على إحداث ثغرة في سورها المتين. وكانت خطة زنكي ترمي إلى استخدام وسائل الضغط كافة على المدينة, وإرغامها على الاستسلام قبل تدخّل القوى الفرنجية في أنطاكية. وقد تحقق ذلك فعلا, بعد تدمير جزء كبير من السور في عرض مائة ذراع, واندفاع المسلمين عبره قبل أن يحرك ساكناً أمير أنطاكية, المعوَّلُ عليه لإنقاذ المدينة, إذ حالت (كراهية حمقاء) دون (تقديم المساعدة المستحقة لإخوانه) حسب تعبير الصوري.

          وهكذا فإن الرها, أولى إمارات الفرنج في الشرق, نجح المسلمون في تحريرها بعد أقل من نصف قرن على احتلالها (492هـ/1098م - 539هـ/1144م), ولكن الحدث الكبير كانت له تداعياته المثيرة, حين اغتيل زنكي أثناء حصاره لقلعة جعبر على الفرات, في ظروف تذكّر باغتيال سلفه مودود وتوقيته في أعقاب الانتصار على الفرنج. فاستغلّ هؤلاء الفرصة وشنّوا هجوما مفاجئا, تحت ستار الليل على الرها, وتمكنوا من السيطرة عليها لستة أيام فقط, إذ سرعان ما ظهر فيها خليفة زنكي (نور الدين محمود), محبطا بغير صعوبة هذه المحاولة. وقد مكث الأمير الجديد وقتا في المدينة, فعمل على تحصينها وبنى فيها مسجداً حمل اسمه, ونظّم شئونها, مما شكل ردعاً لأي محاولة فرنجية مماثلة.

          ولقد هزّ تحرير الرها جبهة الفرنج في الصميم, لاسيما أن هذه الجبهة انطوت حينذاك على صراعات داخلية حادة, مما أثار قلقاً شديداً لدى البابوية والغرب الأوربي. ويصف المؤرخ هونيكمان وضع الفرنج في ذلك الحين قائلا: (أثار سقوط المعقل الذي بناه الصليبيون في الشرق ذعراً في كل مكان, وأشعل في أوربا الحرب الصليبية الثانية).

          وبالفعل, فإن سقوط الرها أكثر ما هدّد أنطاكية, حيث كانت الأولى خطها الدفاعي الحصين, مما يعني أن القاعدة التي شكّلت مفتاح السيطرة على الشرق, باتت مكشوفة وأمام المواجهة المباشرة مع المسلمين. ولعل ما عرف بالحملة الصليبية الثانية (542هـ/1147م) التي أشار إليها هونيكمان, وجاء ردا مباشرا على تحرير الرها, كانت أنطاكية العنوان الرئيس لها, بعد ورود أخبار منها إلى البابا يوجين الثاني عن سقوط الإمارة الفرنجية الأولى في الشرق. وبدا من أهمية هذه الحملة أن إمبراطوراً (كونراد على رأس الجرمان) وملكا (لويس السابع على رأس الفرنسيين) توليا قيادتها, خلافا للحملة الأولى التي قادها الفرسان, مما يعكس قلق البابوية الشديد على أنطاكية ومراكز النفوذ الفرنجي في الشرق. ولكن الآمال الكبيرة التي عقدت على (حملة الملوك), سرعان ما تبددت, حين جوبهت بتحديات الطريق وأخطاره, فضلا عن تناقضات بين الفرنج القادمين والفرنج المقيمين, وغير ذلك من صعوبات دفعت بالملك والإمبراطور إلى الاعتراف بالفشل, ومن ثم اتخاذ قرار بالعودة, كل منها, إلى بلاده. وعلى عكس ما توخته الحملة الثانية, فقد تعزز نفوذ نور الدين في الجزيرة, محررا ما كان لايزال تحت السيطرة الفرنجية من إمارة الرها, ومضيفا إلى ذلك انتصارا على أمير أنطاكية (544هـ/1149م), وسيطرة على عدد من المواقع إلى الشرق منها.

حالة جهادية

          إنه التاريخ العاصف, أو المنقلب في التوصيف الخلدوني, المفعم أسبابا ونتائج بالتحولات الكبيرة, هذا التاريخ الذي شهد سريعا تأسيس إمارة فرنجية في الرها, مخترقة الجبهة الإسلامية في الداخل, كان عاصفا أيضا في هذه الجبهة التي جاءت الصحوة فيها بمستوى الخطر الذي اجتاحها, لتفجّر حالة جهادية صاخبة على مدى المنطقة, لم تعد القوى الغازية قادرة على التصدي لها. وليس من الصعب علينا قراءة هذا التحول الآخذ ربما وجهة عكس التاريخ, في الحملة الثانية للفرنج, والتي جاءت ردا على سقوط الرها بقيادة (ملوك) يبحثون عن أمجاد دنيوية, فيما كانت الأولى - وهذا من عوامل نجاحها في سياق حركة (الإحياء الديني) التي أطلقتها البابوية, باعثة الحماسة في حدّها الأقصى لدى جمهور يستجيب عادة لمثل هذه الدعوات التحريضية.

          وعندما وصلت الحملة الثانية إلى بيت المقدس, كانت هذه, لوقت قريب, قد اعتلى عرشها - لأول مرة - ملك من الفرنج الشرقيين, مما يعني أن طموحات الملوك والأمراء الأوربيين لم يعد مجالها مفتوحا في المنطقة التي باتت معطياتها في الدولة (اللاتينية) خاضعة لظروف واعتبارات خاصة بالأخيرة, وليست بالضرورة مستوحاة من القرار الأوربي, لاسيما القرار الزمني.

          ولم يكن ذلك نابعا من قوة هذه الدولة واستقلالها, بقدر ما تأثر بالتناقضات الأوربية على مساحتها, حيث كان الصراع على النفوذ من أبرز سماتها. ويبقى أخيرا الزنكي عماد الدين, قطب التاريخ المتحوّل, والذي تعملق فيه منتزعا اعتراف الأعداء بقيادته الفذّة.

          فعلى الرغم من الكراهية التي حملها له مؤرخ الفرنج وليم الصوري, فإنه في النهاية لا يضنّ عليه بالمديح حين لا يجد بدّاً من ذلك. فهو لدى الأعداء زنكي (العظيم), ولدى المسلمين زنكي (الشهيد), تقديرا لدور استثنائي قام به هذا الأمير الشجاع المتّقد حماسة, والممتلئ عزيمة, والمضطرب نفساً بالآمال الكبيرة.

          وهو بالتالي وراء ذلك التحوّل المثير الذي رهص به تحرير الرها, والذي وجد فيه المؤرخ باركر بداية النهاية للمملكة اللاتينية في الشرق.

 

إبراهيم بيضون   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات