نازك الملائكة شاعرة ورائدة وقيثارة حزينة

 نازك الملائكة شاعرة ورائدة وقيثارة حزينة
        

على حافة الحضور والغياب, تختار هذه الشاعرة الحزينة أن تعيش خلف حجب من ظلال النسيان. لقد داهمها حزن موجع منذ زمن مبكر, وبالرغم من شغفها بالتجديد والثورة على عمود الشعر القديم والخروج من أردية كل ما هو تقليدي, فإنها لم تخرج من نبرة ذلك اليأس الذي لازمها, كأن أوجاع أمتنا العربية هي أوجاعها الشخصية. إن (العربي) تقدم من خلال هذا المحور تحيتها لتلك الشاعرة المجددة التي أغنت الشعر العربي في مرحلة من أزهى مراحله وأصبحت واحدة من أهم روّاد الشعر الحديث, وتؤكد لها أن الكلمات الطيبة لا تضيع.

(العربي) 

الشاعرة القلقة

           لا يرد اسم الشاعرة العراقية نازك الملائكة إلا نادرا في الصفحات الثقافية العربية. وقد ظهرت آخر مجموعة شعرية لها في بغداد في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بعنوان (يغيّر أمواجه البحر), ولكن لاشك أن الشاعرة تظهر بين وقت وآخر في دراسة أكاديمية حول بدايات الشعر الحر في منتصف القرن الماضي لأنها أسهمت في تلك البدايات إنتاجا ونقدا وتنظيرا. وبحكم غيابها عن الأندية والصفحات الثقافية, فإن الكثيرين لا يعرفون على وجه القطع مكان إقامتها. فهناك مَن يقول إنها تقيم في منزلها ببغداد. وهناك مَن يجزم بأنها تتلقى العلاج منذ سنوات في القاهرة أو عمّان, وإنها سجينة منزلها, حيث تقيم, لا تغادره إلا لعيادة طبيب, وإن هذا الطبيب ليس واحدا بل أكثر, فهو حينا طبيب النفس الحزينة, وهو حينا طبيب الجسد العاجز المتهدم. وكل هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن نازك الملائكة لا تتقن, كبعض الأدباء والشعراء فن إدارة أعمالها وتسويق نفسها في وسائل الإعلام المختلفة, وإنها تستحق تبعاً لذلك لقب أسوأ مدير لأعماله في الحياة الأدبية العربية المعاصرة.

روح مشعة

           عرفتُ نازك الملائكة قبل ربع قرن تقريبا عندما كنت أزورها في منزلها بالكويت. كانت نازك في تلك الفترة أستاذة للأدب العربي في جامعة الكويت. وكان زوجها د.عبدالهادي محبوبة, رئيس جامعة البصرة سابقا, يشاركها التدريس في الجامعة نفسها. في تلك اللقاءات, لم تكن الروح قد انطفأت بعد في تلك الشاعرة التي كانت من أجمل الأصوات الشعرية في شبابها, والتي يرى الكثيرون أنها أفضل شاعرة في تراثنا الشعري قديمه وحديثه. صحيح أنها كانت قد لاذت بالتصوّف وبدا في مظهرها ومجلسها أنها في الطريق إلى الاستقالة من النادي الأدبي ومن بقية أندية هذه الدنيا, إلا أن الشعر كان لايزال ينبض في خاطرها, وإن كانت فواجع أمتها العربية قد هزّت سكينة النفس فيها. حتى الساعة مازال صوتها الشجيّ, عالي النبرة, يرنّ في أذني, وهي تتحدث عن الظلم الذي خضع له الفلسطينيون على يد الإسرائيليين المغتصبين, وعن المسجد الأقصى الذي ينادي معتصماً لا يجيب. وعندما رأيتها بعد ذلك في أحد مهرجانات المربد العراقية, وعلى التحديد سنة 1986, لم أصدّق أن هذه السيدة الغارقة في الصمت, هي نفسها تلك العصفورة النضرة التي كان القارئ يرى صورتها وهي شابّة على صفحات مجلات الآداب أو سواها من منابر الأدب وصفحاته. كان ذلك في نهاية إحدى الأمسيات الشعرية, نهضتُ من مقعدي لمغادرة القاعة, ولكن بصري وقع على سيدة أعرفها, ولا أعرفها. حدّقتُ مليّاً في وجهها لأتبين أني رأيت هذا الوجه, ومَن هي صاحبته, فلم أصل إلى يقين, عينان خابيتا الأضواء, وحزن يبسط نفوذه على الشخص بكامله, بل إنك إذا أعدت النظر من جديد, خُيّل إليك أنك أمام سيدة متبلّدة الإحساس وغير واعية لما حولها, ولا علاقة لها بالشعر والأدب, إلى أن أجهدت ذاكرتي واستجمعت شجاعتي فسألتها وقد رأيتها هي نفسها تنظر إليّ كمن عرفتني: (ألستِ الشاعرة نازك الملائكة?), فلم تُجِبْ, وإنما الذي أجاب كان زوجها الذي عرفته فورا وعرفني, ولكنه أجاب عبر نظرات تعبّر أكثر مما يعبّر اللسان. وكان واضحا أن الشاعرة تخضع للعلاج.

للصلاة والثورة

           وعندما كنا نودع أنا وبعض الأدباء الذين تحلقوا حولنا نازك وزوجها الأديب الرقيق الفاضل, كنا نتحسّر على هذه الشاعرة التي غنّت في ديوانها (للصلاة والثورة) مثل هذا الغناء:

إني أنا عاطرة كالبرعمة

إني أضيء مثلما تشتعل الأقمار

أنير للثوار

درب الليالي المعتمة

أفتح في عيونهم نافذة النهار

أرشّ في أنفاسهم طعم ضياء سائل

أذيب فيه نكهة البهار...

           أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تُذكر نازك الملائكة هو أنها لم تكن مجرد شاعرة مبدعة مجدّدة عُرفت بجهودها المتواصلة منذ صدور ديوانها الأول (عاشقة الليل) ـ 1947. لقد أسهمت بالإضافة إلى ذلك إسهاماً إيجابياً في تطوير القصيدة العربية في موضوعها وبنائها, كما قدمت مجهوداً نقدياً منظماً له موقف من بعض القضايا الفنية واللغوية والفكرية في أدبنا الحديث. ولعل كتابها (قضايا الشعر المعاصر) هو أشهر إسهاماتها في هذا المجال, يليه كتابها عن علي محمود طه الذي كانت نواته محاضرات لها عنه ألقتها في معهد الدراسات العربية بالقاهرة. وقد حاولت نازك في (قضايا الشعر المعاصر) أن تثبت تارة بشكل صريح, وتارة أخرى بشكل إيمائي, أنها هي وحدها صاحبة الفضل الأول والأخير في اكتشاف شكل الشعر الحرّ ( كما عُرف وقتها وكما عرف لاحقا باسم شعر التفعيلة) سنة 1947, فذكرت أربعة شروط استخرجتها وأمعنت تفكيرا في تفصيلها كي تجعل فضل السبق في اكتشاف شكل الشعر الحر لها وحدها, مع أن هناك عدداً من الباحثين يرون أن بدر شاكر السياب كان على حق عندما اعتبر محاولته في قصيدته (هل كان حبّاً?) أقرب إلى الشعر الحر من قصيدة (الكوليرا) التي تعتبرها نازك بداية هذا النوع من الشعر, لأن قصيدة السياب تختلف عن قصيدة (الكوليرا) بكونها غير خاضعة لنظام مطرد في الشعر الحرّ. ومع أن نازك كانت تعرف - بالطبع - أن آخرين سبقوها كما سبقوا السياب إلى نظم مثل هذه القصائد الحرّة, إلا أنها كانت تعتبر محاولاتهم مجرد (إرهاصات) تتنبأ بظهور حركة الشعر الحرّ, (ولأولئك الشعراء دورهم الذي نعترف به أجمل الاعتراف. فإنهم كانوا مرهفين فاهتدوا إلى أسلوب الشعر الحرّ عرضاً, وإن كانوا لم يشخّصوا أهمية ما طلعوا به, ولا هم صمدوا واستمرّوا ينظمونه. ولعل العصر نفسه لم يكن مهيأ لتقبل الشكل الجديد إذ ذاك, ولذلك جرف الزمن ما صنعوا, وانطفأت الشعلة فلم تلتهب حتى صدور ديواني (شظايا ورماد) عام 1949, وفيه دعوتي الواضحة إلى الشعر الحرّ).

تيار من التحديث

           ولكن هذا النمط من النظر لم يكن سليماً أو دقيقاً. فالتطور في الشعر العربي الحديث لم يكن كما ظنت نازك, أو سواها, من صنع شاعر أو اثنين أو ثلاثة, بل كان وليد تيار عام اقتضته عوامل التغير والتطور في مسيرة المجتمعات العربية في العصر الحديث. وقد كان د.عبدالهادي محبوبة, في المقدمة التي وضعها لكتاب نازك (قضايا الشعر المعاصر), أول المتنبّهين إلى العسف الذي وقعت فيه نازك عندما نفت عمن سبقها فضل ريادة الشعر الحر, إذ تحدث عن جهود جماعة من شعراء المهجر, وعن جهود جماعة الديوان بزعامة العقاد, ثم عن جهود جماعة أبولو. ولعل مما جاء على أيدي محمد فريد أبو حديد وخليل شيبوب ومحمد مصطفى بدوي وعلي أحمد باكثير وغيرهم من شعر في هذا الشأن, أن يكون أقوى حافز على إعادة النظر في هذا الذي ذهبت إليه نازك وغيرها ممن يظنون أن انبثاقة الشعر الحر جاءت في سنة 1947, أو انطلقت منذ سنة 1952 كما يذهب د.محمد النويهي. ثم إن ما نقلته نازك نفسها من قصيدة عنوانها (بعد موتي) نشرتها جريدة العراق ببغداد عام 1921 تحت ما أسمته (النظم الطليق), فأمر كان ينبغي أن يدعو نازك إلى الإقلاع عن هذه الأوليات والفضل فيها.

           ولكن نازك لم تُضرب من زوجها د.عبدالهادي محبوبة ذلك الضرب المعنوي الذي نشير إليه, وإنما ضُربت كشاعرة وناقدة ومنظّرة من رجال كثيرين غير د.عبدالهادي. فالدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي عندما تكتب أو تتحدث عن نازك الملائكة, تلحّ على فكرة جوهرية مؤدّاها أن (الرجال) أو الشعراء والأدباء الرجال, وثبوا على هذه الشاعرة الطرية الناعمة وأثخنوها جراحا وأوقعوا فيها كل ألوان العسف والتنكيل, الأمر الذي أدى مع الوقت إلى خفوت صوتها وذبول ظاهرتها. ذلك أنهم ذعروا عندما وجدوا أنفسهم أمام شاعرة لا تستند في إبداعها إلى عرف شعري أنثوي عريق متنام, كما أنها تخطت العرف الرجولي ومنحت الشعر العربي الحديث نفحة أنثوية جديدة زادته غنى ورونقا. لقد غاروا منها لأن التجربة عندها تجربة أنثوية جادة ترفّعت فيها عن بوادر الدلال السطحي والزهو الأنثوي الذي يؤكد الرؤيا السلفية للمرأة ويعزلها عن دورها الجاد المتكافئ في الحقل الأدبي.

أزمة وإحباط

           إذا كانت نازك الملائكة تعيش في وقتنا الراهن, كما يقول الكثيرون, أزمة نفسية مستعصية على الحل, هي نوع من كوما النفس والجسد, فإننا لا نبالغ إذا أرجعنا سبب هذه الأزمة إلى عدم قدرتها على مواجهة إحباطات التاريخ العربي الحديث, وعجز (الرجال) عن مواجهة الصهيونية ومخططاتها في فلسطين والمنطقة. لقد انطوت على نفسها وتهدّم ما في داخلها عندما شاهدت بني قومها ينتقلون من هزيمة إلى أخرى, في حين أنها تربت في مناخ الأحلام والطموحات, ومع أن قسما كبيرا من شعرها يدور حول لواعج الأنثى والحب والموت وما إلى ذلك من مواضيع الشعر الخالدة, فإن قسما كبيرا خالدا آخر يدور حول قضايا الوطن والنضال. وإذا كنا مازلنا في إطار الاعتداءات الإسرائيلية الدائرة منذ سنتين في الضفة الغربية, وفيها تبرز الاعتداءات على الأقصى وجنين وسائر مدن فلسطين الأخرى, فإننا نورد أبياتا لها من قصيدة (الهجرة إلى الله) التي تناجي فيها الذات الإلهية, وتتحدث عن عذابات الفلسطيني وتشرّده, باعثة فيه الأمل ليوم المطر, أو الثورة القريبة, بعدها تتوجه بصرخات استغاثة إلى الله لينقذ القدس الجريحة, وليبعث في الأمة العربية خليفة للمعتصم فاتح عمورية وخليفة لصلاح الدين قاهر الصليبيين:

مليكي, طالت الرحلة, طالت, وانقضت أحقاب

وبين عوالم مقفلة أبحرت, أسأل, أسأل الأبواب

حملت معي جراح الفدائيين

وطعم الموت في أيلول, طعم الطين

حملت معي هموم (القدس) يا ملكي وجرح (جنين)

وليلاً شاهق الأسوار لا ينجاب

وأين الباب? أين الباب?

قرابيني مكدّسة على المحراب

وقرآني طواه ضباب

وذلة مسجدي الأقصى تقلبني على سكين

ولا معتصم أدعوه, لا فينا صلاح الدين

ننام الليل, نصحو الفجر, مجروحين

ومطعونين, مقتولين.

           في قيثارة نازك الملائكة وتر لا يوقع إلا أنغاما حزينة تبعث الشجى في النفس, وتشفّ عن نفسية تنضح بالكآبة والقلق, وعن نظرات قاتمة متشائمة لا ترى من الوجود إلا جانبه الأسود. من أجل ذلك دعاها بعض دارسيها (الموجة القلقة) في الشعر العربي الحديث انطلاقاً من اسم أحد دواوينها (قرارة الموجة). والمعروف أنها عانت قضية الشك والإيمان في بعض مراحل حياتها, وجاست أودية الإنكار والعصيان قبل أن تصل إلى حال الإيمان والنعمة. ويجد القارئ, في مسيرتها كما في شعرها, ملامح وتجليات إنسانة أصيلة تمثل وقفة الشرف الصادرة عن نظافة القلب ووضوح الرؤية التي لا تعرف التردد أو الحذر أو المساومة. فبالصدق وحده دخلت إلى الميدان واقتحمته بضمير نقي صاف لا يعرف المخاتلة والنفاق.

 

جهاد فاضل   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات