من مديح الألم إلى (فوبيا) الموت

من مديح الألم إلى (فوبيا) الموت
        

          الأغاني الرقراقة للألم التي غنّتها نازك الملائكة في عدد من قصائدها الموزّعة في دواوينها الشعريّة من (مأساة الحياة وأغنية للإنسان) المنظوم ثلاث مرّات متباعدة خلال الأعوام 1945 و1950 و1965, إلى (شجرة القمر) المنظوم العام 1967, لم تقف بها عند هذا الحدّ من رومانسيّة العذاب وتدليل الألم العامل في أعصاب الشاعرة وقصائدها عمله الدءوب, بل توغّلت أكثر في اتجاه الامّحاء في اليأس, والدخول في رعب الموت أو (فوبيا الموت).

          وإذا كانت إحداثيات ومآسي الحرب العالمية الثانية قد فعلت فعلها المدمّر في النفس الحسّاسة والحائرة لشاعرة صبيّة نظمت العام 1945 مطوّلتها (مأساة الحياة وأغنية للإنسان), وهي في الثانية والعشرين من عمرها, متأثرة بمطولات الشعر الإنجليزي التي أعجبت بها, فإنه لم يعزها, في الواقع والفلسفة, أسانيد لليأس, وأسئلة حارقة في الحياة والموت, احتشد بها شعرها المبكّر, ورافقت ظلالها سيرتها الشعريّة وصيرورة قصائدها, فشعرها شعر أسود بمجمله, وقلّما تنبض فيه لآلئ الرجاء أو الفرح.

          وباكراً وافق شعورَها بأنّ الحياة كلها ألم وإبهام وتعقيد, الموقف الفلسفي المتشائم للفيلسوف الألماني شوبنهور الذي يلخصه بقوله: (لست أدري لماذا نرفع الستار عن حياة جديدة كلما أسدل على هزيمة وموت. لستُ أدري لماذا نخدع أنفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لا شيء? حتّام نصبر على هذا الألم الذي لا ينتهي? متى نتدرّع بالشجاعة الكافية فنعترف بأن حبّ الحياة أكذوبة, وأنّ أعظم نعيم للناس جميعا هو الموت?).

          نكاد نعتقد أنّ مطوّلتها الشعرية الأولى والمبكرة, (مأساة الحياة وأغنية للإنسان) سدّت عليها منافذ الخلاص, الرؤيوي والشعري معاً, في جميع مراحل حياتها اللاحقة, فقد نظمتها وأعادت نظمها بثلاث صور على امتداد عشرين عاماً (1945 - 1965), ونشرتها للمرة الأولى العام 1970, أي بعد نشر جميع دواوينها الشعريّة الحاملة لنظريتها ونصوصها في الحداثة الشعريّة والشعر الحرّ, من (عاشقة الليل) الصادر العام 1947 إلى (شظايا ورماد) الصادر العام 1949 مع مقدمته النظريّة المسهبة والجريئة في أسس الشعر الحرّ وأوزانه ولغته ومفرداته وبُنيته, وهي تعتبر أوّل نظرية مبكّرة للحداثة الشعريّة في تاريخ الشعر العربي الحديث والمعاصر, عزّزتها وفصّلتها الشاعرة في كتابها النقدي والنظري الرائد (قضايا الشعر المعاصر) الصادر لها العام 1962,... إلى ديوانها الثالث (قرارة الموجة) الصادر في العام 1957 إلى الرابع (شجرة القمر) في العام 1968.. فإذا اعتبرنا ديوانها الخامس (مأساة الحياة وأغنية للإنسان), كتب على امتداد مراحلها الشعرية التغييرية, ولكنه صدر الأخير لها,فإنّ فعله في تحديد اتجاهها الشعري, ولجم ثورتها التجديديّة المبكرة في بعض قصائدها ومقدمة ديوان (شظايا ورماد), هو فعل بيّن.

مأساة الحياة

          والشاعرة إذْ تؤرّخ لهذا الديوان, وتكتب مقدمة له بمنزلة رسم بياني زمني لتطورّه من (مأساة الحياة) إلى (أغنية للإنسان) تحاول أن تخرج من شرنقة الموت, إلى نبض من الأمل, لكنّ هذا النبض يبقى خافتا ومستورا كنار خفيفة تحت رماد كثيف. فالبحث المضني عن السعادة في جميع المطارح والأمكنة, يبقى بمنزلة تلويحة في الفراغ.

          إن ألفين ومائتي بيت من البحر الخفيف التي تؤلف الديوان بقسميه, وفي مراحله الثلاث, تنسرح كنهر رتيب موحش في مجرى موحش في أرض موحشة, ولا من جنّة ولو صغيرة على امتداد هذا النهر, لا لدى الأغنياء ولا الفقراء, ولا لدى الرهبان ولا الشريرين, ولا في الطبيعة حيث دائما يأكل الذئب الراعي والحمل, ولا لدى الشعراء ولا العشّاق, ولا لدى العقلاء ولا المجانين... وعبثاً نبحث عن قولها (إنّ آرائي المتشائمة كانت قد زالت جميعا وحلّ محلّها الإيمان بالله والاطمئنان إلى الحياة) - في تقدمة الديوان - قد تحقّق في الصورة الأخيرة من قصيدتها. فهي قصيدة (اليأس) بامتياز, بل هي دعوة ذاتية لليأس, تقول في مطلع القصيدة (فيم لا تيأسني?...) ثم تأمر نفسها باليأس:

(فا يأسي يا فتاةُ ما فُهِمَتْ مِنْ

قبلُ أسرارُها ففيمَ الرجاءُ?)



          فاليأس جواب العجز عن حلّ مبهمات الحياة والموت, عن حلّ الطلسم الوجودي الكبير, هذا الطلسم الذي حاول فكّ أسراره, إيليا أبو ماضي, قبل نازك الملائكة في لا أدرياته المعروفة (جئت لا أعرف من أين ولكني أتيت/ ولقد أبصرت للدنيا طريقاً فمشيتُ/ وسأبقى سائراً إن شئتُ هذا أم أبيتُ/ كيف جئتُ? كيف أبصرتُ طريقي? لستُ أدري)..

          فجاءت نازك لتقول:

(أسفاً يا فتاة لن تفهمي الأياّ

 مَ فلتقنعي بأن تجهليها) 

 
          وعجزها عن فهم الموت جزء من عجزها عن فهم الحياة:

(هل فهمتُ الحياةَ كي أفهمَ المو

تَ... ...?)

          وهو ما يجعل الرعب من الحياة كالرعب من الموت أساس الرؤيا في شعر الشاعرة... الرعب المدمّر لخلايا الحياة والأزهار والطبيعة, والذي يحوّل قصيدتها إلى ما يشبه غناءً ضدّ الرعب. فالحياة (زارعة الأشواك ونبع الآثام) و(ملهمة الشرّ) كما تصفها.. الشرّ الذي (يبقى في الأرض خالداً ليس يفنى), ويقلب الصورة في عين الشاعرة حتّى أنها كلما أبصرت الأزهار, لا تبصر فيها سوى (قاطف الأزهار): 

(كلما أبصَرَتْ عيونيَ أزها 

 راً تذكَّرْتُ قاطفَ الأزهار) 



          ولا ترى في الثلج سوى الكفن, وفي الرياح سوى أناشيد البَدَد, وفي البشر السائرين سوى قبور تتنقل, وأكفان متحركة.

          والقصيدة هذه (مأساة الحياة وأغنية للإنسان), ثنائيات شعرية متتالية, متناسقة, متماثلة, رتيبة, على الخفيف:

   (يا خفيفاً خفّت به الحركاتُ

 فاعلاتُنْ مستفعلن فاعلاتُنْ)



           ما أغرى الشاعرة بنظم ألفٍ ومائتي بيت في ستة أشهر (كما تقول في تقدمة القصيدة), وهي تبدأ بأول بيت بمصادرة الحلم بصباح لليل الوجود: 

(عبثاً تحلمين شاعرتي ما   من صباحٍ لليل هذا الوجود)  

          وتنتهي برؤية الزهر ذابلاً وفي ذبوله تذوي أسطورة الأبديّة.

          وما بين عبثية البحث عن ضوء وذبول زهرة الإنسان وأسطورة البقاء, يتم ما يمكن اعتباره تشويهاً للوجود, بتمجيد الحيرة واللاأدريّة, ولمس الشوك في الزهر, والدجى في الضوء, واعتبار الولادة جناية الآباء على الأبناء (كما كان يرى المعرّي), حتّى كأنّ الشاعرة أصيبت باكراً (بفوبيا الموت), بل رفض الحياة بما يشبه الدعوة للانتحار:

(هكذا الآدميُّ يُسْلمهُ أحـ

  بابُهُ للتراب والديدان

ربّ لا كانت الحياة ولا كُنـ

 نّا هبطنا هذا الوجود الفاني)



           وذروة السوداويّة قولها إنّ الحياة (ساقية السُّم), ونفهم بالساقية, ساقية الشراب, ولكنّ الأجمل اعتبار الساقية المجرى الصغير من الماء, مع ذهاب الشاعرة بالمعنى إلى ساقية الشراب: 

(هي هذي الحياةُ ساقية السُّم

 كئوساً يطفو عليها الرحيقُ

أومأت للعطاش فاغترفوا مِذْ

 ها ومَنْ ذاقَها فليس يفيقُ) 



          فكأنها العصفور المصاب بداء الـ Beri Beri, يموت جوعاً وهو ينظر إلى الحَبّ الملقى أمامه ولا يلتقطه بمنقاره. وليس من المستبعد أن نستعيد اتجاه هذه الأشعار السوداء, بل ذات النكهة الانتحارية, صور شعراء عرب وعالميين, ممّن وجدوا الحياة لا تستحقّ الحياة, من أمثال فرنزكافكا وفرجينا وولف والشاعرة الروسية مارينا تسفيتانيا التي كانت تقول: (لا أريد أن أموت, أنا أريد ألا أكون), وقد وجدت مخرجاً لحياتها اليائسة وشعرها الشبيه بحياتها بقتل نفسها في 31 أغسطس 1941 في إيلابوج. ولعلّ عدم وجود قبر لها, كما يقول فيكتور يلشفيتسر في كتاب (حياة وكينونة) (ترجمة أميرة الحسيني) هو استجابة لرغبتها الأوليّة في عدم الكينونة أو الامّحاء.

جماليّة الألم

          هذا الخيط السوداوي في شعر نازك الملائكة, يشتدّ ويمتدّ على وجودها أحياناً, فترى في خطى البشر, ومآقيهم, جرساً للموت وقبراً للجمال:

(.. وخُطاهُم كأنّ وَقْعَ صداها

 جَرَسُ الموتً رنَّ ملءَ الفضاء

منشداً للحياة أغنية الفَوْ  

ضى ولحن الجنائز السوداء

وهُم يسحبونَ أقدامهم فو

 ق تراب الملالِ والبغضاءِ

ومآقيهم الرماديّة الجَدْ 

 باء قبر الجمالِ والإيحاءِ) 

 
          ويتلطّف أحياناً ليدخل في شفافيّة الألم ونبضِهِ العميق. فالإنسان متعلّم, أو تلميذ والألم معلمه, كما قال شاعر رومانسي فرنسي:

          L'homme est un apprevti,)

          (La douleur est le maitre

          ففي ديوان (عاشقة الليل) وهو الأول لها الصادر في العام 1947, تستمر تضغط على أصابعها كابوسية (مأساة الحياة). وإن كانت تديرها في كئوس مرّة متعددة, فإن محتواها متشابه أو واحد: القبر أو السُّم.

مغامرة الحداثة

          في الإمكان اعتبار مقدّمة ديوان نازك الملائكة (شظايا ورماد) الصادر لها في العام 1949 بيان الحداثة الأول في الشعر العربي الحديث والمعاصر.

          لقد سبقت به أقرانها في العراق مثل بدر شاكر السيّاب وعبدالوهّاب البياتي وبلند الحيدري وفي مصر مثل صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي, ولم يكن في لبنان قد صدر العدد الأوّل من مجلّة (شعر), الذي صدر بعد هذه المقدّمة بثماني سنوات (في شتاء 1957), واحتضن مع الأعداد اللاحقة للمجلة النصوص الإبداعية والنظريّة لكل من يوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وجبرا إبراهيم جبرا وعصام محفوظ, وتوفيق صايغ الذي ظهرت مجلته (حوار) بعد مجلّة شعر.. كما كانت مجلّة (الآداب) اللبنانية لم تصدر بعد, وقد احتضنت النتاج المبكّر لنازك الملائكة وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وخليل حاوي... ففي منتصف القرن العشرين (إلا عاماً) بدأت مغامرة الحداثة الشعرية العربية نظرية ونصّا على يد نازك الملائكة والسيّاب والبياتي والحيدري, وقد انفردت نازك من بينهم بالنظرية, في حين أنهم تقاسموا زمانيّا بواكير النصوص الشعرية الحداثية.

          ومن يقرأ مقدمة ديوان (شظايا ورماد), تفاجئه اللغة النقدية المقتحمة للشاعرة, ويتوجّس أنّ عاصفة حقيقية بدأت تهبّ على بحيرة الشعر العربي الراكدة أو الآسنة, أو المتململة في غلالات شاحبة للرومانسية, أو استعادات معاصرة لكلاسيكية قديمة, ولا ريب في أنّ الشاعرة أحسّت يومئذ بأنها تبحر عكس التيار فتسلحت بقول برنارد شو: (في الحياة كما في الشعر, اللاقاعدة هي القاعدة الذهنية), فما الذي اجترحته نازك الملائكة في بيانها يومئذ? وأي حجر رمته في بحيرة الشعر العربي في خمسينيات القرن العشرين? وإلى أي مدى انداحت دوائرها في البحيرة? وهل تابعت مغامرتها نظريا ونصيّا? أم أنها ما لبثت أن تعبت, ولجمها التحفّْظ وآل بها إلى النكوص في آخر دواوينها (شجرة القمر) الصادر لها في العام 1968? فعاشت تجربتها الحداثية بقلق وريبة على ما يقارب عشرين عاما, وانتهت بها إلى أن تقول في ملاحظات كتبتها في تقديم (شجرة القمر) بعنوان (حول الشعر الحرّ): (... وإني لعلى يقين من أنّ تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها).

          وتستدرك فتضيف: (وليس معنى هذا أنّ الشعر الحر سيموت وإنما سيبقى قائما يستعمله الشاعر لبعض أغراضه ومقاصده دون أن يتعصّب له ويترك الأوزان العربيّة الجميلة). وحجّتها في بيان التراجع هذا هي فيما يملكه الشعر الحرّ من عيوب أبرزها (الرتابة والتدفّق والمدى المحدود) كما أنّ هاجسها أن تزيد الشعر موسيقى (وهي تعني هنا الوزن) وتحميه من (ضعف الرنين وانفلات الشكل) أملى عليها التراجع. لقد أفلتت من يد نازك الملائكة خصوبة التجربة الحداثية للشعر العربي في اتجاهاتها المختلفة, من القصائد ذات البنية الإيقاعية المركّبة والمولّدة إلى قصيدة النثر, كما أفلت من يدها التجريب الشعري وهو تجريب حيوي بدوره حضنته مجلاّت كمجلة (حوار) لتوفيق صايغ و(مواقف) لأدونيس, ومجلاّت صدرت في باريس واهتمّت بالتجربة السريالية, نخصّ بالذكر منها مجلة (النقطة) ومجلة (الرغبة الإباحية) اللتين أصدرهما وأشرف عليهما الشاعر العراقي المقيم في باريس عبدالقادر الجنابي.. وأفلتت مجلّة (شعر) من يدها أيضا.

تحرير الشعر

          وإنّنا نعجب حقّا, وربما أُصِبْنا بإحساس من الانفصام بين النظرية والقصيدة, أمام مقدمة (شظايا ورماد). فالملائكة تقول إننا (مازلنا أسرى تسيّرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام. مازلنا نلهث في قصائدنا ونجرّ عواطفنا المقيّدة في سلاسل الأوزان القديمة وقرقعة الألفاظ الميتة... وكأنّ الشعر لا يستطيع أن يكون شعراً إن خرجت تفعيلاته على طريقة الخليل).

          وتلسع طريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي بقولها: (.. ألم تصدأ لطول ما لامستها الأقلام والشفاه منذ سنين وسنين?), لكنها لا توفّر اللغة القديمة أيضا من لسعها فتقول: (إنّ اللغة إن لم تركضْ مع الحياة ماتت... والعربيّة ابتليت بأجيال من الذين يجيدون التحنيط وصنع التماثيل, دون أن يدركوا أنّ شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه ألف نحوي ولغوي مجتمعين... فالألفاظ تصدأ وتحولُ, وتحتاج إلى استبدال).

          أما القافية الموحّدة, فهي برأيها وراء الخسائر الفادحة في الشعر العربي طيلة العصور الماضية, وهي (تضفي على القصيدة لونا رتيبا يُمِلُّ السامع فضلا عما يثير في  نفسه من شعور بتكلّف الشاعر وتصيده للقافية), فالشاعر يضطر إلى مصانعة القافية, ويقع أسيراً لطغيان (هذه الإلهة المغرورة).

          وهي بين التحرير الجزئي للقافية باستعمال نظام المقطوعة Stauga كما في قصيدة (الكوليرا) وتحريرها التام كما قي قصيدة (القطار), تعترف بأن هذه الخطوة هي التي تسبق الشعر المرسل Blank Versa وأنها تأثّرت في ذلك بقصيدة الشاعر الأمريكي (أدغار ألن بو) المسماة (Vlalume).

          ولا تفلت من يدها مسألة أساسية في نبض القصيدة الحديثة, كماعرفت في الثقافة الغربية (الفرنسية والإنجليزية بخاصة) لجهة اتجاهها السريع إلى داخل النفس بعد أن بقيت تحوم حولها من بعيد, فالشعر حفْرٌ في أعماق النفس البشرية انسجاماً مع أحدث النظريات الأوربية في الفلسفة والفن وعلم النفس, كما أن الغموض الذي هو أساس في النفس البشريّة أساس في الشعر أيضاً.. لذا, لمَ لا للسوريالية? ولمَ لا للقصيدة  المتاهة Labyrinth?

          وفي النتيجة, وكعرّافة شعر الغد, تقول: (لن يبقى من الأساليب القديمة شيء, فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعا).

          لا شكّ في أن بعضاً من رؤى نازك الملائكة التغييرية, قد حققته في القليل من قصائد (شظايا ورماد). نذكر قصيدة (جامعة الظلال) وقصيدة (أغنية الهاوية) حيث تقول: (صوتهم في سكون المكان/ دائر كالزمان) وقصيدة (الكوليرا) حيث الإلحاح يؤسس بؤرة القصيدة (في كل مكان يبكي صوتْ/ هذا ما قد مزّقه الموت/ الموتُ الموتُ الموت..).

ثمرة الألم

          في (شجرة القمر) الصادر العام 1968, بيان للتراجع عن عاصفة التجديد في الوزن الخليلي والقوافي واللغة القديمة, التي أطلقتها الشاعرة في مقدمة (شظايا ورماد). كما سلفت الإشارة, للاستقرار في (رومانسية الألم), وسلام الرنين وانضباط الشكل.

          والكثير من قصائد هذا الديوان يحمل عنوان (أغنية), مثل (أغنية للحياة), و(أغنية للأطلال العربية), و(أغنية للقمر), و(أغنية حب للكلمات) و(ثلاث أغنيات عربيّة), لكنّ الأعمق والأبهى في هذه الأغنيات, قصيدة خمس أغانٍ للألم), فهي تدلّل الألم كطفل, وتسأله كسرّ: (من أين يأتينا الألم?) وتصحبه كَخَدين: 

(أمس اصطحبناهُ إلى لجج المياه

وهناك كسّرناهُ بدّدناهُ في موج البحيرة).

        وتحبّه كعاشقة (إنا نحبّكَ يا ألمْ) ونلعب معه بألفه

(أليس في إمكاننا أن نقلب الألم?

نرجئه إلى صباح قادم أو أمسية

نشغله نقنعه بلعبة بأغنية بقصةٍ قديمة منسيّة النغم?..) (وإنْ تبسمنا وغنينا له ينمْ),

          وتُحسِّسُهُ

(سوف نشربه سوف نأكله وسنقفو شرود خطاه

وإذا نمنا كانَ هيكلُهُ هو آخر شيء نراه)

ثم تزجي إليه طقوس العبادة ومفرداتها:

(نحن توّجناكَ في تهويمة الفجر إلها

نحن شيّدنا لك المعبد جدراناً شذيّهْ

نحن رتّلنا ونادينا وقدّمنا النذورْ

ثم صلينا لعينيك وقرّبنا ضحيّة... يا حناناً قاسياً يا نقمة تقطر رحمة...). 

          هكذا إذن, وبهذا التوحّد المبدع بالألم, كتبت نازك الملائكة هذه القصيدة, وكانت قد نشرتها, قبل إدراجها في ديوان, في مجلّة (الآداب) اللبنانية, في العدد السابع يوليو 1957, ما دفع نزار قبّاني ليكتب عنها في نقده لقصائد هذا العدد, في العدد التالي عليه: (سمفونية حزينة تتألف من خمس حركات ذكرتني بـ Symphonie Pathetipue. نازك الملائكة شاعرة تساوي ثروة, وهي إحدى البنايات الشعرية التي قَلَّ أن ارتفع مثلها في الأدب النسائي في تاريخنا).

 

محمد علي شمس الدين   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات