الذكرى التاسعة والثلاثون لرحيل العقاد

  الذكرى التاسعة والثلاثون لرحيل العقاد
        

خير لسان للعروبة والإسلام

          ذكرى العقاد مازالت باقية. إنه الكاتب القوي الذي آمن بالإسلام كقوة للتقدم وبالعبقرية البشرية قائدة لهذه القوة.

          في الثاني عشر من هذا الشهر (مارس) تمر الذكرى التاسعة والثلاثون على وفاة عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد.

          وقد لا أجد في هذه الذكرى ما يمكن الرجوع إليه في كتابات العقاد - في هذه الفترة بالذات التي يتعرض فيها الإسلام ونبيّه الكريم للاجتراءات والتهجمات المبنية على ادعاءات وافتراءات فاسدة - أفضل من الرجوع إلى كتاباته في الإسلام, وتقديمه للصورة الحقيقية لهذا الدين الحنيف, وفي الوقت نفسه الدفاع عنه ضد هذه الادعاءات وتلك الافتراءات في كتبه عن الإسلام التي تزيد على الثلاثين كتابا.

          فليس صدفة أن يعد العقاد - في تاريخنا الثقافي الحديث - من أكبر المدافعين عن الإسلام بالحجة والدليل, وأن يضع حقائق هذا الدين الحنيف في مواجهة أباطيل خصومه, وأن يلتقي حول كتاباته الإسلامية عدد كبير من نقاده ومؤرخي حياته, حتى وإن اختلفوا فيما بينهم أو اختلفوا معه, وأن يتفق حول أمانة كتاباته الإسلامية عدد كبير من المتخصصين في الدين. فرأى - على سبيل المثال لا الحصر - الشيخ أحمد حسن الباقوري أن العقاد كان خير لسان للعروبة والإسلام بما كتب من دراسات, وأذاع من أحاديث تدفع عن العربية أوهام المبطلين وعن الإسلام شبهة المغرضين.

          كما رآه داعية الإسلام الشيخ محمد الغزالي خير من كتب عن العقيدة والدين بوعي وإيمان من غير الأزهريين, وأن يكون العقاد بين أفراد جيله من الأفذاذ صاحب أكبر عدد من المؤلفات الإسلامية يزيد على الثلاثين مؤلفا.

          ليس صدفة والأمر كذلك أن يصبح عباس محمود العقاد كل ذلك وأكثر, إذ كانت عيناه قد تفتحتا وهو صبي صغير على بيت يقدس الدين, وأساتذة يحترمون الدين, وبيئة تحافظ على الماضي محافظتها على الحاضر.

          بيتُ يقدس الدين.. فها هو العقاد يحدثنا في سيرته الذاتية (أنا) عن أبيه وكيف تمثل صورته التي رآها ألفي مرة بل أكثر من ألفين. حيث كان يراها كل يوم منذ أن فتح عينيه على الدنيا إلى أن فارق بلده أسوان بعد اشتغاله بالوظائف الحكومية, فيقول عن أبيه: (تلك هي صورته على مصلاه يؤدي صلاة الصبح, ويجلس على سجادة الصلاة من مطلع الفجر, إلى ما قبل الإفطار, ليتلو سوراً خاصة من القرآن الكريم, ويعقبها بتلاوة الدعوات).

          ويعترف العقاد في سيرته الذاتية (أنا) بهذه المشادة المبكرة التي حدثت بينه وبين أبيه بسبب الصلاة. فالأب يريد لابنه الذي لم يتم العاشرة أن يواظب على الصلاة في أوقاتها. وكان أثقل ما يعانيه يقظة الفجر في الشتاء,والطفل شأنه كبقية الأطفال يزين لهم النوم في هذا الوقت المبكر فلا يستيقظون إلا بعد جهد عنيف.. هنا حدثت مشادة ليس سببها أن الطفل ينفر من الصلاة, وإنما السبب شدة الأب في تكليف الابن بما لا يطيق قبل الأوان. وعلى الرغم من هذا كان العقاد يخف إلى المسجد لأداء الصلاة,  في مواعيدها. وينشد - وهو طفل - على المئذنة أناشيد الجمعة, وظل ينشدها وينظمها, ولا يذكر للمؤذن أنه ناظمها حتى لا يستصغرها ويمنعه من إنشادها.

          وما لاحظه العقاد نفسه في أبيه, لاحظه أيضاً في أمه. فيحدثنا في صفحات طوال عن إيمان هذه الأم واعتكافها, فيقول: (ورثت عن أمي تقواها وسلامة بنيتها من أبيها وجدها. ففتحت عينيّ أراها وهي تصلي وتؤدي الصلاة في مواقيتها, ولم يكن من عادة المرأة أن تصلي في شبابها..).

          وفي المدرسة وفي الحياة التقى العقاد برجال كانوا بمنزلة أساتذة في المدرسة, التقى بالشيخ محمد فخر الدين مدرس اللغة العربية, ومن قبله الشيخ أحمد الجداوي الذي حضر العلم في الأزهر, وزامل الإمام محمد عبده أيام السيد جمال الدين الأفغاني. وفي سيرته الذاتية يذكر العقاد أنه كان يتردد على مجالس الشيخ الجداوي ويستفيد من علمه. وفي المدرسة رأى العقاد وهو تلميذ الإمام الشيخ محمد عبده, الذي صادف أن قام بزيارة لهذه المدرسة, ويومها أعجبت ثقافة العقاد الشيخ الإمام إلى درجة أنه تنبأ له بالمستقبل في الكتابة. ويحدثنا العقاد في سيرته عن الشيخ الإمام وتأثيره, فيقول: (والشيخ محمد عبده في اعتقادي أعظم رجل ظهر في مصر وما جاورها منذ خمسة قرون.. وأثره في نفسي من أقوى الآثار).

في ميدان الحياة

          ويخرج العقاد إلى ميدان الحياة فيلتقي بالكثيرين, إلا أن التقاءه بالشيخ محمد فريد وجدي.. هذا الكاتب الإسلامي, كان له عظيم الأثر في حياة العقاد.

          وفي البيئة يفتح العقاد عينيه على بلدته أسوان فرأى التقاء التاريخ الماضي بالحاضر, وعلى حد قوله: (التاريخ حي يرزق ويتنفس الهواء, لأنه ماثل شاخص في الأحياء). وفي هذه المدينة العريقة أدرك العقاد وهو طفل صغير قيمة المناسبات الدينية من اهتمام أبنائها.

          وهكذا نرى أن الفكرة الإسلامية عند العقاد نبتت في الوسط الاجتماعي الذي يعاونها على النحو الذي رأيناه فيما بعد.. في هذه المؤلفات التي زادت على الثلاثين.. والتي قدمت زاداً ثقافيا للقارئ أفضل مما تقدمه هيئة علمية أو معهد متخصص, لاستيعابها جوانب كبيرة من التفكير الإسلامي.

          ومن هنا.. من تعدد هذه المؤلفات, ومن تنوع اهتماماتها, أصبح من الضروري تبويبها وتنسيقها حسب موضوعاتها. فالعقاد حين يكتب العبقريات, غيره حين يترجم للشخصيات الفذة في تاريخ الإسلام, غيره حين ينشئ الدراسات والأبحاث حول أهم القضايا الإسلامية. ولعل ما يربط بين عبقرياته وشخصياته ودراساته وأبحاثه في الإسلام هي صفته كأديب مؤرخ, وأدبه في التاريخ هو كأدبه بوجه عام.. أدب الفكرة الواعية.

          ولهذا رأينا في مجال آخر أن البحث فيما كتبه العقاد عن الإسلام يقتضي التمييز بين تناوله للعبقريات والشخصيات والأبحاث والدراسات. وهذا يقتضي أيضاً تأمل كل واحدة على حدة, حتى يمكن الاقتراب من المنهج الذي اتبعه العقاد في تناوله للمادة الإسلامية التي أمامه.

          وفي محاولة للكشف عن المنهج الذي اتبعه العقاد في العبقريات رأيناه يهتم بإيجاد مفتاح للعبقري الذي يتعرض له.. حتى يستطيع فتح مغاليق شخصية هذا العبقري, ليعرف مدى عظمته وحدود هذه العظمة, وما يصدر عنها من أفعال وتصرفات, وقيمة هذه الأعمال والأقوال بالنسبة للإنسانية عامة.

          ولكي يفي العقاد بهذا المطلب كان عليه أن يتفهم معنى مفتاح هذا العبقري, الأمر الذي جعله يقوم بالتحليل النفسي الدقيق لهذه الشخصية التي يراها عبقرية, ثم الإحاطة الشاملة لملابسات العصر الذي عاشت فيه.

          وقد يحدث أن يتشابه مفتاح إحدى شخصياته مع مفتاح شخصية أخرى. وهنا يبحث العقاد عن ثمة اختلافات في السلوك الإنساني لهاتين العبقريتين المتشابهتين في المدخل إلى أن يعثر على ما يميز بينهما.

          فمثلا: عند البحث عن مفتاح لعبقرية عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وجده في طبيعته كجندي. وهذا المفتاح نفسه - طبيعة الجندية - وجده لعبقرية خالد بن الوليد, وهنا يوضح العقاد الفرق بين العبقريتين حين يجعل عمر (رضي الله عنه)تغلب عليه من طبيعة الجندية ناحيتها (الروحية), في حين تغلب على خالد من هذه الطبيعة ناحيتها (الحيوية), أو بعبارة أخرى كانت جندية ابن الخطاب - عند العقاد - متزنة حكيمة, في حين جندية ابن الوليد مدفوعة هاجمة.

          لكن من هو العبقري عند العقاد? العبقري يقيس الأشياء بمقياسه الخاص, وأنه إنسان لم يخلق لخدمة نفسه أو أسرته أو عشيرته وكفى, بل هو خلق لخير إنساني عام, وأوتي من القوة ما يخدم به غيره, ولو اتخذ هذا الخير الإنساني العام صورة عالمية أو قومية أو وطنية أو قبلية.

عبقرية الـ (نحن)

          العبقرية عند العقاد تنمو على البذل والعطاء, ولا تتورم بالنهب أو السلب أو الجور على حقوق غيرها حتى تنفجر. باختصار.. عظمة العبقري عند العقاد هي التي تقول (نحن) ولاتقول (أنا) مبتورة الجذور والفروع عما حولها, وحتى لو سمعت منها (أنا) فلا تفهم من معناها إلا (نحن).

          والعقاد حين يكتب عبقرياته.. لا يكتفي بالعرض الفوضوي أو المنظم تنظيماً آلياً أو شبه آلي, بل ينسق الملامح البارزة في كل صورة, وينفخ فيها من روحه, وروح العبقري موضوع الدراسة, فيحييها في نفوس قرائه حتى يتعاطفوا مع عبقريته.. فيجدوا في نفوسهم بعض فضل من فضلها, ويلموا ببعض جمل من لغتها. ومن ثمّ يشعر القارئ بالغبطة لأنه يدرك أنه ارتفع فوق نفسه, ويحلق في أفق أعلى مما اعتاد العقاد أن يحلق فيه من آفاق, بل ويمتلئ من العبقرية بأكثر مما أراد العقاد له, ويلقن عن آيات هذه العبقرية أكثر مما لقنه العقاد.. ذلك لأن العقاد في عبقرياته لا يقصر خطابه على عقل قارئه, بل يحرك كل حياته ويستجيش كل ما تشتمل عليه هذه الحياة من شعور وخيال, وبداهة وتفكير.

          والعقاد يبرز عبقرياته كما يبرز كتّاب المآسي أبطالهم فيستسلمون إليهم, ومن هذا التشيع لبطل المأساة تتطهر النفوس من أدرانها, وهذا الجانب هو الذي يحركه العقاد في نفوس قراء عبقرياته, فيتشيعون معه إلى جانب العبقرية التي يكتب عنها بالقدر الذي يمضي بهم إليه, وكثيراً ما يذهبون في التشيع لهذا العبقري إلى أبعد مما كان يريد العقاد, والسبب في هذا أسلوب العقاد وتعبيره عن أفكاره - كما يتفق أغلب نقاد العقاد - ومؤرخيه, فما من عبقرية من عبقرياته إلا وهي قصيدة شعرية ينقصها الوزن والقافية, ولكن لا ينقصها صدق الشعور ولا جمال التعبير الذي يكاد أن يدفع الإنسان إلى التغني بها:

          والعقاد لا يكتب حياة عبقري أو يصور صورته إلا وهو داخل معه, متلبس به, يحيا معه حياته بكل ما تشتمل عليه من قوة وضعف, فيقف على أسرار العبقري من داخل نفسه هو, لا من مجرد ما ينسب إليه من أخبار وأعمال وأقوال, سواء كانت صحيحة أو منحولة. لذا ترى شخصية العقاد أمامك في كل عبقرية مع شخصية صاحبها يتحركان معاً.

          وهناك ملحوظة أخيرة.. أشار إليها مؤرخو العقاد ونقاده, مؤداها أن العقاد لا يتحفظ في الثناء على (العبقري) أو أعماله خوفا من الاتهام بالمبالغة ولماذا يتحفظ ما دام يجد في هذه العبقرية الإسلامية ما تستحق عليه ثناء?! والسؤال هل روح الثناء هذه تعطل ملكة التقييم عند العقاد وتضعفها? والإجابة بالنفي. فهذه الملكة ناشطة عند العقاد, وروحها جياشة في كل ما يصدر من كتابات.

          وبهذا المنهج الذي توصلنا به إلى فهم عبقريات العقاد المعروفة, وهي: (عبقرية محمد), و(عبقرية الصديق), و(عبقرية عمر), و(عبقرية الإمام), و(عبقرية خالد).. بهذا المنهج كتب العقاد عبقرياته.

          لكن العقاد - كما قلنا - حين يكتب العبقريات, غيره حين يكتب الشخصيات. وربما نلمح هذا الفرق عندما نقرأ تقديمه لمعاوية بن أبي سفيان كشخصية.. فالعقاد في تناوله لهذه الشخصية فرّق بين القدرة والعظمة, بين الشخصية والعبقرية, حين قال: (أما وصف الرجل بالقدرة لأنه مقتدر على بلوغ مقاصده, واحتجان منافعه والإضرار بغيره, ولكنه إذا وصف بالعظمة فإنما يوصف بها لفضل يقاس بالمقاييس الإنسانية العامة, وخير تغلب فيه نية العمل للآخرين على نية العمل للعامل وذويه. ولعلنا نقترب من توضيح الاصطلاح إذا نقلنا التفرقة من القدرة والعظمة إلى التقدير والتعظيم. فنحن نقدّر الإنسان بمقداره عظيما كان أو غير عظيم. بل نقدّر الأشياء بمقاديرها ولو لم يكن لها عمل, ولم تكن من وراء العمل نية, ولكننا إذا عظمنا الإنسان فإنما نوجب له التعظيم علينا لأنه يعنينا, ويستحق إكبارنا ويرتفع إلى المكانة التي يلحظها علينا لأنه يعنينا, ويستحق إكبارنا ويرتفع إلى المكانة التي تلحظها الإنسانية بأسرها وتعود عليها في منافعها وخبراتها.. فكل عظيم قدير ولكن ليس كل قدير عظيما. والعظمة قدرة وزيادة, ومعاوية قدير وليس بعظيم).

          وبهذه العبارة حدد العقاد الفرق بين الشخصيات المقتدرة, والعبقرية العظيمة.

شخصيات لا عبقريات

          والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن قارئ عبقريات العقاد وشخصياته الإسلامية, لماذا جعل عثمان بن عفان (رضي الله عنه) ومعاوية بن أبي سفيان من الشخصيات, ولم يجعلها من العبقريات, مثل: الإمام علي, والفاروق عمر, والصديق أبي بكر?

          أجاب العقاد مرتين عن هذا السؤال: أولاهما حين سأله السؤال نفسه تقريبا المفكر الإسلامي محمد كرد علي قائلا: لماذا لم تكتب لنا كتاباً عن معاوية كما كتبت عن علي, أنا أعرف أنك وصولي مع الأحياء ولكن لا أعرف أنك وصولي مع الأموات, وكان رد العقاد: (إن صاحبك معاوية أراد الدنيا وأراد منها أن يكون ملكاً فكان. ثم مات فماذا يريد بعد هذا? الذي يطمع أن يكون ملكا أو وزيرا أو نائبا, ثم ينتهك كل الحرمات ليصل إلى شهوته ماذا نفعل له?! أتريد بعد أن نخر له ساجدين في حياته وبعد موته?!).

          وأجاب العقاد مرة ثانية حين قدم شخصية عثمان بن عفان (رضي الله عنه), فأكد أن سيرته لا تبرز لنا عبقرية, مثل: عبقرية الصديق, أو عمر, أو علي, أو خالد بن الوليد, ولكنها تبرز لنا من جانب الأريحية صفحة لا تطوى, ولا يستطيع العقل الرشيد أن يرجع بها إلى باعث العقيدة والإيمان, لذلك فهو لا يؤمن بالعبقرية لضمان رضا الله عنه بقدر ما يؤمن بأنه ذو النورين. نور اليقين ونور الخلق الأمين. ومن هنا يتضح أن العقاد وضع العبقريات في مكان أرفع من الشخصيات.

          والشخصيات التي قدمها العقاد, ليست صور أعلام ذوي حظ واحد في القدرة والكفاية, ولو أنها كانت كذلك لما غض هذا من شأنها. فمن كان يعرف حرفاً واحداً من أبجدية الكفايات الإنسانية فهو على حظ كبير من المعرفة الإنسانية, ولكن لا شك يكون أقل وعياً ممن يعرف جملة حروف منها. وتراجم وشخصيات العقاد تمثل عدة أنماط من القدرة الإنسانية لعلها في العلم والإدارة والسياسة والحرب.

          يغلب على شخصيات العقاد الإسلامية أنها لا تؤدي أبرز ملامح صاحبها وأعماله فحسب بل تنفذ إلى حقيقة القدرة الإنسانية تلك التي تدور عليها شمائله ومساعيه وأعماله وأقواله, وتميز ملامحه عن ملامح أشباهه, واختلاف نمطها عن أنماط الكفايات الأخرى. فلا نخلط بين هذا وغيره من ذوي المواهب والملكات التي ترفع صاحبها أو لا ترفعه.

          في شخصيات العقاد الإسلامية يكمن سرٌّ, لعله في سهولة الأداء عن كل ذي قدرة أيا كان نوع قدرته وحظه منها, ثم اتساق أجزاء صورة كل عظيم من هؤلاء العظماء مستقلة عن غيرها. ولهذا تبدو الترجمة وكأنها خرجت من قريحة صاحبها, فتسلمتها براعته دفعة واحدة شأنها شأن بدء الحياة في خروجها من الأرحام إلى أيادي القوابل.

التاريخ الأدبي

          إن العقاد كان يندمج مع شخصيته في أثناء كتابتها, حتى أنه يذكر أنه كان يكتب الفصل الواحد من (الحسين أبو الشهداء) وعيناه مغرورقتان بالدموع, مع أنه يفترض فيه كمؤرخ أن يكون محايداً ولكن ما العمل, وهو أديب فنان يحس ويشعر ويحلل الحدث, قبل أن يكون شاهداً ومؤرخاً يسجل ويدون?!

          وكتابة التاريخ بهذه الصورة الأدبية, أسلوب لم يبتدعه العقاد, فقد سبق أن استخدمه كتّاب أجانب, مثل: (بلوتارك), (وكارليل), و(أندريه موروا), و(إميل لودفيج).. وكتّاب عرب في مقدمتهم: الدكتور طه حسين, والدكتور محمد حسين هيكل, والأستاذ أحمد أمين.

          هذا المنهج الذي توصلنا به إلى معرفة التمييز بين العبقرية والشخصية.. بين العظمة والقدرة استطعنا التعرف على شخصيات العقاد الإسلامية, وفي مقدمتها: (فاطمة الزهراء والفاطميون), و(الصديقة بنت الصديق), و(أبو الشهداء الحسين بن علي), و(ذو النورين عثمان بن عفان), و(بلال بن رباح), و(عمرو بن العاص), و(معاوية بن أبي سفيان في الميزان).

          بعد محاولة الكشف عن منهج العقاد في العبقريات والشخصيات, ننتقل إلى محاولة الكشف عن منهجه في الدراسات والأبحاث الإسلامية والتي أخرجت كتبا, في مقدمتها: (الله), و(الفلسفة القرآنية), و(حقائق الإسلام وأباطيل خصومه), و(وما يقال عن الإسلام), و(التفكير فريضة إسلامية), و(الإنسان في القرآن), و(المرأة في القرآن, و(الإسلام في القرن العشرين), و(الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام), و(الديمقراطية في الإسلام), و(مطلع النور).

          إلى جانب بحثين في كتابين عنوانهما: (أبو الأنبياء إبراهيم الخليل), و(المسيح والكشوف الحديثة), وكتب أخرى عن فلاسفة المسلمين ومفكريهم, وفي مقدمتها: كتاب عن (ابن رشد), وآخر عن (الغزالي), وثالث عن (ابن سينا), ورابع عن (الكواكبي), وخامس عن (عبقري الإصلاح والتعليم الإمام محمد عبده), إلى آخر هذه الأبحاث التي تزخر بها المكتبة العربية والإسلامية.

          والسؤال الآن: ما النهج الذي اتبعه العقاد في كتابته لهذه الدراسات والأبحاث?

          بادئ ذي بدء.. يتراءى لنا العقاد في قراءته أنه يكتب وفي ذهنه فكرة يؤمن بها من الثلاثينيات أو ما قبلها, وهي أن الإسلام دين قامت على مبادئه وقيمه حضارة. فالحضارة العربية التي شهد لها أعداؤها من المتعصبين لغير الإسلام ما قامت إلا بعد الإسلام. ولعل هذه الفكرة التي كانت محور تفكير العقاد في أبحاثه ودراساته الإسلامية يعلنها المستشرقون اليوم والمفكرون الأجانب, وفي مقدمتهم الفيلسوف الفرنسي جارودي, الذي يعلن أن التبرير الوحيد لإسلامه هو أنه اكتشف في الإسلام - بعد طول تفكير وتأمل ودراسة وبحث - أنه الدين الوحيد الذي تقوم على أكتافه حضارة أنارت أوربا في عصور الظلام.

فهم العقاد للإسلام

          الإسلام دينٌ تقوم عليه حضارة.. هي فكرة العقاد.. فهو حين يحدثنا عن الإسلام.. يقدمه - عن فهم وعقيدة - على أنه نظام كامل تتحدد فيه الخطوط لإقامة مجتمع كبير متكامل, في مختلف الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولهذا نرى العقاد حين ينبري لكتابة هذه الأبحاث والدراسات يشغله أمران مهمان من منطلق مسئوليته كمفكر, وعقيدته كمسلم.. هما:

          1 - الدفاع عن الإسلام ضد أباطيل خصومه.

          2 - تقديم الصورة الحقيقية للإسلام.

          والأمران وجهان لعملة واحدة أو لحقيقة واحدة, مؤداها أنه حين يبحث عن الإسلام في معناه الصحيح, فإنه في الوقت نفسه يدافع ضمنيّا عن الإسلام.

          والحق أن أصول هذا المنهج مستمدة من فكر الإمام محمد عبده, فقد مضى العقاد في أثره.. يؤمن بأن الإسلام دينٌ عالمي صالح لكل الشعوب, إذ قرر للإنسانية مبادئ لا يمكن صلاحها بغيرها, مفوضاً للعقل الإنساني أن يختار ما يلائمه مما يتلاءم مع الأطوار الاجتماعية التي تتغير فتلعب النظرية دوراً كبيراً.

          وقد عبر العقاد عن ذلك صراحة في تقديمه لكتاب (الفلسفة القرآنية), حيث يقول: (موضوع هذا الكتاب هو صلاح العقيدة الإسلامية), ووفقا لهذا المنهج نرى العقاد يقدم لنا معظم دراساته وأبحاثه.

          وفكرة ثانية بثها الإمام محمد عبده في كتبه, وتأثر بها العقاد في كتاباته, وهي أن الإسلام يفرض على الناس التفكير, والاحتكام إلى العقل في إثبات عقائده وتعاليمه الأساسية, وأنه لا بأس من الانتفاع بالإسلام في العلم وجميع شئون الحياة. إننا نجد العقاد يتأثر بهذه الفكرة ويفرد لشرحها كتابا بأكمله هو (التفكير فريضة إسلامية) الذي يستهله بأن من مزايا القرآن الكثيرة.. مزية واضحة هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة, وأمر التبعة والتكليف, ويقول: (إنه لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه..). وقد خاطبه بكل صوره المدركة للتصورات الإنشائية الوازعة عن المحظورات والمنكرات والاستدلالات المستخرجة للأحكام الراشدة المستبصرة.

          وبذلك يعم الخطاب في القرآن العقل بكل صوره وخصائصه ووظائفه, ولا يذكره عرضاً مقتضباً بل يذكره مقصوداً مفصلاً على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان السماوية الأخرى.

          ومعروف أن الإمام محمد عبده عني عناية خاصة بالرد على خصوم الإسلام, وعلى ضوء هذه العناية كتب العقاد مؤلفيه: (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه), و(ما يقال عن الإسلام). وقد حاول كثيراً أن يدلل على أن الإسلام وضع للإنسانية صورة رائعة من الإصلاح الاجتماعي. وهو دائم الحديث عن ذلك في بقية كتبه, فالإسلام كفل للناس حريتهم السياسية بما شرح لهم من نظام ديمقراطي سليم, سجله العقاد في كتابه (الديمقراطية في الإسلام), كما عني في كتابه (مطلع النور) ببيان أن الرسالة المحمدية مهدت لحدوث مقدمات هيأت لها, بحيث غيرت من لوازم الإنسانية وحاجتها ودواعيها. وسوف نراه في كتابه (الإسلام والقرن العشرون) يتحدث عن قوة الإسلام الغالبة الصامدة على مر التاريخ, كما تحدث عن الدعوات التي انبعثت فيه منذ القرن التاسع عشر وأطوارها مع نهضات الإصلاح. وهو دائماً إذا تحدث عن مستقبل الإسلام ملأته الثقة والأمل.

          يضاف إلى ذلك تأثير الإمام محمد عبده في العقاد.. فضلاً عن قدرة العقاد نفسه على الإقناع والدفاع والرد بالحجة والدليل, وهي أمور عرف بها.

          في ضوء من هذا المنهج أمكننا تمييز أبحاث العقاد ودراساته من بين عشرات الكتب.

 

سامح كريم   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات