حنان الشيخ وغالية قباني
حنان الشيخ وغالية قباني
جاري .. سائق القطار المثقف جعلني كاتبة! كتبت حنان الشيخ أول رواية لها وهي في عمر التاسعة عشرة متأثرة بكم من القراءات كانت تتسرب لها من جارها سائق القطار القارئ المثقف. في بيروت ولدت ونشأت، ثم أرسلها والدها للدراسة في القاهرة حيث نشرت في مجلة روزاليوسف. عادت لتعمل صحفية في جريدة النهار ومجلة الحسناء. تنقلت بين لندن والسعودية بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. الشيخ مستقرة الآن في لندن التي شهدت انطلاقتها إلى العالم بعد روايات مثل «حكاية زهرة» و«مسك الغزال». ترجمت رواياتها إلى إحدى وعشرين لغة. من أعمالها أيضا «بريد بيروت»، ومجموعة قصصية بعنوان «أكنس الشمس عن السطوح»، «حكايتي شرح يطول». انتهت أخيرًا من مشروع تعاون مشترك بينها وبين مخرج بريطاني لإنجاز عمل مسرحي ضخم مقتبس من «ألف ليلة وليلة»، وتمخض المشروع عن حكايات استوحتها حنان الشيخ من أشهر كتب العرب، وعن مصالحة مع راوية الليالي، شهرزاد. غالية قباني تلتقيها وهي كاتبة سورية ولدت في سورية ونشأت في الكويت التي غادرتها صيف عام 1990. أصدرت مجموعات قصصية من بينها «فنجان شاي مع مسز روبنسون»، وروايتين «صباح امرأة» عام 2000 وتجري أحداثها خلال فترة الاجتياح العراقي للكويت. ثم «أسرار وأكاذيب» التي يشكل المشهد السوري خلفية لها. تعيش في العاصمة البريطانية حيث تعمل في الصحافة وهي عضو منظمة «حبر كتاب المنفى». - بدأت اكتب في وقت مبكر جدا كي أتأكد أن الأحداث التي مرت بي حقيقية، لأني كنت أشك أحيانا أنني أتخيل. بدأ الأمر بين العاشرة والحادية عشرة تقريبًا، عندما أزور أماكن أحبها أو أخاف منها كنت أترك أثرا خلفي، عود كبريت أو شيئًا أحمله، كي أعود اليه وأتأكد من أنني كنت هناك. عندما سمح لنا أبي أنا وأختي بزيارة أمي بعد طلاقها وزواجها مرة أخرى، كنت أتابعها وهي في عدة مواقف، وهي تغني وهي تستحم. فألجأ إلى قطعة ورق صغيرة لأكتب انطباعاتي كي لا تبدو وهمًا بعد ذلك. - في سن الرابعة عشرة انتبهت إلى أن صديقتي في المدرسة نهى سمارة الكاتبة الفلسطينية لاحقًا، تكتب في صفحة الشباب في جريدة السياسة، فبدأت أكتب أنا أيضًا، أتذكر موضوعًا عن الملل. ثم بدأت أكتب لجريدة النهار مقالات تحت عنوان «إلى نان» بعد أن حذفت الحرف الأول من اسمي كي أكتب براحتي. كانت الكتابة عن يومياتي كشابة صغيرة، العلاقة مع الأخ الأكبر الذي لم يقبل أن يراني أجلس في المقهى، عن العلاقة مع الأب وملاحقته لي كي لا أتأخر عن البيت. الا أنني بعد ذلك بدأت أنتقل من الواقع إلى الخيال، أي أكتب عن أمور لم تحدث معي. بشكل عام كنت أكتشف نفسي من خلال تفاعلي مع اللغة ومع الحياة. - كنت اقرأ كثيرًا والفضل لجارنا سائق القطار المثقف الذي كان يعيرني الكتب. وكلما قرأت كنت أقول لنفسي أنا أيضًا أريد أن اصبح كاتبة. - في سن الثامنة عشرة انتقلت إلى مصر لتكملة دراستي. كان ذلك في منتصف الستينيات، وهناك اتصلت بمجلة روزاليوسف وبدأت أنشر فيها الخواطر المختلفة. وقتها كتب إحسان عبدالقدوس عني وعن غيري من الشباب بقوله إن تيارًا بذائقة جديدة يتشكل في عالم الكتابة يكتب عن التدخين وعن المقاهي وغيرهما من موضوعات غير تقليدية، ومنحنا اسم «العصفور الأزرق». التسمية كناية عن ابتعادنا عن الأسلوب الواقعي في الكتابة، الأسلوب الذي كان يكتب به هو. في تلك الفترة نشرت رواية «انتحار رجل ميت». - فترتها كنت مهتمة فقط باللغة وبالتعبير عن الأحاسيس، بالوصف وبالغرابة، ولم أكن أهتم كثيرًا برسم الشخصيات. - في تلك المرحلة كنت مثل الاسفنجة التي تمتلئ بما تقرأ وتتأثر به، أذكر روايات مثل «السأم» لألبرتو مورافيا، «الصخب والعنف» لفوكنر وغير ذلك من كتب كان يعيرني إياها الراحل غسان كنفاني. وكلما قرأت لكاتب أشعر أنني أريد أن أبدل إلى أسلوبه. ولم يستمر هذا الأمر طويلاً حتى بدأت بالتقاط صوتي الخاص. هكذا تسير الأمور لا بد أن يتغلب أسلوبك الخاص في النهاية لأن التقليد لا يقود إلى شيء. - عندما تبدأ الحرب تختلف ردود أفعال الناس حيالها، البعض يصير متعصبًا، البعض فيلسوفًا، أنا شعرت أني أريد أن أهرب. بعد انتقالنا إلى لندن أنا وزوجي وشعوري بالأمان، بدأت في المكان الجديد أعيد اكتشاف المكان الذي تركته. صور الخوف تتمركز في الحرب. أردت أن أكتب عن كل هذا، عن الحرب والخوف، قررت الكتابة عن البنت التي تركتها هناك وكانت خائفة. ثم بدأت أكتشف الحروب الأخرى الداخلية، الحروب مع التقاليد ومع العائلة. - نعم الحرب الكبيرة تكون هي خشبة المسرح والحروب الصغيرة ممثلون على خشبتها. كنت غاضبة ومجروحة وناقمة على كل شيء، على دور النشر، على الكلمة، على الكتب. كتبت ولم اهتم باللغة، أدخلت العامية. غاب الرقيب وشعرت أني أستطيع أن أكتب بالطريقة التي أريد. أترك زهرة تحكي بجرأة تعبر عن نقمتها على الرجال الذين حركوا الحرب. الغريب أنني فوجئت من إعجاب القراء الكبير بزهرة، وبعد سنوات طويلة بدأت أفهم لماذا. لقد تفاعلوا معها في وقت لم يكن قد صدرت بعد أعمال أدبية تتناول الحرب. - عندما تركت لبنان بسبب الحرب شعرت أني مثل زرعة يعاد غرسها في تربة أخرى وهواء آخر، في هذه الظروف الجديدة عليك أن تعيدي تشكيل نفسك. أنا تغيرت ولكن الغريب أن دور النشر لم تكن قد فعلت. الرواية انتهت عام 1977 تقريبًا الا أن الناشرين في لبنان رفضوها. وتراوحت الحجج، سهيل إدريس في «الآداب» قال إنها جريئة وفيها مشهد اغتصاب، دار النهار للنشر كتب احدهم محتارا: هذه الرواية إما أنها سيئة جدا أو جيدة جدا. كان يقال بين دور النشر: مع مين هالبنت؟. المقاتل تصوره على انه حرامي، هي شيعية من الجنوب وتنتقد الشيعة. وتسأل بعضهم هي ضدي أم معي؟ لا تمثل اليمين ولا اليسار. أما في «روزاليوسف» بمصر فقد أحبوها، الا أنهم اعتذروا عن نشرها مسلسلة بعد أن كانوا اتفقوا معي على ذلك. وفي النهاية أقنعتني صديقتي نجاح طاهر الكاتبة والفنانة مصممة اغلفة الكتب، أن نتحمل تكلفة النشر معا. - نعم ترجمت إلى الفرنسية أولا وحصلت على جائزة مجلة «إل». في تلك الفترة صدف افتتاح معهد العالم العربي في باريس وتم اختيار عشرة كتب لتنشر بالتعاون مع المعهد وتقدم في الافتتاح. يومها برز أكثر من صو ت عربي في باريس يتساءل عن وضع اسمي بين الكتاب الآخرين!! - شجعني نجاح «حكاية زهرة» نقديا على كتابة نصوص اخرى مع بعض الخوف من أن الكتاب الثاني هو الذي يكون بمنزلة الامتحان. وكنت أتساءل هل سأنجح في كتابة ما يشبه «حكاية زهرة» كنت في تلك الفترة أعيش مرحلة انتقالية انتقل فيها مع اسرتي للعيش في السعودية فرحت أكتب قصصا قصيرة تحت عنوان «وردة الصحراء». - «انتحار رجل ميت» عرضتها على غسان كنفاني وأحب لغتها. برأيي أن كل كاتب يحتاج إلى ناقد. أنا أسمع الملحوظات. أذكر أنه في رواية «بريد بيروت» علق سهيل إدريس بصفته ناشر الرواية، أن الرسائل التي تقوم عليها الرواية طويلة. اقتنعت بملحوظته فاختصرت من الرسائل. بشكل عام أنا أعرض نصوصي على صديقتي نجاح طاهر فهي لا تجاملني. عادة أستمع لما يقال لي رغم أني أثق في أفكاري وأدافع عنها. - رواية «امرأتان على شاطئ البحر»، لم يكتب عنها الكثير. انتقدها أحدهم بقوله إنها تنفع فصلا من رواية فقط. لم أقتنع لان الرواية، قصيرة وتجري أحداثها في يوم واحد يجمع بين امرأتين تسترجعان تفاصيل حياتهما وعلاقتهما القديمة خلال هذا اليوم. كنت سعيدة بالشكل الذي أنجزته، أنا كتبت وعلي أن اجرب دوما لا أن أراوح عند مرحلة واحدة. - «بريد بيروت» عندما أنجزتها كان مضى عليّ فترة بعيدة عن لبنان، بمعنى العيش المستمر، ولأني لم أكتبها وأنا هناك استخدمت تقنية الرسائل كي لا أبتعد عن ضمير المتكلم لأني لا أستطيع أن أمثل أنني اكتب في الداخل. الرسائل حيلة جيدة لنقل الأخبار عندما تتعطل خطوط الهاتف في هذه الظروف، اللقاءات المباشرة تتعطل ايضا. لكن رغم ذلك فإن «بريد بيروت» يبقى أحب كتبي إلى قلبي، أخذ مني جهدًا ايضا. كي تركبي الأحداث وتخلقي الشخصيات. كلنا نحكي كلاما مشابها عن الحرب، العشق، لكن كيف يمكن قول ذلك بأسلوبك الخاص، بعين مختلفة عن الشباب، الموت، الحروب، الحياة. - يصفونني في الغرب في كثير من الاحيان بالكاتبة النسوية، فأستغرب وأسأل نفسي هل أنا كذلك فعلا؟ انا أكتب عن النساء نعم ولكني لا أحبس نفسي في هذه الخانة. شخصيا لم اكن ضحية قهر من أبي الذي لم يمنعني من الكتابة، بل كان فخورا بي جدًا. إذن لم أكتب لأتحدى أحدا وإنما لأعبر عن ذاتي وعمن حولي. بطبعي لا أحب التأطير. وبالطبع أتعاطف مع المرأة لكن بعض الكتاب العرب الرجال تعاطفوا معها ايضا، مثل إبراهيم أصلان، صنع الله إبراهيم، ونجيب محفوظ. قضايا المرأة إذن ليست موضوعة خاصة بالمرأة الكاتبة. - تغيرت بصورة كبيرة بعد سنتين من العلاقة معها لم أكن أنام فيها وأنا أفكر ما الذي آخذه تماما منها لأشتغل عليه، من كل تلك الحكايات البديعة. بعد تلك التجربة لم تعد شهرزاد:«كليشيه» المرأة التي تروي لتنقذ حياتها وحياة النساء الأخريات. غالبيتنا نحن العرب لم يعرفها تماما لأننا لم نقرأ مجمل العمل الضخم. غير اني وبعد قراءتي المكثفة له شعرت كم أن الكتاب رائع بمختلف الطبعات والإضافات. وتنبهت إلى أن العرب تأثروا به جدا في وعيهم الشعبي، ستجدين الأثر في تعليقاتنا وأمثلتنا وحكاياتنا التي ننسى أنها من حكايات شهرزاد. لديك تعليق شعبي مثل: «تحت السواهي دواهي» وتعليق «هادم الملذات»، هذه مأخوذة من إحدى حكايات الف ليلة وليلة. تكتشفين أيضا أن الغرب لايزال متأثرًا بهذه الحكايات حتى الآن. لو قرأت سلسلة روايات الناشئة «هاري بوتر» الذي كسر أرقام التوزيع ككتاب وفيلم، لاكتشفت كم أن الكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ متأثرة بأجواء ألف ليلة وليلة والخيال الجامح الموجود فيها. - تماما. ونحن كقراء نريد من شهرزاد أن تبقى تروي وتحكي عن الإنسان وهمومه، العذاب والفرح، الفراق، الموت. هي الموضوعات ذاتها التي لايزال الأدب يحكي عنها. هذه سمة ساهمت في أن الكتاب لم يمت، بل إنها أعجوبة أنه لم يمت حتى الآن. لذا دومًا ستبقى الحكايات ويبقى الاحتفاء بها. لكن عليّ أن أشير أيضًا إلى أنني بعد مدة سنتين في قراءة الحكايات والكتابة من وحيها، زاد إعجابي بشهرزاد كراوية بصورة كبيرة. وانتبهت إلى أنها عندما طلبت من أبيها ان يرشحها لشهريار كي يتزوجها بعد كل من قتل من نساء، أرادت من خلال قصها الحكايات على مسمعه ان تري الملك الظالم كيف أن البشر يعانون ويتخبطون في حياتهم، وأنهم يستحقون العدل لا أن يحكموا بالظلم. ولاحظت أن كل القصص المركبة الأبعاد في هذا التراث الفريد، لم أقرأ أبدًا ما يقابله من تشريح للطبع الإنساني بكل عيوبه ومحاسنه. لقد كانت عينها فضاحة، وهي شخصية طريفة وذكية وتجيد توصيل فكرتها. لكننا نحن الكاتبات العربيات لم نعطها حقها بالتكريم ولم ننتسب لها. - منذ فترة قريبة كلفت بكتابة قصة من بلدية منطقة ساوث كنزينغتون التي تستعد للأولمبياد الصيف المقبل بمجموعة قصصية لعدد من الكتاب، تدور أحداثها في تلك المنطقة التي عاشت فيها الملكة فيكتوريا ومنحتها متحفا شهيرا يستقبل الآلاف من الزوار وهو متحف فيكتوريا وألبرت. اعتقد بما أنني أنهيت القصة وأرسلتها فهذا يعني أنني خرجت من حال التلبس. ----------------------------------- لأعْـذلَنّ فؤادي أبْلَغَ العذلِ أبو نواس
واضح أن الهزات الكبرى تغير الكاتب، وهو ما انعكس على كتابتك.
حتى أُنَهْنِهَـهُ عن مثلي ذا العملِ
منّانيَ الصبْرَ، لا يألو، ليوقعَني
حتى إذا صارَ بي في مَقطعِ السُّبلِ
أبَى الوَفَاءَ بما مَنّى، وأسلَمَني
لكُلّ مُعجِلَةٍ عن مَوْقِتِ الأجَلِ
أفٍّ وأفٍّ لقلْبي ؛ ما اسْتجَبتُ لهُ
قلباً لقد كانَ منّي غيرَ ذي أمَلِ