جمال العربية

 جمال العربية
        

قطرات من (السّحاب الأحمر)
لمصطفى صادق الرافعي

          قُدر لي أن أعرف الرافعي وكتاباته في سنٍّ مبكرة. عرفته أول الأمر شاعرا, ينتسب إلى التيار الشعري الذي أحدثه البارودي ورسم له الخطة والنموذج, وهو التيار الذي نبغ من أعلامه إسماعيل صبري وشوقي وحافظ إبراهيم. وأتيح لي في مكتبة البلدية بمدينتي (دمياط) أن أقرأ ديوانه في أجزائه الثلاثة الصادرة في وقت مبكر من مطلع القرن العشرين: 1902, 1903, 1912. لكن اهتمامي بشعر شوقي - في تلك المرحلة من العمر - أنساني شعر الرافعي وصرفني عنه وعن شعر غيره من تلامذة البارودي.

          ثم أتيح لي بعد ذلك بسنوات, أن أقرأ بعض كتابات الرافعي ونثره الشعري. فتحمست لنثره أكثر. خاصة في كتبه: أوراق الورد, والسحاب الأحمر, وحديث القمر. أما مؤلفاته النثرية الأخرى: وحي القلم, وتحت راية القرآن, ورسائل الأحزان فقد امتلأت بفكره وآرائه ونظراته, وصدى معاركه الحامية بينه وبين خصومه من المجددين في الاتجاه الأدبي وموقفه الفكري وفي مقدمتهم: طه حسين وعباس محمود العقاد.

          عاش مصطفى صادق الرافعي بين عامي 1880 و1937, ولد في قرية بهتيم بمديرية القليوبية بمصر, لأسرة لبنانية كانت تقيم في طرابلس الشام وهاجرت إلى مصر, حيث اشتغل معظم أفرادها بالقضاء الشرعي. وقد بدأ حياته الوظيفية كاتبا بمحكمة طلخا الشرعية - بعد أن حفظ القرآن وجوده وأتمّ تعليمه الابتدائي والثانوي - ثم نقل إلى محكمة إيتاي البارود ثم استقر في طنطا حتى وفاته.

          وكما كان مصطفى لطفي المنفلوطي علما على مدرسته في الكتابة, وصاحب أسلوب ظل سائدا لعقود كثيرة في مستهل القرن الماضي, فإن الرافعي - بدوره - أصبح بعد المنفلوطي رمزا لمدرسة أسلوبية مغايرة, سادت بدورها وكان لها تلاميذها ومريدوها والمتحمسون لها, بالرغم من تصنيف صاحبها ممثلا للمدرسة القديمة التي ثار عليها المجددون. لكن قراءه لم ينسوا له أنه وقف نثره - في معظمه - على القضايا الاجتماعية والدينية والفكرية, وأنه خاض عدة معارك ضارية دفاعا عن القيم الدينية والإسلام, فأصبحوا ينظرون إليه باعتباره كاتبا إسلاميا قبل أي شيء آخر.

          وقد عُرف عن الرافعي حبه للأديبة (ميّ) صاحبة الصالون الأدبي الشهير, والكتابات الشعرية والنثرية المرهفة - بالعربية والفرنسية - وإن كان حبا من طرف واحد. وقد عبّر الرافعي عن هذا الحب اليائس في رسائل أدبية - متوهجة بروح الشعر والاشتعال العاطفي - ضمنها كتابيه: (أوراق الورد) و(السحاب الأحمر).

          يرى محمد سعيد العريان - تلميذ الرافعي ومريده الكبير - في تقديمه لكتاب (السحاب الأحمر) أنه كتاب يقوم على سبب واحد, حول فلسفة البغض وطيش الحب ولؤم المرأة - على أن كل ما فيه لا يشير إلا لمعنى واحد: هو أن قلبا وقع في أسر الحب يحاول الفكاك فلا يستطيعه, فما يملك إلا أن يصيح بملء فمه: (إنني أبغضك أيتها... أيتها المحبوبة!).

          ثم يقول العريان: (كنت مع الرافعي مرة في مكتبه وبيننا هذا الكتاب يقرأ لي بعض فصوله, فاستمهلته عند فقرة مما يقرأ ليجيبني عن سؤال يكشف عن شيء من خبرها ومن خبره, فوضع الكتاب إلى جانبه وحدّق فيّ طويلا, ثم سكت, وسبحت خواطره إلى عالم بعيد, وراحت أصابعه تعبث بما على المكتب من أشيائه, ثم قال: (أرأيت القلم الذي تراءى لي السحاب الأحمر في نصابه بين عينيّ والمصباح?). ثم دسّ يده في درج المكتب فأخرجه إليّ وهو يقول: (ضع النصاب بين عينيك والمصباح وانظر. ألست ترى سحابا يترقرق بالدم كأن قلبا جريحا ينزف? في شعاعة هذا النور تراءت لي هذه الخواطر التي تقرؤها في السحاب الأحمر). ثم عاد إلى الصمت ولم أعد إلى السؤال!

          في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه (السحاب الأحمر) لا ينسى الرافعي أنه شاعر, فيقول:

من للمحبّ ومن يُعينه?

والحب أهنؤهُ حزينهُ!

أنا ما عرفتُ سوى قساوته

فقولوا كيف لينُه?

إن يُقض دينُ ذوي الهوى

فأنا الذي بقيت ديونُه

قلبي هو الذهب الكريم

فلا يفارقُه رنينُه

قلبي هو الألماس يعرف

من أشعته ثمينُه

قلبي يُحب وإنما

أخلاقُه فيه ودينُه



          حتى يقول:

ويلي على متدلّلٍ

ما تنقضي عنه فنونُه

كيف السلو وفي فؤادي

لا تُفارقني عُيونُه?



          وفي الفصل الثاني من كتاب (السحاب الأحمر), وعنوانه: النجمة الهاوية, طائفة من الخواطر في طائفة من النساء كتب الرافعي يقول:

          (وترقرق السحاب فإذا هو كنضح الدم, وإذا هو يفور فوْرهُ, فبان كأنما يتدفق من طعنةٍ أرى دمها ولا أرى موضعها, لأن هذا الشلال الأحمر يتفجر منها.

          ورأيتها هي طالعة كالشمس حين تغرب مُحمرّة يتغالب طرفا الليل والنهار عليها, ففيها أواخر النور وأوائل الظلمة, وسوادها يمشي في بياضها.

          قلت يوماً في صفة إحدى القصائد البديعة: إنها فن من الشعر, وفي إحدى الصور المُحكمة: إنها فن من التصوير, وفي تلك الجميلة: إنها فن من المرأة, أما الآن فقد عرفنا أن اصفرار الشمس إيذان بسواد نصف أرضها.

          ويقول العرب: امرأة مجلوّة, ويفسرون ذلك بأنك إذا رامقْتَ فيها الطرف جال, يعنون أنها من جمالها ذات شعاع, فيجول الطرف فيها لأجل شعاعها وبريقها, أفلا يجوز لنا أن نزيد في هذه اللغة: وامرأة صدئة, ونفسرها بأنها هي التي إذا اتصلت بها تركت مادة الصدأ على روحك اللامع, لأنها كهذا الصدأ طينت على طينتها!

***

          لست أريد أن أصنع في هذا الفصل كتابة حتى لا أدير الكلام على شيء, فقد مسخت تلك النفس في نفسي فخلصت لي منها هذه الكلمة الجميلة: (تتم آمالنا حين لا نؤمّل), ولكني مرسل مطرة سحابي تهطل ما هطلت. فالمرأة الأولى أضاعت على الرجل جنّته, ومن نسلها نساء يُضيّعن على الرجل الجنة وخيالها! ولو استطاعت الأرض أن تفرّ من تحت قدمي مخلوق براءة منه, لكان أول من تختزل تحت رجليه واحدة من هذا النوع!

          ملْحُ الله لا يحلو أبداً, فماذا تصنع في نفسٍ لو سالت لكانت بحيرة?

***

          بعض النساء تنقص بها الحزن, وبعضهنّ تغيّر بها الحزن, وبعضهن تتم بها حزنك.

***

          في قلب الرجل ألف باب, يدخل منها كلّ يومٍ ألف شيء, ولكنْ حين تدخل المرأة من أحدها لا ترضى إلا بأن تُغلقها كلها!

***

          النساء منجمُ السعادة, فرجل واحد لا يكاد يمدّ يده حتى يضعها على الجوهرة المشرقة, ومائة رجل يغربلون حصى المرأة وترابها ليجدوا فيها شذْرةَ تلمع!

***

          كم من امرأة جميلة تراها أصفى من السماء, ثم تثور يوماً فلا تدل ثورتها على شيء إلا كما يدل المستنقع على أن الوحل في قاعه, فأغْضِب المرأة تعرفها!

***

          الحبيب من تلتهمه بكلّ حواسك, فإذا رأيته فقد رأيته وسمعْته وذقته ولمسْته وشممته, والبغيض من تقيئه من كل حواسك.

***

          في المرأة حقيقة, ولكنها لن تعرفها إلا بفكر رجل, فالكاملة من لا تسيء أحدا, وإلا أساءت إلى حقيقتها!

***

          تجاورت شجرة من الحسك (أي الشوك) وشجرة من الورد, فزهت الورة زهواً عاطرا بطبيعة العطر الذي في مادتها. فقالت لها الحسكة: ويحك! ما هذا الزهو الذي أفسدت به محلك من نفسي? قالت الوردة في كلام هو عطر آخر: لا تتعبي نفسك في تحقيري, فلست أفهم لغة الشوك إلا إذا كان يُنبت الورد!

***

يا من على الحب ينسانا ونذكرهُ

لسوف تذكرنا يوماً وننْساكا

إن الظلام الذي يجلوك يا قمر

له صباح متى تُدركُهُ أخفاكا)



***

          في موضع آخر من كتابه (السحاب الأحمر) يُطلعنا الرافعي على نموذج كاشف ومُعبّر, عن أسلوبه الأدبي في هذا اللون من كتاباته. صياغة متأنقة, ومفردات تشي باتكائه على موروث اللغة وحديثها في آن, وسيطرة كاملة على أدواته, ووجدان يعتصم بالكبرياء وهو يسترُ نزفه الداخلي وأنينه الخافت خشية افتضاح أمره!

          يقول الرافعي وهو يتحدث عن صاحبة أجنبية لأحد أصدقائه: (أما صاحبته فامرأة فرنسية, جميلة الوجه في طلعة الصبح, شابة الجسم شباب الضحى, ملتهبة الأنوثة كشعاع الظهيرة, رقيقة الطبع رقة الأصيل, زاهية المنظر في مثل شفق المغرب من تأنقها, ثم هي تنتهي من كل ذلك إلى مخبرٍ أشد ظلمة من سواد الليل.. ومن أين اعتبرتها ألفيتها رذيلة مهذبة يترقرق فيها ماء العلم ويجول في حسنها شعاع الفلسفة, كأنها عين فاتنة تدور فيها دمعة دلال!

          ولم أكد أراها حتى أخذني جمالها, فإن لها عينين ركّبتا تركيبا يجر المصائب على القلب, تلقيان أشعة ضاحكة أو عابسة, يُخلّقُ منها للقلوب حوادث وتواريخ, وترمي بنظرات تُبرئ الصدور أو تُمرضها, وتبسم بوجهها كلّه نوعا من الابتسام يكاد يسيل من كل ناحية في وجهها قبلات, أما افترار شفتيها فهو جمال على حدة, يشبه نقل معاني الخمر من فمٍ إلى فم.

          امرأة ساحرة, لا أدري إن كانت بُنيت على السحر أو على الحب, ولا إن كان هذا الحب قد خُلق لعنة عليها, أم هي خُلقت لعنة عليه, والحبُّ دائما بركة امرأة, ولعنة امرأة! والتي تزرعه في كل مكان هي التي لا تحصد منه شيئا, فإن نالها شيء منه كان تعباً عليها روْحاً لسواها.

          وأشد ما في هذه المرأة الجميلة من الفتنة, اجتماع شهواتها في صوتها النديّ المُستطرب المتحزّن, الذي لا يخلو أبداً من حرفٍ تسمع فيه همس قبلة من قبلاتها!

          بيد أني مع كل ذلك استعصمتُ بفلسفتي وحكمتي, فلم أرها إلا في مثل حريرة التفاحة? إذا أفرط عليها النضج فابيضّت واحمرّت وفاحت ولمعت وإنّ العفنَ لَبادٍ من تحتها يُحذّر منها ويُنذر, وفي مثل فروة الدبّ: استرسلت ولانت في نعومتها ولكن لا منفعة منها إلا بقتل لابسها وإزهاق الحيوان كله في سبيل الجمال الظاهر من جلده.

          ونظرت إليها نظرة تخطّت بها الشباب وأيامه, فإذا هي بائسة أملق الدهر حُسنها وكان ذهبا على جسمها وفضة, وإذا هي عجوز هالكة قد انحنت تحت لعنات ماضيها وتركتها دنياها كالسجن المتهدم, لا يُذكّر مع انتقاضه إلا بلصوصه ومجرميه وعقابهم وآثامهم, وتشقى بمعانيه بعد الخراب حتى حجارته وحتى ترابه!

          وأبصرتُ في هذه الحسناء اللّعوب التي تستوقدها الضحكة بعد الضحكة, تلك الهامدة المريضة التي تُطفئها الحسرة بعد الحسرة, وسقطت الشجرة الخضراءُ النامية فإذا في مكانها جذْع خشبي مُلْقى زهيد فيه نور السماء وطين الأرض معا!

          وتمثلت لي هذه المتكئة على طرازها وأرائكها, تتبرج في سندسها وحريرها, فرأيتها ممدودة في حفرتها مُسجاة بأكفانها, قد هيل عليها ترابها ولم يرحمها راحم ولا النسيان يستر رذائلها عند من عرفوها, وقد اجتمع عليها بعد عشاقها من دود الناس عشاق آخرون من دود الأرض, ويفنى جسمها حين يفنى, ويبقى ضميرُها الروحي إلى الأبد ضمير مومس!

          فلما وضعتُ أمرها على ما خُيّل إليّ من عاقبتها, إذا هي تفور كما يفور النبع القذر بالحمأة التي فيه, وإذا هي كالخشبة المتقدة في حريقها: من فوقها ظُلَلٌ من النار ومن تحتها ظلل, وإذا جمالها قد استحال في عينيّ وانفصل منها فأظهرها وظهر معها في بريق الزجاجة من الخمر بجانب السكّير المتحطم, تتساقط نفسه مرضا وسكرا, فكل ما كان فيها جمالا فهو فيه أقبح القبح!

          ورثيت لها أشدّ رثاء وأبلغه في الرحمة والرقة, حتى عادت نظراتها تقطر على نفسي دموعا سخينة كدموع الذلّ! ويا حرّة قلبي من الإشفاق عليها وأنا أرى في احمرار جمْرتها سواد فحمها, وفي أسباب سرورها أسباب همّها, ويا لهفي عليها إذ أرى هذه الجميلة التي لم تنظر أكثر ما نظرت إلا إلى خطيئة, ترفع نظرها أحيانا إلى السماء بقوة, في داخلها, كأنها تقول لمن يفهم عنها: إنْ هنا القدَر وهناك المُقدّر!

          ويا بؤسها حين لم تعد تظهر في روحي إلا كما يتخايل ظل القمر في الماء: أنظرُ فيه الصورة من غير معنى, والضوء من غير قبس, وأرى فيه الخيال وليس فيه القمر!).

***

          وأخيرا, يقول الرافعي:

          (لا يصحّ الحب إلا بين اثنينْ إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا.. ومن هذه الناحية كان البغضُ بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة, إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة, وأكبر خصيمين في عالم النفْس, مُتحابّان, تبَاغَضا)

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات