إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي
        

هواء الحريّة في الشانزيليزيه

           تحدد أن يكون اللقاء مع الصديق القادم من أحد الأقطار العربيّة في مقهى (فوكتس) بالشانزيليزيه في يوم من أيام الخريف الباريسي, ولما وصل سألني مازحا: لماذا اخترت هذا المقهى الأرستقراطي, وفي حي البورجوازيّة الليبراليّة, وأنت الذي عرفتك منذ أربعين سنة مناضلا من أجل التقدّم, وفي سبيل العدل السياسي والاجتماعي, فهل أردت بذلك أن تعلن انهزامنا, وانهزام من هو شبيه بنا في الوطن العربي أمام الليبرالية بوجهيها القديم والجديد?

           قلت له: أنت تعرف جيدا جشع الليبرالية وعيوبها, وتعرف مقولتها الشهيرة (رأس المال قبل كل شيء, قبل المبادئ والقيم), وفرضت في زمن العولمة أصوليّة السوق, وتحالفت في مجتمعاتنا مع السماسرة على حساب مصلحة الشعوب, ولكن لا بدّ أن نعترف أنها انتصرت لأنها لم تتنكّر لقيمتين أساسيتين من قيم نشأتها, وهي إيمانها بالحريات العامة والديمقراطية, باعتبارهما مدخلين ضروريين للتداول على السلطة, وقد برهنت تجارب القرن العشرين في المجتمعات المتطورة والنامية معا على أن التقدّم الحقيقي لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في مناخ الحريات.

           قال صاحبي: لنعد إلى مشاكل بلداننا العربية, وقد تحوّلت إلى نوائب, فما هي في رأيك أسباب ما وصلنا إليه من تدهور وتردّ?

           قلت: سامحك الله فقد أبيت إلا أن تنغّص علينا جلستنا هذه بالعودة إلى الحديث عن سوء السياسة العربية. سأذكّر بمسائل تدركها جيدا: حلم كثير من رواد النهضة العربية قبل أكثر من قرن ببعث الدولة المدنيّة القائمة على مؤسسات دستورية, وسقط آلاف الشهداء في معارك حركات التحرر العربي من أجل بناء دول وطنية مستقلة تحقق الحلم القديم في الحرية والعدالة الاجتماعية, وكانت النتيجة بعد قرن كما ترى: سقوط الدولة الوطنية, مزيد من البلقنة والتشتت, مزيد من التبعية, غياب الحريات العامة, واستشراء موجة القمع, وإذا أردت أن تتعمّق في معرفة الأسباب فأنصحك بقراءة كتاب صدر هنا بالفرنسية قبل أسابيع قليلة عن العالم العربي عنوانه (قرن دون طائل), وخلاصته أن القرن العشرين قد ولّى, ولم يحقق الوطن العربي التقدم الذي حلم به الرواد, بل ازدادت الأوضاع سوءاً عما كانت عليه قبل أربعة عقود.

           قال صاحبي: عفوا, إن نغّصت عليك جلستك في هذا المكان الجميل, واسمح لي - وأنت من عشاق السياسة - أن ألعن فعل (ساس يسوس) وما اشتق منه.

           إني جئت إلى هذه المدينة العجيبة لأستنشق نسائم الحرية المقموعة في وطني.

           قلت له: الحمد لله فقد عاد إليك رشدك, شفاك الله من داء السياسة, وتنفّس يا صاحبي ملء رئتيك هواء الحريّة, وتزوّد منه قبل عودتك إلى الثكنة الشاسعة: وطنك. ودعنا من الحاضر العربي المأزوم, ولنعد إلى التراث لأروي لك القصة التالية: نقل لنا أحد رواد حركة التنوير العربي الشيخ أحمد بن أبي الضياف حوارا دار بينه وبين سيده - حاكم تونس يومئذ - أحمد باي وهما يتنزهان عام 1846 في شارع الشانزيليزيه بباريس, قائلا: إن أحمد باي يتذكر تونس, وعادات أهلها وأماكنها عند مشاهدة كل عجيب في فرنسا, وذات يوم قال لي (ما أشوقني للدخول من باب عليوة (أحد أبواب مدينة تونس), وأشتم رائحة الزيت من حانوت الفطايري داخله, فقلت له مداعبا, وأنا أتنفس في هواء الحرية, وأرد من مائها, وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك إن دخلت من هذا الباب أن تفعل ما تشاء, أما الآن فأنت رجل من الناس, فقال لي: لا سامحك الله, لم لا تحملني على حبّ الوطن لذاته, وعلى أي حالاته? فقلت له: إن هذا البلد ينسي الوطن والأهل كما قال الشاعر:

(ولا عيب فيهم غيرأن نزيلهم

يعاب بنسيان الأحبة والأهل)



           فقد تجاوز الشعور بالحرية, والأمان من الظلم لدى هذا الشيخ الزيتوني المعمّم, وهو يتجول في باريس قبل ما يربو عن قرن ونصف القرن حدود الوطن, وما ارتبط به من هوية منغلقة, متمنيا أن تمتزج الأنا بهوية الآخر ليتنفس هواء الحرية في وطنه.

           قال صاحبي: عجيب أمر هذا الوطن العربي, فما أشبه فيه الليلة بالبارحة.

 

الحبيب الجنحاني