- كتاب الطفل يجب أن ينفتح على العالم بعيداً عن الاستلاب وأن يؤمن
بالقيم الإنسانية للسلام بعيداً عن قيم الخضوع والاستسلام
- الكتاب المدرسي أصبح عبئا على عقل الطفل وليس وسيلة لتنمية هذا
العقل
منذ شهور قليلة جاءتني الدعوة من القاهرة, ولبيتها
بسرور لأكثر من سبب, فمصر, والقاهرة قلبها, لها مكانة خاصة لدي كحقل إنساني وثقافي
خصيب, تفتحت فيه سنوات الشباب والدراسة, ومصر في الشتاء حديقة دفء مناخي وإبداعي
يعرفه كل من توثقت صلته بها, ثم إن الدعوة كانت تتعلق بزاوية ثقافية وعلمية
ونهضوية, أرى أنها من أبرز وأخطر زوايا الثقافة وأهمها استشرافا وتأهبا
للمستقبل.
كانت الدعوة لحضور الاجتماع الثاني لتأسيس (المجلس
العربي لكتب الأطفال والنشء) الذي دعت له وترأسته السيدة سوزان مبارك حرم رئيس
جمهورية مصر العربية, وهو المجلس الذي تشرفت بأن أكون أحد المشاركين في تأسيسه مع
عدد من الشخصيات العربية الفاعلة والمهتمة بثقافة الأطفال العرب وبناء
مستقبلهم.
ودون التوغل في تفاصيل هذا المشروع الحضاري العروبي
الكبير الوليد, والذي أراه استثماراً أكيداً في اتجاه المستقبل, يعن لي أن أردّ على
سؤال افتراضي قد يراود بعضنا وهو: (هل لكتب الأطفال مثل هذه الأهمية في زمن تتدفق
فيه على أطفالنا سيول من الأفلام شديدة الجاذبية والإثارة, تعرض عبر الشاشات
الصغيرة والكبيرة, إضافة لبرامج الألعاب الإلكترونية التي يدمن عليها ملايين
الأطفال على كوكب أرضنا, ناهيك عن مغامرات الإبحار عبر شبكة الإنترنت?).
سؤال يبدو منطقي الطرح, لكن الأكثر منطقية أن نعود
بالأمور إلى أصولها, فنجد أن كل هذه الوسائل المرئية والمسموعة والرقمية في معظم
الأحوال, وبغض النظر مؤقتا عن اتفاقنا أو اختلافنا معها, هي في الأساس تنفيذ لأفكار
مكتوبة على ورق, والكثير منها تجسيد لمواضيع عالجتها كتب, فالمسألة في أصلها
وجذورها كتابة, ولا شيء غير الكتابة.
من هذا المنطلق, أجدني مدفوعاً لمناقشة ثقافة الطفل
العربي منطلقا من محور الكتابة, وأتلمس هذا المحور عبر استعراض بعض مما حدث ويحدث
في حقل ثقافة طفلنا العربي في عالمنا الواسع, الذي يخضع الآن لمتغيرات صاعقة في
سرعتها نكاد لا نوفيها حقها بمجرد التغطية والمتابعة.
أمام ذلك كله, باتت الكلمة المطبوعة في سباق مع زمن
مرئي خاطف, وأصبح الكتاب في امتحان لا تكاد تقرأ أسئلته من فرط سرعتها, وبدت مهمة
أصحاب القلم أصعب من ذي قبل إذا أرادوا وصف الواقع في تغيره أو تسجيل الحياة في
تبدلها.
حتى أن كُتاب الخيال العلمي لم يعد بإمكانهم أن
يقدموا خيالاً جديداً بعد أن أفرط خيال العلم في غيِّه, وألقى سحرته عصي حمى
الاستنساخ وهندسة المورثات أمام شاشات التلفزيون, وعلى بوابات الإنترنت.
وإذا كان ذلك كله يمثل مسعى العلم نحو المستقبل, نجد
أن المرادف الإنساني الوحيد للغد هو أبناؤنا, الذين نضعهم على محك التلقي, بين كتب
المدرسة, وبرامج التلفزيون, وصفحات الإنترنت, وجماعات الأقران. ونحن نترك الأبناء
في مواجهة ذلك دون أن ندرك حجم وأهمية وخطورة الدور الذي يمكن أن نلعبه إذا ما
منحناهم كتبا تعليمية وتثقيفية مميزة, وبرامج ومواد تلفزيونية متميزة ومواقع
وبوابات إلكترونية تمهد لهم السبيل لتقبل هذا الواقع المتسارع, مثلما تيسر لهم
التفاعل معه.
والواقع أننا أهملنا الكتاب المدرسي حتى أصبح عبئا
على عقل الطفل وليس وسيلة لتنمية هذا العقل. وبعد انتهاء عصر التعليم بالأمر والضرب
والحفظ والتلقين, لا تزال كتبنا المدرسية شهودا على هذه القيم البالية تستحث في
الطفل ملكة الاستظهار على حساب ملكات الإدراك, وتعامله بقيم الكم المعلوماتي على
حساب الكيف المهاري, رغم أن نظريات العلوم والتربية تؤكد أن هذه السن المبكرة لها
قدرات استثنائية على تعلم المواد واللغات وممارسة المهارات اليدوية والذهنية واللعب
مع حواس الخيال والابتكار.
فالكتاب المدرسي - على الأغلب الأعم - يحتفظ بشكله
الرديء, ومضمونه البالي, لا تغيره العهود المتبدلة, أو التقنيات الجديدة, بين حروف
ينقصها التشكيل اللغوي, وسطور تفتقر إلى التشكيل الجمالي, الذي يقوم ملكات التذوق
الغائبة عن مملكة الكتب المدرسية. والحقيقة أننا نقدم للطفل صفحات يعوزها الحس
النقدي في المعلومة, وهو المنفتح على عوالم أخرى تكشف له مدى صدق هذه المعلومات أو
زيفها.
وقد يصح ذلك إذا كنا نريد للطفل أن يكره الكتاب
المدرسي, أو يكره عالم المدرسة, ولكننا - يقينا - نريد غير ذلك. نحن نريد لكتاب
الطفل في المدرسة أن يصبح صديقا حقيقيا, يلفت نظره, ويضيء عالمه, ويحقق حلمه. وإذا
كنا في العالم العربي نمتلك رسامي أطفال نعدهم علامات في الفن المعاصر, فأين
أعمالهم على أغلفة هذه الكتب وبين صفحاتها? وإذا كنا نملك خبراء في التربية وتقويم
المناهج فأين نظرياتهم بين سطور هذه الكتب التي تطبع بمئات الملايين كل عام على
امتداد خريطة وطننا العربي ويندر أن يحتفظ بها طفل واحد بعد نهاية السنة
الدراسية?
إنها المأساة الأكبر في تاريخ التعليم, إذ نهمل أخطر
وسيلة نخاطب بها الأطفال تظل معهم نحو العام دون أن تؤثر فيهم ليوم واحد!
ولا يقتصر الأمر على رسامي العصر وحدهم, فكتب
التاريخ في مدارسنا - على سبيل المثال - لا تستعين معلوماتها بالمخطوطات التراثية
الجميلة, ولا تصاحب نصوصها صور العمارة الإسلامية البديعة, بل وتختصر التاريخ
المجيد للأمة إلى فقرات جافة مدججة بسلاح الأرقام والأعوام, على الطفل استظهارها
حتى يصبها خارج ذاكرته يوم الامتحان, مثلما يضع الكتاب في سلة المهملات. ونسأل كيف
يتمسك طفلنا بتاريخ أمته دون أن يدرك عظمته? وكيف يدافع عن هذا التاريخ دون أن يرى
قرائنه?
ويدرك من قرأ كتب التاريخ الذي يدرس في الصفوف
التعليمية الأولى في بريطانيا, أن تاريخ الحضارة المصرية جزء مهم من المناهج, خلال
فترته الزمنية, لأنه يمثل قمة التجلي في العالم القديم, ولا يكتفون بسرد تاريخ
أسراته وملوكه, بل ويقدمون للدارسين الصغار جزءا من الحكايات التي سجلها المصريون
القدماء. إنهم يريدون لأبنائهم التعرف إلى العالم حولهم, لأنهم جزء من هذا العالم,
والمعرفة هي القوة التي ستبني غدهم.
على كتاب الطفل العربي أن يمثل هويته ومنجزه
الحضاري, بعيدا عن التعصب, وأن ينفتح على العالم بعيدا عن الاستلاب, وأن يؤمن
بالقيم الإنسانية النبيلة للسلام والأمن بعيدا عن قيم الخضوع والاستسلام, وأن يقدم
المجود والجديد في الشكل والمضمون. ولن يتأتى ذلك كله دون تشجيع القائمين على صناعة
الكتاب, من الرسام إلى الكاتب, ومن الشاعر إلى الناشر, لتكتمل منظومة الإتقان في
صناعة هي في أمس الحاجة إليه.
وإذا أخذنا مثالا على التطوير الذي يتحقق, لكنه
يفتقر إلى بصيرة المستقبل, نجده في تدريس اللغة الإنجليزية. فرغم أن الحرص على تعلم
لغة أخرى, بل وأكثر من لغة, غير لغتنا العربية, يعد خطوة مهمة لفهم الآخر في
المستقبل, وتيسير التعامل معه, إلا أن المناهج الإنجليزية المقررة على مدارسنا
تكتفي بأخذ منهج جاهز معد سلفا لمجتمع غير مجتمعنا, وبيئة غير بيئتنا.
إن ذلك - دون شك - يضع المتعلم الصغير في مأزق
الانفصام بين ما يدرسه في الكتاب وما يراه في المجتمع, وهو انفصام يؤدي به إما إلى
معاداة اللغة الجديدة, أو معاداة المجتمع, أو التوتر المرضي بين القبول والرفض,
المتأرجح بين ما يقرأه وما يعيشه.
وما قلناه في الكتاب يصدق على ما يقدم في التلفزيون.
فالمادة التلفزيونية - على تنوّعها - يندر أن تخطط لهذا المستقبل, إذ تتنافس برامج
الأطفال في تشجيع اللهجات المحلية, وترسيخ اللغات العامية. إن الاستغراق في
الخصوصية الوطنية يجب ألا ينفي رابطة اللغة العربية بين أبناء هذا الوطن. وهكذا
يعيش المتلقي الصغير مشتتا بين لهجات غير مفهومة في أحيان كثيرة, وعوضا عن البحث
عما يجمع أبناءنا أمام شاشاتنا نجعلهم في حيرة يتساءلون عمّا يجمع بين البرامج
العربية.
إن العالم كله يعيش مرحلة صراع القوى الثقافية التي
تحاول سرقة غد الأمم. وهي محاولات لا تتوخى التكتم, ولا تتستر بالسرية, ولا تتخفّى
بحجب المخابرات, لكنها حرب ثقافية معلنة, تغشى البصر عبر قنوات المشاهدة, وتعمي
البصيرة بواسطة قنوات الإعلام. فالسماء بحر مفتوح, وعندما نمد شباكنا لا نصطاد غير
ما يلقى إلى هذا البحر. وإذا لم نملك مظلتنا الثقافية القوية أغرقتنا شلالات هادرة
من المواد الساقطة علينا من كل صوب وحدب. إنها حرب الثقافات العابرة للفضاء,
والساكنة في الفضائيات.
وإذا كنا نحكي عن أهمية الكتاب, فكيف الأمر مع
التلفزيون الذي همش دور الآباء في المنزل, والمدرسين في المدرسة, والأقران في
الشارع. طفلنا الآن أبطاله - على الشاشة - هم الأبطال الأجانب وحدهم: قوى طاغية
تحيي ثقافة العنف, وقيم عنصرية تؤسس لثقافة تفوق الآخر. وهكذا يعيش جل وقته مستلبا
لهذه الثقافات الغريبة دون أن نصحح هذا الوضع أو نحاول. وكيف يحاول طفلنا أن يفعل
ما لم نفعله نحن, وكيف ينمّي حسّه النقدي من غير أن نؤسس نحن فيه الذهنية المتشككة
التي تبحث عبر الأسئلة المفتوحة عن العالم?
وأتساءل مَنْ من الآباء أهدى أطفاله كتبا في
المناسبات السعيدة عوضا عن الألعاب التي أغرقت الأسواق بثقافاتها العدوانية? ومن
منهم شجعهم على الذهاب إلى المكتبات العامة? وكم منهم صحب أطفاله إلى الكتب
المفتوحة في ربوع الوطن, وأعني بها المتاحف التي تسجل تاريخ الوطن, والآثار التي
تقص سيرة أبنائه, والحدائق والغابات التي تتغنى بجماله? وكم من المدارس صحبت
التلاميذ إلى المصانع والحقول والأندية الرياضية? والإجابة قد تكون مثيرة للحزن
والشفقة, بل والغضب أيضاً!
وأذكر تجربة ألمانية حيّة تخلق فيها التواصل بين
الطفل والأديب الذي يأتي ليقرأ عليهم قصصه وأشعاره, مرتين أسبوعيا, لمدة ساعة أو
ساعتين. بل ويحدث أن تتوزع أدوار الحكاية بين الأطفال, ليحيا الكتاب في الذاكرة,
فكتاب الطفل هو أحدى المساهمات لكتابة مستقبلنا.
إن الأمم (الكبيرة) صاحبة الثقافات (القوية) تخطط
لنشر ثقافاتها, وترصد كل ما لديها لتحقيق أحلام الانتشار والتوسع والهيمنة. فتعميم
الثقافة يعني بالنسبة لها أن توسع حدودها التجارية, ومصالحها الاقتصادية, مما يهدد
وجود الأمم المنافسة, الوجود الحضاري, الذي لا يتكئ اليوم على الوسائل التي تضمن له
التحقق والوجود, ولا نقول المقاومة والمنافسة.
إن دولة - كانت إمبراطورية - مثل المملكة المتحدة,
قد لا تجد اليوم نفسها على خريطة القوى في المرتبة الأعظم, لكنها تحاول من خلال
اللغة أن تستعيد مكانها ضمن الثقافة العالمية. فلا تكاد تكون هناك مؤسسة علمية
واحدة تدرس المسرح, دون أن يكون الحضور الشكسبيري طاغيا, ولا تكاد تكون هناك مؤسسة
معنية باللغة دون أن تكون الإنجليزية ضمن مناهجها. ألا يعني ذلك دعما للصناعة
والتجارة والاقتصاد بصفة عامة?
في إحدى محطات (بي بي سي) التلفزيونية بدأت حملة
كبيرة, وصاحبها دعم من الملاحق الإنجليزية الأدبية المتخصصة, والمجلات الثقافية
العامة, حملة لإحياء الشعر, باعتباره فنا وطنيا! أحس البريطانيون أن الشعر في خطر,
الشعر بكل ما يرمز إليه من لغة وثقافة وتاريخ وحياة يومية, فجنّدوا ناشرين ومنتجين
وممثلين في سلسلة بدأت ولن تنتهي لإحياء هذا الفن, فماذا سنفعل نحن, والشعر ديوان
العرب?
ولنا أن نتذكر كيف ساعدت السينما الأمريكية في
انتشار اللهجة الأمريكية للغة الإنجليزية في كل أنحاء العالم. لقد أدرك القائمون
على صناعة السينما أن اللغة الإنجليزية ملك لبريطانيا, وأن عليهم أن يجدوا
(إنجليزيتهم) الخاصة, ولم يكن الهدف ثقافيا خالصا وحسب, بل كان هدفا تجاريا
واقتصاديا أيضا, ومرت العقود لتصبح إنجليزية السينما الأمريكية هي الشائعة بفضل دعم
لانهائي, جعل من العالم كله سوقا لهذه السينما.
هكذا تطرقت بنا شجون الحديث من الكتاب إلى السينما,
ولكنها في واقع الأمر منظومة واحدة. وإن كانت هناك بوادر أمل فيما يشهده الوطن
العربي من حركة إيجابية, وقد عدت من مصر بعد مشاركتي في مهمة تكوين أول مجلس عربي
لكتب الأطفال والنشء من أجل تحقيق النهضة المرجوّة في كتب ودوريات وبرمجيات الطفل
والنشء العربي ووضع آلية متطورة لعمل عربي للنهوض بها وتخفيض تكلفة إصدارها, وتشجيع
التفكير العلمي والمنطقي والإبداعي والنقدي في جميع كتب الأطفال وسرعة دخول الطفل
العربي إلى مجتمع المعرفة والإنترنت. وهناك نية لإنشاء وإحياء كيانات أخرى لتطوير
التعليم ونشر الثقافة وتجديد التراث.
وقد نضيف إلى ذلك أهمية الندوات والمؤتمرات وورشات
العمل الخاصة بكتاب الطفل, وكان لنا شرف الإسهام في هذا الجهد عندما نظمت (العربي)
قبل عام ندوتها حول ثقافة الطفل. وكل ذلك صدى لفكرة واحدة, وهي: إذا كان الماضي
يصنعنا, فنحن نصنع الغد