هل يصبح العالم أمة واحدة?

   هل يصبح العالم أمة واحدة?
        

تأملات في العولمة

          ستبقى العولمة وإلى وقت ممتد مثيرة للأسئلة والأجوبة, وفي هذا المقال وقفة تأمل عميقة في بعض هذه الأسئلة.

          بدأت, منذ فترة, موجة جديدة من الكتابات تروج للعولمة باعتبارها الشكل الجديد لحياة البشر في ظل القطب الأمريكي. وهناك نمط من هذه الكتابات يروج للنمط الأمريكي متعدد الأعراق والثقافات بوصفه النمط الأمثل للحياة في القرية الكونية الجديدة التي قاربت وسائل الاتصالات والمواصلات ونظم المعلومات ووسائل الإعلام بين أجزائه المختلفة. ويبشر أصحاب هذه النظرة ببشر من نوع جديد, بشر كوزموبوليتان يتخطون الروابط الوطنية والقومية, ويتحللون من الانتماءات الثقافية المحلية, بل والدينية أيضا. ويشن هؤلاء حرباً شعواء ضد المجتمعات أحادية الثقافة والعرق ويزعمون, فيما يزعمون, أن المجتمعات ذات التجانس العرقي, والانسجام العنصري, والتوافق الثقافي, مهددة بخطر الجمود والثبات والتخلف. وفي سبيل الترويج لأفكارهم يعيدون تعريف الهوية الوطنية, وتحديد معاني مصطلحات اجتماعية - سياسية مثل الهجرة, والمهاجرين, والهوية, والتراث, والجذور. ويدعون إلى إعادة (اختراع) التاريخ, بحيث تتم إعادة صياغة (الأساطير) الوطنية, والموروث التاريخي بالشكل الذي يفسح المجال إلى تعدد انتماءات الأفراد والجماعات, وتعدد الولاءات بين أكثر من وطن وأكثر من ثقافة.

جذور وأجنحة

          والهدف الذي يزعم هؤلاء أنهم يريدون الوصول إليه هو تحقيق مجتمع هجين مختلط الأعراق والعناصر بحيث لا تكون هناك جذور محلية (وطنية أو دينية أو لغوية) تربط الإنسان إلى وطن بعينه, أو أمة محددة, أو بلاد واحدة. وفي زعمهم أن هذا يؤدي في النهاية إلى خلق إنسان له (جذور وأجنحة), بمعنى أن المواطن الصيني, مثلا, الذي يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية يمكنه أن يحتفظ بجذوره التي ورثها عن وطنه الأم: لغة وثقافة وديناً, ويمكنه في الوقت نفسه أن يطير بأجنحته بعيداً عن هذه الجذور ليلتحق بمجتمعه الجديد: لغة وثقافة ودينا أيضا.

          وقد تبدو هذه دعوة إلى وحدة الإنسانية وذوبانها في بوتقة واحدة, وهي دعوة إلى اندماج البشرية في أمة واحدة في التحليل الأخير. ولو أن هذه الدعوة قائمة على أساس من أخوة بني البشر, والمساواة المطلقة فيما بينهم, لكانت خيراً, ولكنها دعوة موجهة بشكل أساسي لتمكين الرأسمالية العالمية على أن تنشب أنيابها فيما تبقى من الكيان العالمي لامتصاص دماء المناطق الفقيرة ونزف عقولها ومواهبها لصالح العالم الرأسمالي بشكل عام, والولايات المتحدة وشركاتها العملاقة بشكل خاص.

          إذ إن هذه الدعوة تنطلق من انحياز رئيس يرى أن الفردية على الطريقة الغربية والأمريكية يجب أن تكون عماد البشرية, وتقوم على أساس فتح باب الهجرة أمام الموهوبين من جميع أنحاء العالم للاستفادة منهم في إحياء القدرة التنافسية في السوق العالمية, ولا تلقي بالاً أمام الشعوب الفقيرة التي تحتاج إلى مواهب وقدرات المتعلمين والخبراء من أبنائها. ويروج هؤلاء لتجربة وادي السيليكون في الولايات المتحدة الأمريكية, الذي يرون فيه نموذجاً لتجمع المواهب العلمية والخبراء من شتى أنحاء العالم لتطوير الأبحاث وتطبيقاتها التكنولوجية. والتجربة جميلة, ولكن يبقى السؤال: لصالح من?! ومن ناحية أخرى, فإن الانحيازات الغربية المعتادة هي التي تحرك هذه الدعوة باعتبارها في صالح المجتمعات الغربية, ولكنها لا تتحدث أبداً عن مصالح المجتمعات الأخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.

          إن الهجرة إلى المجتمعات الغنية, من البلاد الفقيرة, تحل المشكلات الفردية لأولئك المهاجرين حقا, ولكنها تفاقم مشكلات المجتمعات التي خرج منها المهاجرون. ولو أن الدعوة إلى صياغة عالم واحد قائمة على أساس من أخوة البشرية والمساواة فيما بينهم لاهتم هؤلاء المروجون للعولمة باستقطاع جزء مهم من أموال الدولة الغنية لتنمية حقيقية في المجتمعات الفقيرة, وخلق فرص عمل يمكن أن يقبل عليها المهاجرون من الدول الغنية. ولكن ما يحدث هو نوع من تكسير الحواجز, وتمهيد الأرض أمام الشركات متعددة الجنسيات, والعابرة للقارات, لكي تحد استثماراتها في بلاد جديدة وبشكل يجعلها باستمرار موردا للعمالة الرخيصة, والطاقة الرخيصة, والمواهب والخبرات الجاهزة, وبحيث تظل هذه البلاد على الدوام سوقا مباحا لكل ما تنتجه الرأسمالية العالمية: من المواد الاستهلاكية حتى الهروب.

اختراع التراث

          إن دعاوى العولمة بدأت تطرق أبواب الذات الفردية, أي أن هناك محاولة دءوب لعولمة الذات. فيجب - في ملة هؤلاء واعتقادهم - ألا تكون هناك ذات ثقافية, أو هوية وطنية, بل ويجب أيضا ألا تكون هناك ذات فردية. إذ إن أولئك الداعين إلى التهجين والاختلاط العريق يدعون أيضا إلى التهجين والاختلاط الثقافي. وهم يبدون عجبهم - وأسفهم أيضا - لأن هناك عدة صراعات في العالم بين أولئك الذين يريدون الحفاظ على أرضهم وذاتهم الوطنية من ناحية, وأولئك الذين اغتصبوا هذه الأرض واعتدوا على الذات الوطنية من ناحية أخرى. وهم يقدمون وصفة عجيبة: يجب إعادة (اختراع) الذات - كيف? من خلال إعادة صياغة التاريخ بالشكل الذي يجعل الشعوب, والأفراد, تنسى كل ما يدفعها إلى التمسك بهويتها القديمة. بل إنهم يذهبون إلى حد القول إن التراث شيء تم اختراعه من قبل, ولذلك يمكن إعادة اختراعه!!!

          أما التمسك بالثقافة والهوية واللغة والدين, فهو تخلف وجمود وتحجر. ويقول هؤلاء المروجون لعولمة الذات إن تناسي ما حدث في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة, وإسقاط الأحداث والأسماء والمناسبات التي تذكر الجنوبيين بما فعله الشماليون بهم, هو الذي أدى إلى تماسك الولايات المتحدة وتقدمها. وهذه لعمري مغالطة كبرى, فالحرب الأهلية كانت جزءا من مخاض الميلاد الأمريكي طويل المدى من ناحية, كما كانت حرباً بين فريقين في وطن واحد: كل منهم يحاول فرض الأسلوب الذي ألفه في حياته على الآخر من ناحية أخرى. كذلك, كانت المصالح الاقتصادية للشمال الصناعي وراء ما زعموا أنه حركة لتحرير العبيد (والحقيقة أن الآلات الميكانيكية الحديثة المستخدمة في الزراعة جعلت من العبيد عبئا اقتصاديا واجتماعيا لا داعي له من وجهة نظر الشماليين ولم يكن التطور الصناعي في الجنوب موازياً لما كان يحدث في الشمال). أما المشكلات الناشبة في فلسطين, وكشمير, وكوسوفو... وغيرها فأسبابها مختلفة تمام الاختلاف. ولا يمكن أن يمارس الفلسطينيون مثلا (ومعهم العرب والمسلمون) رفاهية نسيان بيت المقدس وعروبة الوطن وقداسة المقدسات الإسلامية والمسيحية, لكي يصبحوا جزءاً مندمجاً في الكل الذي يريدونه مسخاً تحت دعوى العولمة.

          ويبشرنا دعاة العولمة بأن المستقبل للهجين والمُخلَّط, بشرياً وثقافياً واقتصاديا.

          ويستشهدون على ذلك بأن الاقتصاد الأمريكي استعاد قدرته التنافسية, وهزم اليابان وألمانيا, اللتين شكلتا أكبر منافس له في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين, بسبب اعتماده على المواهب والخبراء من جميع أرجاء الدنيا - أي لأنه اقتصاد هجين مُخلَّط, على حين تراجع الاقتصاد الألماني والياباني لأنه - في زعمهم - اقتصاد أحادي يعتمد على أناس ذوي هوية وطنية واحدة وينتمون إلى ثقافة واحدة أيضا. ويتناسى هؤلاء أن الولايات المتحدة الأمريكية - بسبب نشأتها التاريخية وبسبب مواردها الهائلة وأعداد سكانها المحدودين نسبياً - كانت ولاتزال مجتمعاً من المهاجرين الذين يمثلون ثقافات متعددة, ويحملون هويات مختلفة تتعايش جنباً إلى جنب دونما اندماج حقيقي أو انصهار فعلي. إن الجماعات العرقية والثقافات المختلفة التي تعيش في الولايات المتحدة أشبه ما تكون بالشرائط الملونة التي تظهر على شاشة التلفزيون قبل الإرسال - فيها كل مكونات الصورة الملونة ولكنها ليست صورة. إذ إن مشكلات التفرقة العنصرية ميزت تاريخ الولايات المتحدة كله حتى الربع الأخير من القرن العشرين - فمن ذا الذي نسي التفرقة العنصرية ضد السود? كما أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كشفت عن أن النخبة الحاكمة لاتزال محكومة بنوازع التفرقة العنصرية, عندما جرى ما جري على الأمريكيين المسلمين والمنحدرين من أصول عربية.

عولمة الذات

          إن هذه الحقيقة تكشف عن تهافت دعوة العولمة على أساس قيادة الولايات المتحدة للعالم. فالولايات المتحدة تحتاج إلى أن ترسي نموذج التنوع والاختلاف وتعدد الثقافات على أسس المساواة والعدل قبل أن تزعم لنفسها حق قيادة العالم من منطق القوة الغاشمة.

          من ناحية أخرى, فإن هناك أسباباً طبيعية وإنسانية تحول دون عولمة الذات بالطريقة الأمريكية. إذ لا يمكن للإنسان أن يصبح راكباً دائما للطائرات التي تنقله من مطار إلى مطار دونما أن يدخل بلداً يعيش فيه ويحس بدفء التواصل مع أهله.

          فقد قال ابن خلدون قديما إن (الاجتماع الإنساني هو أصل العمران) - أي أن الإنسان جُبل على أن يعيش في جماعة حتى يمكنه أن يتعاون مع أفرادها لتسيير شئون حياته.

          ولنتأمل كم عدد البشر الذين يجب أن يتعاونوا سوياً لإنتاج رغيف الخبز - إنه عدد كبير بالفعل. وهكذا فإن التعاون المتبادل هو سنة الله في خلقه. ولا يتم التعاون, بكل جوانبه المادية والمعنوية والأخلاقية والفكرية, في ظل الفردية التي تتحلل من (أوهام الذات والهوية) على نحو ما يطلب دعاة العولمة. وإنما لا بد للإنسان أن ينتمي إلى جماعة ما (انظر إلى هوس المعجبين بفرق كرة القدم مثلاً). ولا بد لكل فرد أن يشعر أنه في حضن جماعة. ولهذا كانت القبيلة, ثم الوطن. كما كان الدين والعرق والثقافة. ولهذا كانت دائما هناك رغبة في الانتماء لدى الإنسان.

          هل يمكن لسكان العالم أن يصيروا أمة واحدة? هل يمكن أن يكون النموذج الهجين هو نموذج الإنسانية السائد في الزمن المقبل? هل يمكن أن يحمل كل فرد عدة ثقافات ومجموعة هويات في حقائب سفره ليخرج منها الثقافة المناسبة والهوية المطلوبة في المكان المناسب? هل يمكن, فعلا, أن تكون للإنسان (جذور) تربطه بجماعة ما, وتكون له في الوقت نفسه (أجنحة) تطير به بعيداً عن تلك الجذور حينما تكون هناك ضرورة براجماتية لهذا?

          هذه ليست أسئلة بقدر ما هي إجابات. إن دعاة العولمة ليسوا في حقيقة الأمر سوى دعاة لمسخ الذات البشرية لصالح القوى الكونية المتوحشة التي لا تريد الاكتفاء بالسيطرة على موارد البشر, ولكنها تطمح إلى (عولمة) ذواتهم - أي مسخها.

          ولا يمكن للعالم أن يصبح أمة واحدة, ولكنه يمكن أن يعيش كما يعيش سكان القرية الواحدة - على أساس من الاعتماد المتبادل, واحترام (الآخر), والاعتراف بأن الآخر المختلف ليس بالضرورة هو (الآخر العدو). ويمكن للعالم أن يخلق عالماً من التنوع والاختلاف المتعايش على أسس من المساواة والعدالة. ويمكن للعالم أن يطور أساليب التعاون والتقارب لخدمة الإنسانية جمعاء. ولكن يبقى السؤال مطروحا: هل يمكن للرأسمالية المتوحشة أن تحقق هذا?

          إن العالم يزداد اقترابا من بعضه البعض بالفعل بفضل وسائل المواصلات والاتصالات, ولكنه يزداد انقساماً وتباعدا بين الأغنياء والفقراء. والذين يتشدقون بتقارب العالم بفضل وسائل الاتصال والإعلام, ينسون أن النخب فقط هي التي تستفيد من هذا لأن الغالبية العظمى لاتزال على بدائيتها مع أنها تشاهد التلفزيون وتستخدم التلفون.

          ترى ما الذي استفاده الراعي البدوي في منغوليا وهو لايزال يعيش في خيامه المستديرة التي عرفها منذ أيام جنكيز خان? ومازال الفلاح المصري رهين ظروفه التعسة على الرغم من أنه عرف التلفزيون والتلفون المحمول - فماذا جنى من الثورة في عالم الاتصال والمعلومات? وأولئك البؤساء الذين يتقاتلون بلا هدف في إفريقيا - ماذا يمكن للعولمة أن تحقق لهم أكثر مما فعلت?

          ولاتزال التأملات في العولمة والأسئلة التي تثيرها تتوالى..

 

قاسم عبده قاسم   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات