المثقفون العرب... والتواصل بين الحضارات

  المثقفون العرب... والتواصل بين الحضارات
        

           يرى الكاتب أن العالم يعيش حضارة واحدة وثقافات عدة. وفي حين تنهل الحضارة مما سبقها من حضارات إنسانية, فإن الثقافات التي تلدها, أو تولد منها, هي الجديرة بالتواصل فيما بينها عوضا عن الصراع بين أصحابها.

           في العنوان كلمتان يختلف الباحثون في مفهومهما, هما (الحضارة) و(الثقافة): هل هما شيء واحد بلفظتين مترادفتين, أو هما شيئان متقاربان متداخلان, بينهما بعض الاختلاف, ولكنهما يشمل أحدهما الآخر في مجاله الأوسع, أو هما شيئان منفصلان متغايران لكل واحد منهما مجاله ومفهومه, وله أيضا حُكمه المختلف, إذ إن الحكم على الشيء فرع عن تصوّره?

           ويقتضي هذا الاختلاف أن يبدأ الباحث ببيان مفهومه لكل منهما, مع التسليم لغيره بأن يختلف معه في هذا الفهم, ومع علمه بوجود عشرات التعريفات لهاتين اللفظتين, التي يتقارب بعضها إلى حدّ التداخل, ويتباعد بعضها إلى حد التخالف. على أن يدور الحوار على أساس من مفهوم واحد لكل من هذين اللفظين, مهما يكن هذا المفهوم, إذ لا مُشاحّة في الاصطلاح, وإلا أصبحت لغة الخطاب والحوار كأنها لغات متعددة:

           فالحضارة - في هذه المقالة - هي هذا الجانب المادي من الحياة المتمثل في: المبتكرات والمخترعات والإنجازات والمستجدّات والمستحدثات والمصنوعات, التي نجمت عن تقدم البحث العلمي النظري وتطبيقاته العملية (التكنولوجية) من مثل: الطائرات, والقُطُر, والسيارات, والتلفزة الأرضية والفضائية, والكهربائيات والإلكترونيات المختلفة, ووسائل الاتصال ونظم المعلومات, وأثاث البيت ومتاعه, وآلات الراحة والرفاهية والاستمتاع والزينة والعلاج وأدواتها, وسوى ذلك مما نستفيد منه ونستعمله في حياتنا, ولا نكاد ندرك أنه تقدّم علمي مذهل وأن كل مفردة من تلك المفردات إنما هي إنجاز حضاري باهر.

           والحضارة - بهذا المعنى الواضح المحدَّد - هي حضارة واحدة, ليس لها ندٌّ يضارعها أو ينافسها. فليس من حضارة خلال القرون الثلاثة الأخيرة إلا هذه الحضارة التي نعيش الآن في ظلّها. وقد حاولت الأمم الأخرى اقتباسها أو تقليدها والاستفادة منها, فنجح بعضها لأنه اقتبس جوهرها وعرف سرّها فأصبح مُنتجا لها, ولكنه ظل يدور في فلكها, وأخفق آخرون لأنهم اكتفوا باستيراد مظاهرها ومنتوجاتها فاقتنعوا بنصيب المستهلكين المقلّدين.

           فحين عزمت اليابان على الأخذ بأسباب النهضة لم تجد أمامها إلا هذه الحضارة, فأوفدت إليها من أبنائها اليابانيين مَن يبحثون في أعماقها عن مكنوناتها. وحين عادوا وصلوا حبال بلادهم بحبالها. وحين أراد محمد علي أن ينهض بمصر وجّه وجهه شطر هذه الحضارة فأوفد إليها البعوث واستقدم منها المعلمين, وأنشأ على غرار ما فيها المدارس والمعاهد. ولكن الأمر لم ينته إلى ما انتهت إليه اليابان, ولكل من الحالتين من الأسباب ما لايزال يحتاج إلى درس واستبطان. وكذلك فعل قياصرة روسيا حين أرادوا أن يُدخلوا بلادهم في العصر الحديث ذهبوا إلى هذه الحضارة ليقتبسوا منها بعض أنوارها. وليس الاتحاد السوفييتي واشتراكيته بحضارة أخرى, ولم يكن الصراع بينه وبين أوربا الغربية والولايات المتحدة صراع حضارتين مختلفتين, بل هما حضارة واحدة ذات مذهبين اقتصاديين فكريين مختلفين, تصارعا على النفوذ والمصالح, وهذا حديث آخر ليس هنا مجاله.

وحدة الحضارة ووهم الصراع

           وبذلك لا يكون لمصطلح (صراع الحضارات) أيّ معنى, إذ ليس من حضارة أخرى قائمة تصطرع معها هذه الحضارة الحديثة. ولا يجوز أن يذهب الظن إلى أنها تصطرع مع حضارة تاريخية سابقة, غير قائمة الآن مثل الحضارة الإسلامية التي ينصبّ الكلام عليها وتكثر الكتابات عنها في هذا الصراع الذي أشار إليه صامويل هنتنجتون, وأجّجنا من ورائه أواره, ومع ذلك فإن الصراع قائم محتدم ولكن بمعنى آخر سنوضحه في ثنايا هذا المقال.

           وقد يكون لمصطلح (حوار الحضارات) شيء من المعنى إذا قُصد منه تأثر كل حضارة بالحضارة أو الحضارات السابقة لها, فهو معنى (عمودي) يضرب في الماضي, وليس شعاراً (أفقيا) يضطرب في الحاضر. وهذا التأثر بين الحاضر والماضي أمر مؤكد ثابت لا تكون الحضارة حضارة إلا به. لأنها لا تنبت من فراغ, وإنما هي حلقة من سلسلة متصلة: أخذت مما قبلها وبنت فوقه وزادت عليه, ثم جاءت الحلقة التالية من الحضارة فأخذت من الحلقة السابقة أحدث ما أنتجته وأضافت إليه. وقد تتداخل حلقتان, فيدخل آخر الحلقة السابقة في أول الحلقة اللاحقة, إلى أن تنقطع الحلقة الأولى بحكم ما يصيبها من ضعف وجمود.

           وكل ذلك يدلّ على أن الحضارة نتاجٌ تراكميٌّ شاركت فيه الحضارات السابقة, فهي إذن حضارة إنسانية عالمية, وإن اتّخذت أسماء مختلفة.

           وقد قامت الحضارة الحديثة على أساس وطيد من الحضارتين الإغريقية والإسلامية: من المنهج الفكري الحرّ عند سقراط وأفلاطون وأرسطو, وعند ابن رشد والفارابي والرازي وابن خلدون, وأضراب أولئك وهؤلاء. ومن أجل هذا لا يجوز لمسلم أن يُحس غربة عن هذه الحضارة الحديثة - التي هي حضارة عالمية شاركت فيها حضارته وكان لأسلافه نصيب فيها, ولا أن يتردد في الأخذ بها, بالمعنى الذي وضّحته قبل قليل للحضارة, وبالمعنى الذي سيأتي بيانه.

صراع الثقافات

           ولكن هذا التوضيح لمعنى الحضارة لايزال محتاجا إلى مزيد من الشرح والبيان بتوضيح مفهوم مصطلح آخر هو (الثقافة) وهو الجانب الآخر من الحياة الإنسانية, الجانب الروحي المعنوي القائم على العقيدة وعلى التراث الفكري واللغوي والأدبي والفني, وما ينجم عن كل ذلك من ثوابت ورواسب ونوازع ودوافع وروادع نفسانية وأخلاقية وسلوكية في العادات والتقاليد ونمط الحياة لدى الفرد ولدى الأمة بمجموعها, وهو ما يبني ما يسمّى بـ(الهوية) أو(الشخصية) لتلك الأمّة فيميزها عن غيرها من الأمم, وينتج عن ذلك التمايز الاختلاف بين الثقافات المتباينة في العصر الواحد وفي تراث الثقافات السابقة. وهو اختلاف قد ينشأ عنه (الحوار) بين أهل ثقافتين أو ثقافات متعددة, فيحدث تبادل التأثر الظاهر والخفيّ, بالاقتباس والتقليد والتدخل والتمازج, فتغنَى كل ثقافة من الأخرى إذا اقتبست ما تحتاج إليه لا ما يُفرض عليها, وإذا أخذت ما تريده لا ما يراد لها, وتمثّلته وهضمته وأصبح جزءا من كيانها.

           وقد يكون هذا الاختلاف سببا أيضا في (الصراع) بين أهل الثقافات المختلفة. حين تستهوي القوة الغاشمة أهل الثقافة الأقوى فيرون أن ثقافتهم هي الأجدر بأن تسود غيرها, فيحاولون فرضها بوسائل متعددة على أهل ثقافة أو ثقافات أخرى - بعضها ذات تراث إنسانيّ عريض - فرضا ينتهي بتدمير كثير من مقوّمات تلك الثقافة أو الثقافات, وبذلك تُمْحى بالتدريج هوية أهلها, وتسلب شخصيتهم, حين تزعزع عقيدتهم, وتغزى لغتهم ويُنسى تراثهم فيضيع من نفوس الأجيال.

           فـ(الصراع) و(الحوار) إنما هما بين أهل (الثقافات) التي تتعدد بتعدد الأمم وتختلف باختلافها, وليس بين (الحضارات) التي هي في عصرنا (حضارة) واحدة لا تتعدد ولا تتصارع.

غزو الثقافات

           ولكن الحضارة - بالمعنى الذي شرحته - تُفرز بالضرورة ثقافتها الخاصة بها. وقد استهوت هذه الحضارة أهلها, فرأوا فيها أنها سيدة الكون, ورأوا أن بلادهم مركز الدنيا وما سواها فأطراف وحواش وهوامش. ونظروا إلى عوامل هذه الحضارة وأسبابها فوجدوها متمثلة في الأخذ بالعلم وبالعقل. فبالغوا في تقديس العلم حتى ألهوه, وذهبوا في الاعتماد على العقل مذهبا جعلوه وحده مصدر المعرفة ومقياسها, وشطّوا فيهما معا حتى عبدهما بعض علمائهم ومفكّريهم وفلاسفتهم, أو كادوا, وحتى أعلن فيلسوفهم الألماني المشهور موت الإله, وعدُّوا الإنسان صانع نفسه وتاريخه. وهكذا أصبح من خصائص هذه الثقافة (الحضارية!) أنها ثقافة فردية مادية.

           وليس القصد هنا أن نفصّل القول في هذه الثقافة, وإنما سُقنا ما سقناه لنستدلّ به على القول إن من الطبيعي أن ينشأ الخلاف بين هذه الثقافة والثقافات الأخرى التي تنطوي على بعض خصائص هذه الثقافة ولكن بمقدار, وتمتاز منها بخصائص أخرى تكبح بعض ما فيها من الشطط والغلواء, وتجعلها ثقافة وسطا متوازنة. وكان من الطبيعي أيضا أن ينشأ بين أهل تلك الثقافة وأهل الثقافات الأخرى أنواع من الصراع تحاول فيه تلك الثقافة (الحضارية) بشتى الوسائل أن تسود وتصبح وحدها هي (الثقافة) وتحاول الثقافات الأخرى أن تقاوم هذا (الغزو!) وأن تحصّن نفسها دون اختراقها. وهكذا ينشَب الصراع بين الثقافات!

           وكما تلد الحضارة ثقافتها فإن الثقافة أيضا تلد حضارتها, وربما كان هذا التوالد ثم التلازم هو الذي جعل بعض الباحثين يعدُّون (الحضارة) و(الثقافة) أمرا واحدا, ويرون أن اللفظين من الألفاظ المترادفة.

رسالة علماء الأمة

           ومعنى هذا الذي قدّمناه أنه ليس للمثقفين العرب, ولا لغيرهم من العرب ومن سواهم, دور في التواصل بين الحضارات, كما هو العنوان الذي سُقناه, وإنما لهم أثر كبير في التواصل بين الثقافات وفي التعايش بين الشعوب. وأما هذه الحضارة الواحدة السائدة اليوم فللمثقفين العرب رسالة كبرى إزاءها هي دعوة الأمة إلى الأخذ بأسباب (الحضارة الحديثة) ودخول عصر (التحضير) و(التحديث) بالرجوع إلى المنهج الفكري وأساليب البحث العلمي, واعتماد العقل, والتحرر من الخرافات والأباطيل والأوهام, والثقة بكرامة الإنسان ومنزلته وقدرته, وهي كنوز أودعها الله في نفس الإنسان وحثّه على الاستفادة منها واستعمالها. و(الحضارة الحديثة) ذات منبع ومصبّ, أما منبعها: فمصادرها وأسبابها ومناهجها, وأما مصبّها فنتائجها ومظاهرها من التقدم العلمي والتكنولوجي وما نجم عنه من المنجزات الماديّة المختلفة. وبعيد ما بين المنبع والمصب للأمة التي تريد أن تدخل العصر وتعيش فيه, ولا تكتفي بأن تبقى خلفه أو خارجه.

           وقد كثُرت كتابات المصلحين والمفكرين والأدباء في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين عن نهضة الأمة والوسائل المؤدية إليها ودور المثقفين العرب. وذهبوا في ذلك مذاهب ثلاثة: الأخذ بالحضارة الحديثة (الغربية) برمّتها ومعها ثقافتها لأنه لا سبيل إلى الفصل بينهما. أو الابتعاد عنها وطرحها جانباً والرجوع إلى الإسلام وإلى التراث واستلهامهما لإحياء ما كان من حلقة الحضارة الإسلامية. أما المذهب الثالث فيتمثل في حلّ توفيقيّ بالجمع بين المذهب الأول والثاني.

           وربما كان من المناسب أن نذكر هنا أن المذهب الأول لا يفرّق بين المنبع والمصب اللذين أشرنا إليهما, أي بين الأسباب والنتائج, ولذلك غامت الرؤية عند بعض القائلين به: فالأخذ بالنتائج وحدها كما هي, أي بمظاهر هذه الحضارة وإنجازاتها الجاهزة, يُبقي الأمة في حال تخلّف نفسي وعقليّ حين توهم نفسها بأنها دخلت في الحضارة الحديثة لمجرد أنها استعملت إنجازات هذه الحضارة ومصنوعاتها, بل لعلها تتفاخر بأنها تبني أعلى الصروح الشامخة, وتستعمل أحدث وسائل الاتصالات والمواصلات في البر والبحر والجو, وتلبس أفخر أنواع الملابس مما لم تنسج أيدي أبنائها, وسوى ذلك مما أشرنا إليه في هذه المقالة. وتظلّ الأمة أسيرة لما ينتجه غيرها: تستورده وتستهلكه, وتستهلك معه نفسها وأموالها وعقول أبنائها, وتدور حول نفسها في دائرة مُفرغة.

           وأما الذهاب إلى منبع هذه الحضارة والأخذ بأسبابها من تحكيم العقل واستعمال المنهج التجريبي وأساليب البحث العلمي وتطبيق نتائج البحوث وتطويرها, مع الأخذ بأحدث ما وصلت إليه البحوث العلمية في العالم ومناهجها وتطبيقاتها, هذا الذهاب إلى المنبع هو الذي يحوّل الأمة من متخلفة حضاريا ومستهلكة ومستوردة لمظاهر الحضارة ونتائجها إلى أمة تصنع الحضارة وتنتجها وتصدّرها وتشارك غيرها في تطويرها والدخول بها في حلقة جديدة من حلقات الحضارة العالمية.

           وليس صحيحا أن أخذ الحضارة الحديثة يوجب أخذ ثقافتها معها, على الوجه الذي وضّحناه قبل قليل. فهل ركوب الطائرات أو استعمال الإنترنت يستدعي بالضرورة التخلّي عن عقيدة المرء أو عن لغته أو عن تراثه أو عن نظرته إلى الكون والحياة وما بعدها? قد يستدعي التخلص من بعض القشور التي يُظن أنها من ثقافة الأمة وهي في الحقيقة أعراف وعادات ومظاهر شخصية واجتماعية كانت ملازمة لوسائل حضارة سابقة, وهي تتطور - بطبيعتها - مع تطور الزمن واختلاف البيئة, وتصبح بالية مع مرور الزمن, وتنشأ بدلا منها أعراف وعادات ومظاهر شخصية واجتماعية جديدة تلائم التطور النفسي والفكري والمادي والاجتماعي, ولا يكون في ذلك تخلّ عن جوهر ثقافة الأمة.

التقدم إلى الإسلام

           أما موضوع (الرجوع) إلى الإسلام والتراث واستلهامهما ليكون ذلك وحده هو أساس بناء الحضارة, فأمر يحتاج إلى وقفة تأمل ومراجعة. ولعل أجمل ما يقال في هذه المناسبة أن الإسلام سابق أمامنا متقدم علينا. والتعبير الصحيح أن يقال: (التقدم) نحو الإسلام, وليس (الرجوع) إليه لأنه ليس خلفنا حتى نرجع إليه. والإسلام الحقيقي هو دين العقل والعلم والبحث (الاجتهاد) والتجربة والإنجاز والابتكار وتطوير حياة الإنسان والمجتمع. ومن هنا كان التطابق والتلاحم واضحين بين ما ذكرناه عن معنى (منبع) الحضارة وما يحثّ عليه الإسلام. ومن هنا أيضا يلتقي المذهب الأول مع المذهب الثاني اللذين أشرنا إليهما. وبذلك لا يكون من الصواب استعمال تعبيرات مثل (تغريب العقل) حين نأخذ بما ذكرناه عن مناحي (منبع) الحضارة.

           وقد كثرت الكتابات عمّا في الإسلام من الصفات التي ذكرناها, وحسبنا هنا أن نشير إلى آية واحدة هي قوله تعالى وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. فهذه الآية الكريمة جعلت كل ما في السماوات وكل ما في الأرض ملكا للإنسان بتسخيرها له من الله عزّ وجل, وجعلها موضع تفكّر وتدبّر للإنسان دون أن يستقطع أو يستثني منها شيئا. ولماذا كان هذا التفكّر? هل هو رياضة عقلية محض يقوم بها الإنسان ويكتفي بها? أو عليه واجب أن ينقل هذا التفكّر في آيات الله إلى الإيمان به وبقدرته ثم إلى العمل والتطبيق. فيبحث فيما في السماوات وفيما في الأرض جميعا - دون استثناء - فيستغلّ ما يستطيع أن يستغله منه, ويذلّل ما يحتاج منه إلى تذليل, ويكشف أسرار مالا يزال يحتاج إلى اكتشاف, دون شرط ولا قيد. وتحقيق ذلك إنما يكون بمشيئة الله الذي أودع في العقل الإنساني قدرات لا تتفتّح ولا تُستعمل إلا في العصور والبيئات المتلاحقة التي يشاؤها سبحانه, فتتعاقب بذلك حلقات الحضارة المتصلة المتراكمة. وإن لم يفعل الإنسان ذلك يكون قد أخلّ بصريح منطوق الآية الكريمة من أن الله سخّر كل ذلك له, وإلا فما معنى التسخير? إن هذه الآية هي أصل الحضارة و(منبعها), بما تتضمنه من آفاق فكرية نظرية ومن تحقيقات وإنجازات عملية.

           وأن الأخذ بعلوم الفضاء والهندسة الوراثية ونظم المعلومات والاتصال والمنهج التجريبي والبحث العلمي, ليس تغريباً لفكرنا وإنما هو مما دعانا إليه ديننا.

           أما التواصل فإنما يكون بين الثقافات. فإن لم تتصل إحدى الثقافات بثقافات عصرها المتعددة وبروائع الأعمال الفكرية والأدبية والفنية العالمية في العصور السابقة, واكتفت باجترار نفسها ذبلت وضعفت وقصّرت عن أن تؤدي رسالتها نحو نفسها ونحو الإنسانية. فالشأن هنا هو شأن التواصل والتبادل والتفاعل وليس مجرّد اتصال من جانب واحد. ولقد كانت الثقافة العربية من الجاهلية وخلال العصور الإسلامية ثقافة منفتحة على غيرها من الثقافات, أخذت منها دون تردد ولا شعور بالنقص, وأعطتها عطاء سخيّا دون قسر ولا تحايل أو إغراء. ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.....

           كما أن موضوع انتشار اللغة العربية وحروفها وثقافتها في أجزاء كثيرة من إفريقيا وفي أقطار آسيا الوسطى وبعض بلاد المشرق الإسلامي وأوربا, لايزال يحتاج إلى مزيد من الدراسة المنصفة لبيان وسائل هذا الانتشار ولبيان مدى التأثر والتأثير بينها وبين غيرها من ثقافات تلك البلاد ولغاتها.

           ولا يجوز لمثقف عربيّ أو غير عربي أن يكتفي بما عنده وأن يدعو إلى الانغلاق الثقافي. فعند غيرنا كثير مما نحتاج إليه من روائع الآداب والفنون مما يضيف إلى فكرنا فكراً, ويفتح نفوسنا وعقولنا على آفاق رحبة وعوالم متجدّدة, فيكون - مع كنوزنا النفيسة من التراث اللغوي والنثري والشعري والفلسفي والموسيقيّ والفقهيّ - وسيلة للتواصل والتبادل بين الثقافات الإنسانية, وللتعارف والتفاهم بين الشعوب, وإشاعة روح التقارب والسلام العالمي

 

ناصر الدين الأسد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات