الرواية في الكويت من التقليدية إلى آفاق الحداثة

الرواية في الكويت من التقليدية إلى آفاق الحداثة
        

          الرواية الكويتية أصبحت على أبواب النضج وهي لاتقدم نفسها في سياق واحد ولكن تتجاذبها العديد من الأساليب الفنية والسردية.

          آلت التجربة الروائية العربية خلال قرنها الأول المنصرم إلى تسيّد الحداثي. وفي السبيل إلى ذلك كان التجريب هو العلامة الفارقة. فحتى التقليدي جرّب أن يمتصّ من الحداثي, ولقد جرّب الحداثي أن يمتص من التقليدي, وهذا ما سميته منذ عقدين: تقليدية الرواية الحديثة - الحداثية. على أن التجريب كان بخاصة سمة الحداثي, سواء بتقفّيه واستثماره للمنجز الروائي الغربي, أم بتقفّيه واستثماره للمنجز السردي التراثي, وقبل ذلك وبعده الكثير.

          ولعل السؤال عما تبدى من ذلك فيما بلغته التجربة الروائية في الكويت, أن يضيء لها فيما آلتْ إليه التجربة الروائية العربية, وأن يضيء أيضاً لهذه التجربة نفسها, وبخاصة أن السؤال هنا سيتعلق أساسا بروايات صدرت في السنوات الأخيرة.

سماء نائية .. تجربة الحداثة

          تنتمي تجربة إسماعيل فهد إسماعيل منذ البداية إلى الحداثي, حيث خوّض الكاتب في رواية تلو الرواية عبر السيرورة الحداثية للرواية العربية, ابتداء وانتهاء بمساءلة الذات أو تهشيم الزمن أو اللعب بالضمائر أو تعدد المستويات اللغوية وزوايا النظر أو تلوين السرد والمنتجة.

          ولعل صنيع إسماعيل فهد إسماعيل قد بلغ غايته في روايته (سماء نائية), إذ توسّل ضمير المخاطب (أنت) منذ السطر الأول إلى السطر الأخير, فجاءت الرواية أشبه بحوارية بين المخاطب والمتكلم, بين الأنت والأنا, فكان للرواية ساردان: أولهما صاحب ضمير المخاطب الذي رجّع في الرواية أصداء ضمير الغائب (هو), من حيث علمه المحيط وتحريكه للشخصيات, وثانيهما ضمير الأنا الذي اضطلعت به الشخصية المحورية في الرواية (المعلم) والذي رجّع في الرواية الأصداء السيرية, من حيث توسّل الاستذكار والاسترجاع. أما الناظم للعبة برمتها فقد كان إيقاع الصفعتين اللتين كال بهما حلمي شقيقه وتلميذه, واللتين تشتبك بهما صفعة الاحتلال العراقي للكويت. أما الصفعة الأولى للشقيق, فهي الأقدم, عندما كان الصافع في العشرين والمصفوع في العاشرة. وأما الصفعة الأخيرة, وهي الأحدث, فقد ناجز فيها الصافع خمسينيته لابن العاشرة أيضاً, والذي سينجلي في خاتمة الرواية ابناً لشقيق حلمي الذي نفر من أسرته وتزوج في تخفيه من فلسطينية وقد سبقت الصفعة الأخيرة صفعة الاحتلال العراقي بقليل.

          وبلمساته الدقيقة المعهودة, وبالاقتصاد اللغوي الذي اشتهرت به الكتابة الروائية - والقصصية إلى حد كبير - لإسماعيل فهد إسماعيل, يرسم في (سماء نائية) شخصية حليم المعتلة روحاً وجسداً, ونقيضها في شخصية الشقيق, وصنوها ونقيضها في شخصية الضابط العراقي الاحتياطي المعلم أيضاً, كبطل إسماعيل فهد.

          بيد أن ما أحسبه من ضغط الأيديولوجي على الفني آذى الرهافة الإنسانية المتعلقة بالموقف الدقيق بين حلمي والضابط العراقي, كما آذت المصادفة الإخبارية المتعلقة بالحرب البناء الروائي حتى عادت به إلى الزمن الخطي, ولئن كانت لعبة الاستذكار قد كسرتْ هذا الزمن فيما تقدم الحرب, وهو الغالب من الرواية, فإن ضغط الاستذكار قد تضافر مع هيمنة ضمير المخاطب في إيذاء البناء الروائي أيضاً. ولعل (سماء نائية) تندرج, فيما يتعلق منها بالحرب, في المعهود من الرواية العربية المتعلقة بالحرب. كما لعل (سماء نائية) تندرج بعامة في السلسلة الروائية التجريبية العربية التي عانت ولاتزال من ضغط الحداثي, والتي أخذ شطر منها في السنوات الأخيرة يروم ما دعوته وأتطلع إليه من المنعطف الروائي الجديد.

ظل الشمس وحضور الكاتب

          إذا كان ضمير المخاطب قد تفرد برواية (سماء نائية) فضمير المتكلم قد تفرد برواية طالب الرفاعي (ظل الشمس). غير أن الإيحاء السيري الملازم لضمير المتكلم, ينتقض في هذه الرواية, على الأقل بلعبة حضور الكاتب (طالب الرفاعي) في الرواية, وهي اللعبة التي تباطأت في الرواية العربية, منذ جرّبها غالب هلسا وكاتب هذه السطور قبل أكثر من عقدين, حتى أخذت تتواتر في السنوات الأخيرة, ليقوم اللعب الروائي - كما في رواية طالب الرفاعي - على المكشوف, أمام القارئ, ولتصدع القارئ من حين إلى حين بما ينأى به عن السيرية, وبما يسائل التخييلي والوقائعي.

          فالشاب المصري المدرس يقصد الكويت ليغرف من كنوزها الموعودة ما يكفيه حاجته. وفي الطائرة يجاوره طالب الرفاعي, ويقرأ حلمي في قصاصة للكاتب اسمه واسم معشوقته نعمة والشخصيتين اللتين سيقلبان مصيره في الكويت: المهندس رجائي ومنال, كما يقرأ حلمي في القصاصة: (ظل الشمس مشروع رواية). وسيترجّع في حلمي ما قرأ بعدما يبلوه الزمن الكويتي بالعيش في حيّ خيطان وبالبطالة وبتدمير الحلم بالكنز الموعود, سواء في ترتيبات الإقامة وشركة (بو عجاج) أم في العمل مع المهندس رجائي الذي سيهرب بالرواتب, وخلال ذلك وبعده: في تدريس منال, ومضاجعتها, ومحاكمته - أخيراً - بتهمة الاعتداء على قاصر.

          في هذه التعرية والتهتك لعيش الوافدين, إلى الكنز الكويتي الموعود, يرسم طالب الرفاعي برهافة شخصياته, ويكسّر الزمن بألمعية, فيأتي ماضي حلمي بخاصة, وأبوعجاج وأكرم شاه ومنال وسواهم, كسرة (فكسرة), عبر الزمن الحاضر لحلمي.

          وهكذا نرى علاقاته بأبيه المعارض لهجرته وبزوجته سنية وبمعشوقته نعمة وزوجها.

          وينظم هذا التكسير الإيقاع الذي تتوزعه عبارة الوالد من الماضي (لن تجني شيئا من الكويت) وهذه العبارة المتناصّ (ما الذي قد صنعت بنفسك?).

          ولعل الكاتب قد أفاد مما سبق روايته الأولى من تجربته القصصية والإشارة هنا بخاصة هي إلى مجموعته (متتاليات قصصية - 1995) والتي تستدعي لعبة إدوار الخراط الروائية - القصصية في المتتاليات, وعلى أي حال, فلعل ماتوفر لرواية (ظل الشمس) من التوازن الدقيق بين الوصف والسرد والحوار, ومن الاقتصاد اللغوي, ومن التوشية بالعامية, ومن التعمق في الشخصية, ومن النظر النقدي الجارح في تسعينيات القرن العشرين المصرية والكويتية, لعل كل ذلك جعل للرواية نسبها الحداثي بلا صخب. وحسبي أن أعدد هنا اللعب بضمير المخاطب (الإيقاع الثاني من مقاطع شتى) والغائب والمتكلم, وتداخل القصص الفرعية, والرسوم التي قدمت الأسرة المصرية (الحماة وكنتها: أم حلمي وسنية زوجته) والغبار والطوز والجوع الجنسي في كويت الأحلام وكويت الوجع ونقائض خيطان والنزهة ومشروع القرين وسوى ذلك مما يدمّر حلمي وينتهي به - وهو في الثامنة والعشرين - إلى السجن خمس عشرة سنة, فإلى أي مآل تنتهي سلسلة المنوعات التي تجابه حلمي خلف القضبان, وآخرها (ممنوع الكويت)?

زمن البوح وعين الكاميرا

          على النقيض من الروايتين السابقتين, تعلن رواية حمد الحمد (زمن البوح) تقليديتها, وبخاصة في زمنها التعاقبي, وفي هيمنة السارد بالضمير الغائب (هو).

          فهذه الرواية المبنية في فقرات معنونة, تبتدئ بتقديم جل شخصياتها في حفل عيد الميلاد العاشر لجريدة (شروق) الكويتية), وتوالي الرواية توسّل عين الكاميرا وتدخل السارد في لا وعي الشخصية, وتمعن في التقلبات العجولة وغير المقنعة للشخصية, كما جاء فيما بين تحريض عبدالهادي لوليد عبدالله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ثم تهدئته, أو في أخذ وليد بأسوب زميلته المتدربة مثله - منال مشاري بالحوار.

          ولا يخفى امتصاص التقليدي في هذه الرواية للحداثي, عبر استثمار الحوار. كما تتقد في (زمن البوح) لحظة أخرى من لحظات العيش الكويتي بعد الحرب, وحيث يترجّع سؤال رواية (سماء نائية) عن البنية البشرية التحتية. لكن السؤال المعلق في (سماء نائية) يتحدد في (زمن البوح) بلحظة بروز التيار السياسي المتلفع بالإسلام, والرطانة المتداولة بالإرهاب والإرهابيين, وهي اللحظة التي تشتبك فيها علاقات الصحفيين في (شروق), من الصحفي الكويتي إلى الصحفي العربي العامل في الصحافة الكويتية, ومن المؤهلة على الطريقة الغربية (منال) إلى المؤهل على الطريقة الإسلامية. ولقد خلصت الرواية من كل ذلك إلى تليين موقف وليد الإسلامي باتجاه العصرنة والغربنة والدمقرطة التي تنطوي عليها منال, وبالعكس, لترسل الرواية أطروحتها في المعادل العاطفي الإيجابي الذي آل إليه وليد ومنال كتعبير عن مزاوجة الإسلامية بالغربنة في مشروع زواج الصحفيين الشابين المذكورين, كما هو مألوف في التراث الروائي التقليدي.

المرأة والقطة وضمير الغائب

          مقابل الروايات الثلاث السابقة التي صدرت بين 1998 - 2000, ومن أجل تبيّن الحداثي والتقليدي في التجربة الروائية في الكويت, تأتي هذه العودة إلى رواية ليلى العثمان (المرأة والقطة) والصادرة عام 1985, وهي التي توسّلت ضمير الغائب وضمير المخاطب في الزمن الروائي: زمن التجربة أو الحاضر, بينما توسلت ضمير المتكلم في الماضي, وبالطبع الاستذكار والاسترجاع اللذين رأينا طغيانهما في (سماء نائية). لقد توشّى الحوار في رواية (المرأة والقطة) بالعامية - وكما في روايتي إسماعيل والرفاعي - بأقل مما كان في رواية (زمن البوح). ولئن كان ذلك في رواية حمد الحمد إشارة إلى امتصاص التقليدي للحداثي الذي يهجّن اللغة الروائية, فهو في رواية ليلى العثمان يشي بالعكس, شأنه شأن الوصف.

          وكما ينتأ النفسي في رواية إسماعيل, ينتأ في رواية العثمان, ويتحدد فيها بما بين العمة وزوجة أخيها كما يتحدد في رواية الرفاعي فيما بين الحماة والكنة. فسالم في رواية (المرأة والقطة) معتل بعقدة خنق عمته للقطة دانة, وبسطوة عمته على أبيه حد تفريقه عن أم سالم. وهذه العقدة تبلغ بسالم حد العجز عن التواصل الجنسي مع زوجته حصة, إلى أن تحمل هذه, وتتلبس الرواية بالبوليسية: ممن حملت حصة? ومن الذي قتلها جراء شبهة الحمل سفاحاً? هل هو سالم الذي يواجه حبل المشنقة بتهمة القتل? أم هو الأب الذي يُوسوس لسالم أنه من حملت حصة منه? أم القاتل هي العمة?

          يتفرد ضمير المتكلم بتذكّر سالم للقطة دانة, ولكره عمته لأمه التي أحبها أبوه, لكن العمة فرضت عليه تطليقها, كمن سبقتها, وتتناسل القصص هنا, لتقدم تعلق الطفل سالم بالمكان الذي واقع فيه الهر القطة دانة, أو لتقدم قتل العمة لدانة ومحاولة سالم إنقاذها. وبعد ست صفحات من العودة إلى ضمير الغائب الذي يرصد حال سالم في المستشفى بعد اتهامه بقتل زوجته وانهياره النفسي, يعود ضمير المتكلم والاستذكار في شطر كبير آخر من الرواية, ليرسم زواج سالم من حصة, وحيث ينتأ استبطان النظر الذكوري للجنس فيما ترسم الكاتبة: حصة قلقة محصنة وسالم هو الفارس, وحصة هي الأشرعة والريح وسالم هو البحار, وجسد حصة هو الأرض وسالم هو الفأس.

          تنتأ البوليسية فيما يبدو من تدبير العمة لقتل حصة الحامل سفاحاً بحسبانها وحسبان الأب الخنوع, وهنا ينازع الضمير الغائب ضمير المتكلم, فينضاف عضد آخر للقول بتقليدية الرواية الحديثة - الحداثية في (المرأة والقطة). فلئن كان ضمير الغائب سيد الضمائر, بل حتى إن كان - بحسب بارت - هو الرواية نفسها, وهو زمنها ومحفز السرد فيها, ومن دونه يعتور الخور الرواية, فإن توسّل هذه الرواية له - وبتمثيليته مقابل شهادة ضمير المتكلم - وكذلك توسله في (زمن البوح) يعود بنا إلى بداية لعبة الضمائر التي مضت فيها التجربة الروائية العربية أبعد فأبعد, حتى بلغت ما رأينا من أحادية المخاطب في (سماء نائية).

          من المعلوم أن استخدام ضميري المتكلم والمخاطب قد جاء في سياق تطور السردانية منذ بروست وجيد وكافكا وهمنغواي. وفي تلك الآونة من القرن العشرين - إبان الحرب العالمية الأولى - كانت الرواية العربية بالكاد تعلن بداياتها. وها نحن, وبعدما دار القرن دورته, وبعدما كان للرواية العربية ما كان من اللعب المقلد والمجتهد والمستخذي والمبدع, نرى بعض ما بلغنا, عبر ما يخص الشطر الكويتي منها, التقليدي والحداثي, ولئن كانت العينة فيما تقدم محدودة, فلعل قولاً آخر سيلي بالنظر إلى نصوص أخرى مما أبدعه آخرون, أو بعض أصحاب العينة أيضاً

 

نبيل سليمان   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




إسماعيل فهد إسماعيل





 





طالب الرفاعي





 





حمد الحمد





 





ليلى العثمان